Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 36, Ayat: 20-32)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله : { وَجَآءَ مِنْ أَقْصَا ٱلْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ قَالَ يٰقَوْمِ ٱتَّبِعُواْ ٱلْمُرْسَلِينَ } . قال عامة أهل التأويل : إن هذا الرجل يسمّى : حبيب النجار ، وهو من بني إسرائيل ، كان في غار يعبد الله ، فلما سمع بالرسل ، نزل وجاء ، فقال ذلك ما قال : لكن لا ندري من كان ؟ وليس لنا إلى [ معرفة ] اسمه حاجة . ثم يحتمل قوله : { مِنْ أَقْصَا ٱلْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ } رغبة في الرسل وفي دينهم فدعاهم إلى اتباع الرسل . أو أن يكون كان مؤمناً مسلماً مختفياً ، فلما بلغه خبر إهلاك الرسل ، جاء يسعى ؛ إشفاقاً عليهم ؛ لئلا يهلكوا - أعني : الرسل - فقال : { يٰقَوْمِ ٱتَّبِعُواْ ٱلْمُرْسَلِينَ * ٱتَّبِعُواْ مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُّهْتَدُونَ } أي : اتبعوا الهدى ، والهدى مما يجب أن يتبع ، ولا يسألكم على اتباع الهدى أجراً ؛ فيمنعكم الأجر عن اتباع الهدى . أو أن يقول : اتبعوا المرسلين ، واعلموا أنهم مهتدون حيث لا يسألونكم أجراً وهم مهتدون في الدنيا ولا العز ؛ إذ كل من لا يسأل هذا فهو مهتد ، وكل مهتد متبع ، وهذا يدل أن طلب الأجر في ذلك مما يجعل صاحبه معذوراً في ترك الاتباع ؛ وكذلك قوله : { أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ } [ الطور : 40 ] ، أي : لا يسألكم أجراً حتى يمنعكم ثقل الأجر عن إجابته واتباعه ، وهذا ينقض ويبطل قول من يبيح أخذ الأجر على تعليم القرآن والعلم ؛ لأنه إذا كان له ألا يعلم إلا بالأجر كان له ألا يعلم بكل أجر ، ففي ذلك إبطال الدّين وجعل الرخصة لهم في ترك ذلك ، وذلك سمج قبيح ، والله أعلم . وقوله : { وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ ٱلَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } . يخرج على وجهين : أحدهما : على الاحتجاج عليهم بعد سؤال كان من أولئك له في الرجوع إلى عبادة من يعبدونه دون الله وترك عبادة الله ، فقال : إنكم تعبدون هذه الأصنام رجاء أن يقربكم ذلك إلى الله زلفى ، وما لي [ لا ] أعبد الذي ترجون أنتم الزلفى والقربة منه ؟ ! والثاني : على التذكير والتنبيه لهم : أنتم تعلمون أن الذي فطرنا وخلقنا هو المستحق للعبادة لا من لم يفطر ولم يخلق ، ثم تعلمون أن الله هو فطرنا وخلقنا [ لا ] الأصنام التي تعبدونها ، وما لي لا أعبد الذي فطرنا وأترك الذي لم يفطرنا ؟ ! والله أعلم . وقوله : { أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ ٱلرَّحْمَـٰنُ بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونَ } . يقول : أأتخذ من دون الله معبودا لو أراد الله بي ضرّاً لم يملك ذلك المعبود دفع ذلك عني ، ولو نزل بي شدة أو بلاء منه ، لم يقدر استنقاذي منه ، ولو طلبت منه جرّ نفع لم يقدر على جلبه إلىّ ، وأترك عبادة من أعلم أن ذلك كله منه ، وهو المالك لذلك كله : من جرّ نفع ، ودفع ضر وبلاء ، وفي الحكمة : العبادة لمن يملك ذلك كله لا لمن لا يملك ، وبالله التوفيق . وقوله : { إِنِّيۤ إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } . أي : لو فعلت ذلك فإذن كنت في ضلال مبين ، فذكر أنه لما قال لهم ذلك أمر بقتله ، فعند ذلك قال : { إِنِّيۤ آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَٱسْمَعُونِ } يحتمل قوله : { فَٱسْمَعُونِ } أي : أجيبوني في قولي : { ٱتَّبِعُواْ ٱلْمُرْسَلِينَ … } الآية . وقال بعضهم : { فَٱسْمَعُونِ } ، أي : اشهدوا لي . ويحتمل قوله : { فَٱسْمَعُونِ } حقيقة السماع ، أي : اسمعوا قولي وإيماني ، لا يمنعني عنه ما تخوفونني ، والله أعلم . وقوله : { قِيلَ ٱدْخُلِ ٱلْجَنَّةَ } . قال بعضهم : أي : أوجبت له الجنة [ و ] ما ذكر للشهداء وأُري الثواب ؛ فقال عند ذلك : { يٰلَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي … } الآية . ويحتمل دخول الجنة ما ذكر للشهداء : { بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ } الآية [ آل عمران : 169 - 170 ] . أو أن يكون قوله : { قِيلَ ٱدْخُلِ ٱلْجَنَّةَ } أن يقال له في الآخرة كقوله لعيسى بن مريم : { أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِي } [ المائدة : 116 ] ، وإنما هو أن يقال له يومئذ ؛ فعلى ذلك يحتمل الأول . وقوله : { يٰلَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ ٱلْمُكْرَمِينَ } . قيل : إنه نصحهم حيّاً وميتاً ، ولم يترك نصحهم لمكان ما عملوا وفعلوا به من السوء وأنواع التعذيب ، ولكن تمنى أن ليت قومي أن يكونوا يعلمون ما أعطي هو بالإيمان بربه والتصديق برسله ؛ ليعطوا مثل