Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 37, Ayat: 11-26)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - عز وجل - : { فَٱسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَم مَّنْ خَلَقْنَآ } . قيل : هي السماوات والأرض والجبال ، وقيل : الملائكة ، وأكثرهم قالوا : قوله - عز وجل - : { أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَم مَّنْ خَلَقْنَآ } ، أي : السماوات والأرض ؛ كقوله - عز وجل - : { لَخَلْقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ ٱلنَّاسِ … } الآية [ غافر : 57 ] ، يقول - والله أعلم - : سلهم أن خلقهم وإعادتهم أشدّ وأكبر وأعظم من خلق السماوات والأرض ؟ وإذا أقررتم أنتم بقدرته على خلق السماوات والأرض كيف أنكرتم قدرته على إعادتكم بعد ما متم ، وكنتم تراباً ورفاتاً ؟ ! والله أعلم . وقوله : { فَٱسْتَفْتِهِمْ } و { سَلْهُمْ } [ القلم : 40 ] ونحو ذلك مما أمر الله - عز وجل - رسوله أن يسألهم ويستفتيهم يخرج من الله - عز وجل - على وجوه : أحدها : على التقرير عندهم والتنبيه لهم . أو على التعيير لهم والتوبيخ . أو على التعليم حجة الحجاج والمناظرة فيما بينهم وبين خصومهم ، وهكذا كل سؤال واستفتاء كان من خبير عليم لمن دونه يخرج على هذه الوجوه ، وكل سؤال واستفتاء كان من الجهّال لخبير عليم يخرج على استرشاد وطلب الصواب . وقوله : { فَٱسْتَفْتِهِمْ } و { سَلْهُمْ } [ القلم : 40 ] { وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ … } الآية [ الزخرف : 45 ] ، و { سَلْ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ } [ البقرة : 211 ] ، و { قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ } [ الإخلاص : 1 ] ، و { قُلْ … } كذا - هذا كله يخرج على التقرير والتنبيه ، وعلى تعليم الكل حجة الحجاج والمناظرة لا على الأمر ؛ لأنه لو كان [ على ] الأمر ، لكان لا يقول ذلك المأمور بالتبليغ : سل ، ولا قل ، ولا شيء من ذلك ، ولكن يبلغ إليه رسالته وأمره أنه يقول لكم : أن افعلوا كذا ولا تفعلوا ؛ فدل أن ذلك الأمر للكل في أمر أنفسهم : أن قولوا لهم ، وأن افعلوا بهم كذا ، والله أعلم . وقوله : { فَٱسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً … } الآية . أمره أن يستفتيهم ، ولم يذكر أنهم ما أفتوه ؟ ولا أجابوه أو لا ؟ ولا قال لهم : إنهم لو أجابوك وأفتوك بكذا فقل لهم كذا أو أجبهم بكذا ؛ فجائز أن يكون الجواب ما ذكرنا : أنكم لو لم تشاهدوا خلق ما ذكر من السماوات والأرض وغيرها سوى خلق أنفسكم ثم شاهدتم خلقنا أعني ما ذكرنا من السماوات والأرض والجبال وغيرها - هل تنكرون قدرته على خلق ما شهدتم وعاينتم : أنه لم يخلقها إلا هو ، كيف أنكرتم قدرته على إعادتكم وبعثكم ؟ ! وقوله - عز وجل - : { إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ } . فذكر - والله أعلم - ضعفهم وشدة ما خلق من سواهم أنكم تعلمون ضعف أنفسكم وعجزها ، وشدة من سواكم وقوتها وصلابتها ، ثم إنها مع شدتها وقوتها وصلابتها أخضع لله وأطوع منكم نحو ما ذكر من طاعتها له وخضوعها ؛ حيث قال : - عز وجل - : { ٱئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } [ فصلت : 11 ] ، وقوله - عز وجل - : { لَوْ أَنزَلْنَا هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ ٱللَّهِ } [ الحشر : 21 ] ونحو ذلك مما يكثر ، والله أعلم . أو أن يذكر لقوله - عز وجل - : { إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ } بدء خلقهم وأصله الذي خلقوا هم منه ، إنكم إنما عرفتم ابتداء خلقكم وأصلكم الذي منه خلقتم أنه تراب أو طين بإخبار الرسل ، ويقول لهم : وأنتم يا أهل مكة ممن لا يؤمنون بالرسل ، فكيف صدقتم الرسل بما أخبروا من أصلهم وبدء خلقكم ، ولم تصدقوهم بما يخبرونكم من إعادتكم وبعثكم بعد موتكم ؟ ! فإذا صدقتموهم في ذلك لزمكم التصديق لهم في كل ما يخبرون ويقولون ، والله أعلم . أو يقول : إنه أنشأ من تلك النفس الواحدة التي خلقها من تراب من الخلق ما لو تركهم جميعاً لم يفنهم ولم يمتهم ، لامتلأت الدنيا منها ، فمن قدر على إنشاء ما تمتلئ الدنيا منه من نفس واحدة لا يحتمل أن يعجزه شيء من البعث والإعادة وغير ذلك ، والله أعلم . أو أن يقول في قوله - عز وجل - : { إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ } ، أي : قد أنشأ من تلك النفس ومن ذلك الأصل قرناً وقرنا بعد قرن بعد إفناء كل قرن أنشأ قرناً آخر ؛ فلا يحتمل أن يكون المقصود من إنشائهم الإنشاء ثم الإفناء والنقض ، خاصة لا عاقبة تقصد بالإنشاء والإفناء ؛ إذ في الشاهد من كان مقصوده في البناء الفناء والنقض خاصة كان غير حكيم ، فإذا عرفتم الله - عز وجل - أنه حكيم ؛ فلا يحتمل أن يكون مراده من إنشائكم وإفنائكم ذلك خاصة لا غير وذلك مزيل الحكمة ، ويوجب السفه ، تعالى الله عن ذلك وجميع ما يصفه الملاحدة علوّاً كبيراً . أو أن يقول : إنكم عرفتم أنه إنما أنشأكم من تلك النفس التي أنشأها من تراب أو طين على اتفاق منكم ، فإذا متم وفنيتم صرتم تراباً أو طيناً ، فكيف أنكرتم إعادته إياكم من تراب أو طين ، وقد أقررتم أن أصلكم تراب أو طين - والله أعلم - على الوجوه التي ذكرنا يجوز أن يخرج . وقوله - عز وجل - : { بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ } . بالنصب يحتمل وجوهاً : أحدها : عجبت منهم إنكارهم ما أنكروا بعد كثرة قيام الآيات والحجج عليهم في ذلك وهم ينكرون ويسخرون . أو يقول : عجبت ويسخرون ؛ لما أنك بزعمهم لعظيم ما ينزل بهم من العذاب والشدائد وما يستقبلهم من الأمور المهمة وهم يسخرون ، والله أعلم . أو يقول : بل عجبت لما تدعوهم أنت إلى ما به نجاتهم وفلاحهم وهم يسخرون ، ونحو ذلك يحتمل ، والله أعلم بما كان يعجِّبه . وفي بعض الحروف : { بل عجبتُ } بالرفع ، وكذلك ذكر عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه كان يقرؤه بالرفع : { بل عجبتُ } فإن ثبت ذلك وصح إضافة العجب إلى الله فهو في الشاهد وإن كان لظهور عظيم مما قالوا خفيّاً عليهم مستتراً ، عند ذلك يقع لهم العجبُ فهو في الله عز وجل ، وإن كان لا يحتمل أن يخفى عليه شيء ، فذلك لعظيم ما كان منهم من الإنكار من قدرته على الإنشاء والجحود في ذلك ؛ فيكون ما ذكر من حرف العجب منه كناية عن الإنكار والدفع لقولهم ، وذلك كما أضاف الامتحان إلى نفسه وإن كان في الشاهد لا يستعمل إلا في استظهار ما خفي عليهم واستتر منهم ، فهو من الله يخرج على الأمر والنهي - أعني الامتحان - وإن كان في الشاهد بين