Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 34, Ayat: 3-9)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله : { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا ٱلسَّاعَةُ قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ } . قال بعضهم : إنهم أقسموا باللات والعزى أن لا بعث ولا حياة بعد الموت ؛ فأمر الله نبيه أن يقسم بالله الواحد على بعث وقيامة بقوله : { قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ } . وجائز أن يكون على غير هذا ، وهو ما قال في آية أخرى ؛ حيث قال : { وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ ٱللَّهُ مَن يَمُوتُ بَلَىٰ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً } [ النحل : 38 ] هم أقسموا بالله : إنه لا يبعث من يموت ؛ فأمر رسوله في هذه الآية أن يقسم بالله - الذي أقسموا هم : إنه يبعث ، وهو قوله : { قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ } ، وكأن قسمه بما أقسم عندهم أصدق من قسمهم ؛ لأنهم لم يأخذوا عليه كذباً قط ، ولا اتهموه في شيء ؛ يدل على ذلك ما أخبر الله عنهم ؛ حيث قال : { قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ ٱلَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَـٰكِنَّ ٱلظَّٰلِمِينَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ يَجْحَدُونَ } [ الأنعام : 33 ] أخبر أنهم لا يكذبونك في مقالتك ؛ ولكن همتهم الجحود بالآيات والإنكار لها ؛ فيكون قسمه مقابل قسم أولئك في إنكارهم البعث ؛ ليعلموا كذب أنفسهم في قسمهم - بقسم رسول الله بما ذكرنا ، والله أعلم . وقوله : { عَالِمِ ٱلْغَيْبِ } ، بالخفض ، وقد قرئ { عالم الغيب } : بالرفع ، و { عَلاَّمُ ٱلْغُيُوبِ } : فمن خفضه ، جعله صفة ونعتاً لما تقدم من قوله : { قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ ٱلْغَيْبِ } . ومن رفعه ، يجعله على الابتداء ، ويجعل الكلام تامّاً بقوله : { وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ } ، ثم استأنف فقال : { عَالِمِ ٱلْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ } . ثم قوله : { لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ } . قد قرئ برفع الزاي ، وبخفضها : { لاَ يَعْزُبُ } ، وكلاهما لغتان ، والعازب في كلام العرب : الغائب . وقال بعضهم : { لاَ يَعْزُبُ } ، أي : لا يبعد ، وهما واحد . وقوله : { لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَلاَ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ } . وقال في الأولى { يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي ٱلأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا } : جائز أن تكون هذه الآية في جواهر الأشياء وأجناسها المختلفة ؛ لأنه أخبر عن علمه بما يلج في الأرض وما يخرج منها ، وما يصعد فيها وما ينزل ، وذلك علم جواهر الأشياء . وقوله : { لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ … } إلى آخر ما ذكر : في الأفعال والأعمال ، يخبر أنه لا يخفى عليه شيء ، ولا يغيب عنه شيء من أفعالهم وأعمالهم ؛ ليكونوا أبداً على حذر ؛ ألا ترى أنه ذكر على أثر ذلك الجزاء ؛ حيث قال : { لِّيَجْزِيَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } . أو أن يكونا واحداً ، إلا أنه ذكر في الآية الأولى الداخل في الأرض والخارج منها ، وما ينزل من السماء وما يعرج فيها ، ولم يذكر في ذلك الساكن فيهما والمقيم وما يكون فيهما ؛ فذكر ذلك في قوله : { لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَلاَ فِي ٱلأَرْضِ } يخبر عن إحاطة علمه بالأشياء كلها : من الساكنة ، والمقيمة ، والمتحركة ، والمنقلبة فيهما ، والله أعلم . وقوله : { لِّيَجْزِيَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } . المغفرة : هي التغطية والستر ، ثم يكون الستر بوجهين : أحدهما : يستر على أعين الزلات أنفسها ألا تذكر . والثاني : يستر بالجزاء الحسن إذا لم يجز للزلات ، هذا للمؤمنين : يستر عليهم الزلات مرة بترك ذكرها ، ومرة بترك الجزاء عليها . وأما الكافر فإنه إذا جزي على سيئة فقد أُظْهِرَ وفَشَا ، ولم يستر عليه . أو أن يكون قوله : { أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ } ، أي : ستر وهو أنه إذا أدخلهم الجنة ، أنساهم زلاتهم ؛ حتى لا يذكروا أبدا ؛ لأن ذكر زلاتهم لربهم ينغص عليهم لذاتهم وتنعمهم . وقوله : { وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } ، قيل : الكريم : الحسن . وجائز أن يكون سماه : كريماً ؛ لأن من ناله كرم وشرف ، كقوله : { أُوْلَـٰئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ } [ المعارج : 35 ] والله أعلم . وقوله : { وَٱلَّذِينَ سَعَوْا فِيۤ آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ } . يحتمل حقيقة سعيهم في آياته بما ذكر ؛ كقوله : { وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ } [ يوسف : 105 ] : ذكر مرورهم عليها والإعراض عنها ؛ فهو سعي . وجائز على التمثيل ، أي : يعملون عمل من أعجز الآيات ؛ للجحود لها والتمرد والعناد ، والمعجز : هو السابق ، { وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي ٱلأَرْضِ } [ الشورى : 31 ] ، أي : سابقين فائتين ، أي : لا تعجزونني ، ولا تفوتون عني . { أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ } . الرجز : العذاب الأليم ، أي : مؤلم ، وذلك جائز في اللغة . وقال أبو عوسجة : المعاجز : الهارب ؛ يهرب ؛ لكي يعجز . وقوله : { وَيَرَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ ٱلَّذِيۤ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ ٱلْحَقَّ } . قال بعضهم : الذين أوتوا العلم هم المؤمنون : مؤمنو أهل الكتاب الذين أوتوا العلم على التوراة والإنجيل وغيرهما ؛ يقول - والله أعلم - يعلم الذين أوتوا منافع تلك الكتب أن ما أنزل إليك من ربك هو الحق ، بأجمعهم جميعاً الذين أوتوا العلم بتلك الكتب ؛ لما يجدون نعته وصفته فيها ، يعلمون أنه هو الحق من ربّك ، لكن بعضهم عاندوا ولم يؤمنوا به ، وبعضهم قد آمنوا به . وقال بعضهم : قوله : { وَيَرَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ } : هم أصحاب محمد - صلوت الله عليه - أي : الذين أوتوا منافع ما أنزل إليك ، هم يعلمون أنه هو الحق من ربك ، فأما من لم يؤت منافع العلم فلا يعلم ذلك . وفي حرف ابن مسعود { ويعلم الذين أوتوا الحكمة من قبل الذي أنزل إليك من ربّك هو الحق } ، يعني : القرآن . وقوله : { وَيَهْدِيۤ إِلَىٰ صِرَاطِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَمِيدِ } . قوله : { وَيَهْدِيۤ } يحتمل : يدعو ، ويحتمل { وَيَهْدِيۤ } ، أي : يبين لهم { صِرَاطِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَمِيدِ } . وقوله : { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ } . كان بعضهم يقول لبعض : { هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } . قوله : { إِذَا مُزِّقْتُمْ } يحتمل أن قالوا : النبي ؛ يقول : إذا تفرقت جوارحكم وأعضاؤكم