ما أعطي هو ، وهكذا الواجب على كل مؤمن ألا يترك النصيحة لجملة المؤمنين ، وإنْ لحقه منهم أذى أو سوء . وقال قتادة : ولا يلقى المؤمن إلا ناصحاً ، ولا يلقى غاشّاً ؛ لما عاين ما عاين من كرامة الله ، قال : { يٰلَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ } تمنّي والله أن يعلم قومه ذلك ؛ ليعلموا أن أهل الإيمان ليسوا بأهل غش ولا نذالة لعباده . وقال : قيل لروحه : ادخل الجنة ، فتمنى روحه أن يعلموا إلى ما صار هو ، ليؤمنوا بالرسل ولا يكذبوهم . وقوله : { وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَىٰ قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِن جُندٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ } . أي : من بعد قتل ذلك الرجل { مِن جُندٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ } : من الملائكة ، أي : لم ننزل على قومه في هلاكهم بعد صنيعهم بمكانه وإهلاكهم إياه - جندا من السماء ، ولكن أهلكوا بصيحة واحدة ، أي : لم نفعل بهم كما يفعل ملوك الأرض إذا قتل رسلهم وأهلك أولياؤهم ، يبعثون بجنود في اسئصال من فعل ذلك بهم ، ولكن أهلكهم بصيحة واحدة . ثم يحتمل قوله : { إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً } ، أي : قدر صيحة واحدة ، أي : أهلكوا بقدر صيحة واحدة في سرعتها . ويحتمل الإهلاك بالصيحة ، أي : أهلكوا بالصيحة ، والله أعلم . وقوله : { فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ } . قيل : موتى مثل النار إذا خمدت وطفئت ، لا يسمع لها صوت . وقوله : { يٰحَسْرَةً عَلَى ٱلْعِبَادِ } . في تركهم الإيمان بالله وتكذيبهم الرسل واستهزائهم بهم ، والحسرة : قال بعض أهل الأدب : هي الغاية من الندامة ، إذا انتهت الندامة غايتها يقال : حسرة . وقال بعضهم : الحسرة : الحزن والتحزن والتندم ؛ وهو واحد . ثم قال بعضهم في قوله : { يٰحَسْرَةً عَلَى ٱلْعِبَادِ } : أي : يا حسرة الرسل على ذلك المؤمن المقتول على الإيمان بهم . وقال بعضهم : يا حسرة أولئك الكفرة على أنفسهم إذا عاينوا العذاب على ما كان منهم من الاستهزاء على الرسل ؛ كقوله : { يٰحَسْرَتَنَا عَلَىٰ مَا فَرَّطْنَا فِيهَا } [ الأنعام : 31 ] ، وقوله : { يٰحَسْرَتَا عَلَىٰ مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ ٱللَّهِ } [ الزمر : 56 ] ، والله أعلم . وقوله : { أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ ٱلْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ } . فإن قيل : كيف احتج عليهم بالرجوع إليهم وهم كانوا ينكرون البعث والرجوع بعد الموت ؟ ! فهو يخرج على وجوه : أحدها : { أَلَمْ يَرَوْاْ } أي : قد رأى أهل مكة هلاكهم في الدنيا وأنهم إليهم لا يرجعون أحياء ، فيخبرونهم أنهم بم أهلكوا في هذه الدنيا ؟ وبماذا عذبوا فيها ؟ فهلا يعتبرون وينظرون أنهم إنما أهلكوا بتكذيب الرسل فيرتدعوا عن ذلك . و { وَإِن كُلٌّ } يعني الأمم كلها ، يقول - والله أعلم - : وما كل إلا جميع لدينا محضرون في الآخرة . أو يقول : { أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ } بالتكذيب للرسل من القرون أنهم إليهم لا يرجعون أبداً حتى يوم القيامة ، وهما واحد . أو أن يكون ذلك يخرج على إبطال قول أهل التناسخ حيث قالوا : إن الأرواح إذا خرجت من أبدان قوم دخلت في أخرى ، فيقول - والله أعلم - ردّاً عليهم : { أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ ٱلْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ } ؛ إذ لم ير روحاً ، أخبر أنه خرج من جسد هذا ودخل في آخر . أو أن يكون ذلك يخرج على نقض قول قوم وهو ما ذكر عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه سئل فقيل : إن ناساً يقولون : إن عليّا مبعوث قبل يوم القيامة ، ثم قال : " بئس القوم نحن إذا كنا نكحنا نساءهم وقسمنا ميراثهم ، ثم تلا : { أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ ٱلْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ } " . أو أن يكون على إيجاب البعث أن من كذب الرسل ومن صدقهم ومن عمل ما يحمد عليه وما يذم ، قد استووا جميعاً في هذه الدنيا ، فلا بد من دار أخرى يميز بينهما ، بين المصدّق وبين المكذب ، وبين المحمود والمذموم ، يؤيد ذلك قوله : { وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ } ، وقوله : { لَّدَيْنَا } و { عِندَنَا } ونحوه من الظروف خصها بذلك الاسم وإن كانوا في جميع الأوقات كذلك ؛ لما ذكرنا أن المقصود من إنشاء هذه تلك ومن هذا العالم الفاني ذلك العالم الباقي ؛ إذ لو لم يكن تلك ولا ذلك العالم الباقي ، لم يكن إنشاء هذه حكمة ؛ لأنه يحصل الإنشاء والخلق على الإفناء خاصة وإحداث الشيء للإفناء خاصة لا لعاقبة تقصد عبث باطل .