الخلق لا يكون إلا لما ذكرنا ، فعلى ذلك جائز إضافة العجب إلى الله على إرادة الإنكار منه عليهم والدفع لقولهم ، والله أعلم . ومن الناس من أنكر هذه القراءة وقال : لا يجوز إضافة التعجب إلى الله - عز وجل - لما هو لم يزل عالماً بما كان ويكون ، وهو في الشاهد إنما يكون لظهور عظيم من الأمر قد جهلوه ، لكن هذا وإن كان في الخلق ما ذكر فهو من الله على غير ذلك ، على ما ذكرنا من إضافة الامتحان إليه والابتلاء وإن كان بين الخلق لما ذكرنا ، وقد ظهرت إضافته إليه بقوله : { وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ } [ الرعد : 5 ] وهو يخرج على الإنكار عليهم والرد على تعظيم إنكار ما قالوا وأنكروا ، والله أعلم . ومن الناس من قال في قوله عز وجل : { بَلْ عَجِبْتَ } فيما أضافه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي عجبت من هذا القرآن حين أعطاك إياه ويسخر منه أولئك الكفرة . ويحتمل معنى [ آخر ] ، وهو أن يقال : إن قوله عز وجل : { بَلْ عَجِبْتَ } أي : جعلت ما أنزلت عليك من القرآن والوحي أمراً عجباً ، أو أن يقال : كان إنكارهم رسالتك وتكذيبهم الآيات أمراً عجباً وهم يسخرون ، ونحوه ، والله أعلم . وقوله عز وجل : { وَإِذَا ذُكِّرُواْ لاَ يَذْكُرُونَ } . ابن عباس يقول : وإذا وُعِظوا لا يتعظون ، والموعظة والتذكير واحد . وقتادة يقول : { وَإِذَا ذُكِّرُواْ لاَ يَذْكُرُونَ } أي : [ لا ] ينتفعون بالموعظة على ما ذكرنا في قوله : { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ } [ البقرة : 18 ] أي : لا ينتفعون بتلك الحواس ، وإن كانت لهم تلك ، كمن لا حاسة له . فعلى ذلك قول قتادة . وجائز أن يكون على مرادفة التذكير ما نسوا من الآيات والحجج ، يقول : إنهم وإن ذكروا ما نسوا وتركوا وغفلوا عنه لا يتذكرون ، والله أعلم . وقوله عز وجل : { وَإِذَا رَأَوْاْ آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ } هذه الآيات وأمثالها ذكرها - والله أعلم - لقوم علم الله أنهم لا يؤمنون أبداً [ ] { وَيَسْخَرُونَ * وَإِذَا ذُكِّرُواْ لاَ يَذْكُرُونَ * وَإِذَا رَأَوْاْ آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ * وَقَالُوۤاْ إِن هَـٰذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ * أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ . … } إلى آخر ما ذكر ؛ يخبر عن عنادهم ومكابرتهم … الآيات ، ويذكر سفههم . ثم في ذكر ما ذكر من عنادهم وسفههم ، وجعله آيات من القرآن تتلى أبداً وجهان من الحكمة : أحدهما : صيَّر ذلك آية لرسالته صلى الله عليه وسلم لأنه معلوم أنهم كانوا على ما أخبر عنهم من العناد والسفه وعلى أن ختموا وقبضوا ، دل أنه بالله عرف ذلك وبوحيه علم ، والله أعلم . والثاني : يخبر - والله أعلم - على ما رأى سلفنا من سفه أولئك وعنادهم وما قاسوا منهم وما لحق بهم من الأذى والضرر والسوء ؛ لئلا يضيق صدرنا في سفه من تسفه علينا من أهل الفساد والفسق ، وألا نترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لسفه السفيه ، ولا لأذى المؤذي ولا سوء يقال ، بل يجب علينا أن نتأسى بسلفنا ونقتدي بهم ، وإذا أصابنا منهم ما أصاب أولئك من الأذى والسفه ، وإن عاندوا أو كابروا وظهر منهم كل فسق وسوء على