تكونوا خلقاً جديداً ، فإن كان على هذا فهو - والله أعلم - كان من أهل الدهر ذلك القول ؛ لأنهم يقولون بقدم العالم ، ولا يقولون بفنائه ؛ لأن أهل مكة كانوا فريقين : فرقة تذهب مذهب أهل الدهر ، وفرقة يقولون بحدث العالم ، ويقرون بفنائه ، لكنهم ينكرون إحياءه بعد الفناء ، فإن كان ذلك من هؤلاء ؛ فيكون قوله : { يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ } ، أي : إذا ذهبت أجسادكم ، وفنيت اللحوم والعظام ، وكنتم رماداً ورفاتا { إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } ، أي : تكونون خلقا جديدا ، يخرج ذلك منهم على أحد وجهين : إما على استبعاد ذلك في أوهامهم وعقولهم ، أي : لا يكون ذلك . أو على التعجب : أن كيف يكون ذلك ؟ ! فقال عند ذلك : { أَفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً أَم بِهِ جِنَّةٌ } : يقولون : أفترى محمد على الله كذبا أم به جنون ؟ إذ لم نسمع ذلك من أحد من قبل ، ولا رأينا ذلك أنه كان ما ذكر ، فرد الله ذلك عليهم وقال : { بَلِ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ } ، أي : بالبعث والإحياء بعد الموت - هم المفترون على الله ، هم { فِي ٱلْعَذَابِ وَٱلضَّلاَلِ ٱلْبَعِيدِ } . جزاء قولهم : أم به جنون ؟ يقول : بل هم في ضلال بعيد ، الضلال البعيد : كأنه هو الذي لا يرجع إلى الهدى أبداً ؛ فتكون الآية في قوم : علم الله أنهم يختمون على الضلال ، ولا يؤمنون أبداً ؛ فيكون في ذلك دلالة إثبات الرسالة . وقوله : { أَفَلَمْ يَرَوْاْ إِلَىٰ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ } : قد ذكرنا قوله : { أَفَلَمْ يَرَوْاْ } ؛ { أَلَمْ تَرَوْاْ } [ لقمان : 20 ] ، ونحوه أنه يخرج على وجهين : أحدهما : قد رأوا على الخبر . والثاني : على الأمر : أن انظروا { إِلَىٰ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ } . ثم يقول بعضهم لبعض : حيثما قدم الإنسان رأى بين يديه من السماء مثل السماء [ التي ] يرى خلفه ، وكذلك الأرض . وقتادة يقول : لينظروا كيف أحاطت بهم السماء والأرض ، وهما واحد . { إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ ٱلأَرْضَ } ، كما خسفنا بمن كان قبلهم ، { أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ } . أي : عذاباً من السماء ؛ كما أنزل على من كان قبلهم بالتكذيب والعناد ، يذكر هذا على أثر قولهم : { أَفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً أَم بِهِ جِنَّةٌ } ، أي : لو نظروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض ؛ لعرفوا أنه رسول الله ، وأنه صادق ، وأن ما يقول : إنه بعث بعد الموت ، وإن العذاب ينزل - يقوله لا عن جنون ، ولكن عن علم وعقل ومعرفة ؛ لأن من قدر على إنشاء السماء على ما أنشأ من سعتها وغلظها وشدتها ، وكذلك الأرض ، قدر على البعث وخسف من يشاء أن يخسف ؛ وإسقاط السماء على من يشاء أن يسقط . أو يقول : لو نظروا ، لعرفوا أنه لم ينشئ ما ذكر من السماء والأرض عبثاً باطلا ؛ ولكن أنشأهما على الحكمة ، وإنما يصير إنشاؤهما حكمة بالبعث والإحياء بعد الموت ومصيرهم إليه ، وأما للفناء خاصة فلا يكون حكمة ، والله أعلم ما أراد بذلك . وقوله : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ } . المنيب ، قيل : هو المطيع لله ، وقيل : هو المقبل على أمر الله . والمنيب كأنه هو المؤمن ؛ لأنه هو المصدق بالآيات ، فإذا كان المؤمن هو المصدق بالآيات ، فيكون هو المنتفع بها ، فيكون الآية [ له ] . وأما المكذب بها فلا ينتفع بها ؛ فلا يكون الآية له في الحقيقة .