ما فعل أولئك ، واحتملوا منهم ما كرهوا ، فنحمل عن سفهائنا مثله - والله أعلم - وإلا لو لم يكن في ذكر سفههم وعنادهم ما ذكرنا من الحكمة كان لا معنى لذكر سفه أولئك وعنادهم . وجائز أن يكون الشيء سفهاً باطلاً في نفسه ويكون حكمة ودليلاً لغيره - والله أعلم - على ما قال بعض الناس : إن الكذب نفسه يجوز أن يكون دليل الصدق ، وكلام السفه والباطل دليل الصدق والحكمة ، والله أعلم . وقوله : { وَإِذَا رَأَوْاْ آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ } أي : وإذا أنزل عليهم آية على سؤال منهم يستسخرون ويستهزئون ، يخبر عن سفههم أنهم وإن سألوا الآيات فإنهم لا يسألون سؤال استرشاد ولكن سؤال عناد وهزء ؛ كقوله عز وجل : { وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ ٱلسَّمَاءِ فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا } [ الحجر : 14 - 15 ] ، وكقوله : { وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ ٱلْمَلاۤئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ ٱلْمَوْتَىٰ وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُوۤاْ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ } [ الأنعام . 111 ] . وقالوا : { إِن هَـٰذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } كان هذا تلقيناً لأولئك الكفرة الرؤساء من الشيطان اللعين حتى يموِّهوا على أتباعهم عندما ظهر ، وكثير من الآيات ؛ لما كانوا يعلمون أن لا كل أحد يعرف السحر ويتهيأ إتيانه وفعله ؛ يلبسون بذلك على أتباعهم ليقع عندهم أنها السحر لا الآية ، والله أعلم . ولو كان ذلك سحراً حقيقة لكان من آيات الرسالة ، فكيف إذا كان آية لما كانوا يعلمون أنه لم يختلف إلى أحد ممن له معرفة بالسحر قط ؟ ! فدل أنه بالله عرف ذلك ، على ما ذكرنا : أن ما أنبأ وأخبر عن أنباء الأمم الخالية وأخبارهم يدل على رسالته ؛ لما علموا أنه لم يختلف إلى أحد ممن له المعرفة بتلك الأنباء والأخبار ولا ينظر في كتبهم ليعرف ذلك ، ثم أخبر على ما كان في كتبهم ، دل أنه بالله عرف ذلك وبوحي منه إليه علم ، فعلى ذلك لو كان سحراً فكيف إذا كانت آية عظيمة معجزة ؟ ! وقال الزجاج : حرف العجب إنما يكون عند ظهور العجب من الأمر وعبرة عظيمة ، فأما ما أضيف إلى الله فهو على الإنكار منه والرد على من أنكر عظيماً من الأمر ظاهراً ، أو كلام نحوه ، والله أعلم . وقوله عز وجل : { وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ } قيل : دائم ؛ كقوله عز وجل : { وَلَهُ ٱلدِّينُ وَاصِباً } [ النحل : 52 ] أي دائماً ، وقيل : { عَذابٌ وَاصِبٌ } أي : شديد . وقوله عز وجل : { مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ } قيل : ملتزق ، وقيل ملتصق الذي يلتصق باليد إذا لمس . وقوله : { دُحُوراً } قيل : طرداً ، وهو مطرود . وقوله : { شِهَابٌ ثَاقِبٌ } قيل : مضيء ، وقيل : هوى بضوئه . ثم قوله : { وَإِذَا رَأَوْاْ آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ } قال بعضهم : يسخرون ، وقال بعضهم : { يَسْتَسْخِرُونَ } : يطلبون من أتباعهم السخرية - يعني : القادة - على الآية . والله أعلم . وقوله عز وجل : { أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَ آبَآؤُنَا ٱلأَوَّلُونَ * قُلْ نَعَمْ وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ } : قد ذكرنا : أنهم يقولون ذلك وما تقدم على العناد والتعنت وعلم منهم أنهم لا يؤمنون أبداً وإن بين لهم جهة الإحياء والقدرة عليهم ؛ لذلك اكتفى بقوله : { قُلْ نَعَمْ وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ } ، قد ذكرنا أنهم كانوا يقولون ذلك ، ولم يذكر شيئاً من الحجاج سوى قوله : { نَعَمْ } . وقوله : { وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ } أي : صاغرون ذليلون ؛ كقوله - عز وجل - : { تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } [ القلم : 43 ] ، والله أعلم . وقوله : { فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ } . يحتمل قدر زجرة واحدة ، يخبر عن سرعة قيامها ومرورها . ويحتمل على حقيقة الزجرة ، لكن يخبر عن خفة ذلك وهوانه عليه ؛ كقوله : { كُنْ فَيَكُونُ } [ البقرة : 117 ] من غير أن كان منه كاف ونون أو شيء من ذلك ، لكنه أخفّ كلام على الألسن يؤدى به المعنى ، ويفهم به المراد من ذلك ؛ فعلى ذلك جائز أن يكون قوله : { زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ } إخباراً عن خفة ذلك عليه وهوانه ، من غير أن جعل الزجرة سبب الإحياء أو سبباً من ذلك ، والله أعلم . وقوله : { فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ } . يحتمل قوله : { يَنظُرُونَ } إلى ماذا يؤمرون ؟ وعن ماذا ينهون ؟ لأن الذي أصابهم في الآخرة إنما كان لتركهم الأمر في الدنيا ، فإذا عاينوا ما كانوا يوعدون في الدنيا بتركهم الأمر عنه ينظرون إلى ماذا يؤمرون وينهون عنه ؟ والله أعلم . أو ينظرون كالمتحيرين ؛ لأنهم كانوا ينكرون البعث ويكذبونه ، فإذا عاينوا تحيروا وتاهوا وضجروا ، وهكذا الأمر المتعارف في الخلق أن من أنكر شيئاً أو كذبه ، ثم أخبر به وأعلم حتى تيقن عنده ما أنكر تحير وضجر ؛ فعلى ذلك هؤلاء لما أنكروا في الدنيا وكذبوه ثم عاينوا ذلك وتيقنوا به - تحيروا وضجروا به ، ينظرون نظر المتحير الضجر ، والله أعلم . وقوله : { وَقَالُواْ يٰوَيْلَنَا هَـٰذَا يَوْمُ ٱلدِّينِ } . هذا كلام يقال عند الوقوع في الهلاك . وقوله : { هَـٰذَا يَوْمُ ٱلدِّينِ } أي : يوم الحساب ويوم الجزاء ، وكذلك قوله : { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ } [ الفاتحة : 4 ] . ويحتمل : هذا يوم الذي ينفع كل من معه الدين دينه ، والدين المطلق هو دين الله ، وكذلك السبيل المطلق هو سبيل الله ، أي : هذا يوم الدين الذي ينفع من كان معه دين الله ، وكذا السبيل المطلق هو سبيل الله . وقوله : { هَـٰذَا يَوْمُ ٱلْفَصْلِ ٱلَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ } . قوله : { هَـٰذَا يَوْمُ ٱلْفَصْلِ } أي : يوم القضاء والحكم ؛ كقوله - عز وجل - : { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ ٱلْقَيَامَةِ } [ السجدة : 25 ] أي : يقضي بينهم { فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } [ السجدة : 25 ] ، والله أعلم . ويحتمل قوله : { هَـٰذَا يَوْمُ ٱلْفَصْلِ } أي : يفصل ويفرق بينهم ، أي : بين الكفار وأهل الإيمان ، وبين الخبيث والطيب ؛ كقوله - تعالى - : { لِيَمِيزَ ٱللَّهُ ٱلْخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ ٱلْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىٰ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً … } الآية [ الأنفال : 37 ] ، وقوله : { وَٱمْتَازُواْ ٱلْيَوْمَ أَيُّهَا ٱلْمُجْرِمُونَ } [ يس : 59 ] ، وقوله : { فَرِيقٌ فِي ٱلْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي ٱلسَّعِيرِ } [ الشورى : 7 ] ، والله أعلم . وقوله : { ٱحْشُرُواْ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ } . فالزوج : هو اسم لشكله واسم لضده اسم لهما جميعاً . يحتمل قوله : { وَأَزْوَاجَهُمْ } أي : أشكالهم وقرناؤهم من الجن والإنس والشياطين ، يأمر الملائكة أن تجمع بين من كانوا يجتمعون في هذه الدنيا ويستحبون الاجتماع معهم أن يجمعوا في عذاب الآخرة ، على ما كانوا يستحبون الاجتماع في الملاهي والطرب في هذه الدنيا ويجتمعون على ذلك ؛ فعلى ذلك يجمع بين أولئك وبين قرنائهم جهنم ، ويقرن بعضهم إلى بعض في العذاب ؛ كقوله : { وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ ٱلرَّحْمَـٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } [ الزخرف : 36 ] ؛ وكقوله : { وٱلسَّلاَسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي ٱلْحَمِيمِ ثُمَّ فِي ٱلنَّارِ يُسْجَرُونَ } [ غافر : 71 - 72 ] ونحوه . وقوله - عز وجل - : { فَٱهْدُوهُمْ إِلَىٰ صِرَاطِ ٱلْجَحِيمِ } ، كقوله : { وَسِيقَ ٱلَّذِينَ كَـفَرُوۤاْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ زُمَراً } [ الزمر : 71 ] ونحوه ، والله أعلم . وقال قتادة وغيره : { هَـٰذَا يَوْمُ ٱلدِّينِ } ، أي : يدان لبعض الناس من بعض في المظالم والحقوق . وقوله - عز وجل - : { وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ } . يحتمل الوقف للحساب . ويحتمل { مَّسْئُولُونَ } أي : محاسبون . وعن ابن عباس قال : " إن دون الحساب يوم القيامة كذا كذا موقفاً ، في كل موقف يوقفون مقدار كذا عاماً ، ثم تلا هذه الآية " . ويحتمل [ ليس ] السؤال عما فعلوا ، ولكن يسألون لماذا فعلوا ؟ ويحتمل الوقوف فتنوا إلى بعضهم بعضاً ، والمخاصمة فيما بينهم والمراجعة ؛ كقوله : { وَقَالَتْ أُولاَهُمْ لأُخْرَاهُمْ … } [ الأعراف : 39 ] كذا ، و { قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ … } [ الأعراف : 38 ] كذا ؛ على ما أخبر أنه يجري فيما بينهم من الخصومة ومراجعة القول واللائمة . وقوله : { مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ } . أي : ما لكم لا تنصرون ؟ أي : ما لكم لا ينصركم الأصنام التي عبدتموها في الدنيا رجاء النصر والشفاعة ؛ كقوله : { هَـٰؤُلاۤءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ ٱللَّهِ } [ يونس : 18 ] ، وقوله : { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ } [ الزمر : 3 ] . فيخبر عن إياسهم من نصر ما عبدوا على رجاء النصر لهم والشفاعة ؛ كقوله : { بَلْ هُمُ ٱلْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُون } [ الصافات : 26 ] ، أي : خاضعون ذليلون لله ، لما علموا ألا يكون النصر والعون إلا منه ، فعند ذلك يستسلمون له . وقال بعضهم : يستسلمون في عذابه .