Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 38, Ayat: 9-16)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - عز وجل - : { أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ ٱلْعَزِيزِ ٱلْوَهَّابِ } . قد ذكرنا فيما تقدم أن حرف الاستفهام من الله تعالى يخرج على الإيجاب والإلزام مما لو كان ذلك من مستفهم حقيقة يتضمن الجواب له ، فقوله - عز وجل - : { أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ } جواب لقولهم : { أَءُنزِلَ عَلَيْهِ ٱلذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا } [ ص : 8 ] فجوابه لهم ليس عندهم رحمة ربك حتى يختاروا الرسالة والنبوة لأنفسهم أو لمن شاءوا هم ؛ كقولهم : { لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ] كانوا لا يرون وضع الرسالة إلا فيمان كانت له أموال وله سعة في الدنيا وفضل مال ، فيذكر أن [ ليس ] عندهم خزائن ربك حتى يجعلوا الرسالة والنبوة فيمن شاءوا هم واختاروا لذلك ، قال الله - عز وجل - : { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ } [ الزخرف : 32 ] ، أي : لا يملكون قسمة رحمة ربك ، بل { نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا … } الآية [ الزخرف : 32 ] يخبر أنهم على ما لا يملكون توسيع المعيشة على من ضيق عليه ورفع من وضع ؛ فعلى ذلك ليس إليهم اختيار النبوة والرسالة لمن شاءوا واختاروا ، بل اختيار ذلك إلى الله - عز وجل - فقالوا : أئذا كنا أحق بهذا في الدنيا فنحن أيضاً أحق بالرسالة والنبوة على ما [ نحن ] أحق في الدنيا بالسعة والفضل فيها ، بل لو عرفوا أن ما نالوا من السعة في الدنيا وفضل الأموال إنما نالوا ذلك برحمة الله وفضله لا بحق كان لهم على الله ، فلو عرفوا ، كانوا لا ينكرون وضع الرسالة فيمن اختار الله - عز وجل - وضعها فيمن شاء ، وعلى ذلك قول المعتزلة : إنهم لا يريدون لله أن يفعل بأحد شيئاً إلا ما هو أصلح له في الدين ، وأنه لو فعل ما ليس بأصلح له في الدين ، كان جائراً ظالماً ، فيرون حفظ الأصلح له حقّاً كما رأى أولئك الكفرة السعة والأموال حقّاً على الله ، فرأوا أنفسهم أحق أيضاً بالرسالة والنبوة من رسول الله صلى الله عليه وسلم . ثم إن المعتزلة يقولون في ألم الصغار : إن ليس لله أن يؤلمهم إلا بعوض يجعل لهم بإزاء ذلك الألم عوضاً يرضون هم بذلك ؛ إذ جعلوا أنفسهم له حقيقة حيث لم يجعلوا لله الإيلام إلا بالعوض ، ومن أخذ حقّاً لغير لا يأخذه إلا ببدل وعوض برضاء ذلك الغير ، فهذا تناقض في قولهم : إن على الله حفظ الأصلح للخلق في دينهم حيث لم يجعلوا له ذلك إلا بعوض يجعل لهم ، والله أعلم . ودل اتفاق القول ، إنه وهاب ، على أن ما ينال من خير أو سعة أو فضل إنما ينال برحمة وفضل لا بحق عليه ؛ لأن من أدى حقا عليه لا يقال : إنه وهاب ، ولا يسمى : وهاباً ، على ما أعطى من أعطى ، إنما أعطاه تفضلا منه ورحمة لا حقّاً كان عليه . وقوله - عز وجل - : { أَمْ لَهُم مُّلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا } . هو مثل الأول ، أي : لهم ملك السماوات والأرض ؛ ليملكوا ما شاءوا من الأمور ويختاروا وضع الرسالة فيمن شاءوا هم ، أي : ليس لهم ملك السماوات والأرض ؛ فيملكوا ما يذكرون ويختارون [ ما ] قالوا ، بل نملك ذلك ، وإلينا ذلك ، فعند ذلك يقال : { فَلْيَرْتَقُواْ فِى ٱلأَسْبَابِ } . ثم اختلف في الأسباب التي ذكر : قال بعضهم : السبب ما بين السماء والأرض ، وكذلك ما بين كل سماءين سبب ، والأسباب جماعة . وقال بعضهم : الأسباب : طرق السماء . وقال بعضهم : هي الأبواب التي في السماء تفتح للوحي . ومعناه - والله أعلم - أي : فليرتقوا في الأسباب إن كانوا صادقين بأن محمداً صلى الله عليه وسلم كذاب ، وأنه ساحر ، وأنه اختلقه من تلقاء نفسه ، أي : يفتح له أبواب السماء فليستمعوا إلى الوحي حتى يوحي الله - عز وجل - للنبي صلى الله عليه وسلم ؛ لقولهم : { إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ ٱخْتِلاَقٌ } . أو أن يكون معناه - والله أعلم - : أن يرتقوا [ إلى ] ملك فينزل فيخبر أن محمداً صلى الله عليه وسلم كاذب فيما يدعي لقولهم : { لَوْلاۤ أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً } [ الفرقان : 7 ] ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّن ٱلأَحَزَابِ } . قال بعضهم : حرف { مَّا هُنَالِكَ } صلة كأنه قال - عز وجل - : { جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّن ٱلأَحَزَابِ } . وقال بعضهم : جند بل هنالك مهزوم من الأحزاب . وجائز أن يكون على تحقيق { مَّا } فيه ، أي : جند ما يهزم هنالك من الأحزاب ، لا كل الأجناد ، وهو الجند الذين خرجوا عليه بالمباهلة ، وهم الذين قالوا : اللهم انصر أينا أوصل رحما وأنفع مالا وأخير للخلق فغلبوا هم وقهروا . وقال عامة أهل التأويل : هو الجند الذي قتل ببدر ، والله أعلم . ثم في الآية وجوه ثلاثة من الدلالة : أحدها : الأمن له عن أن يصلوا إلى قتله وإهلاكه على الآحاد والأفراد ؛ كقوله - عز وجل - : { فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ } [ هود : 55 ] . وفيه الأمن له عن أن يصلوا إلى قتله وإهلاكه على الجمع والاجتماع عليه ؛ كقوله - عز وجل - : { سَيُهْزَمُ ٱلْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ ٱلدُّبُرَ } [ القمر : 45 ] أخبر - عز وجل - أنهم يهزمون جميعاً . وفيه بشارة له أنهم يهزمون في ضعفه وقلة أعوانه وأنصاره مع كثرة أولئك وعدتهم . ففي الوجوه الثلاثة التي ذكرنا دلالة رسالته صلى الله عليه وسلم حيث أخبر بما ذكر ؛ فكان على ما أخبر دل أنه صلى الله عليه وسلم بالله تعالى عرف ذلك ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّن ٱلأَحَزَابِ } . حيث تحزبوا عليه قال بعضهم : إنه ساحر ، وقال بعضهم : إنه كذاب ، وإنه مفتر ، وإنه مجنون على ما تحزبوا عليه ، وتفرقت قلوبهم فيه وتلونت ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وفِرْعَوْنُ ذُو ٱلأَوْتَادِ … } إلى قوله : { أُوْلَـٰئِكَ ٱلأَحْزَابُ } أي : الفرق . وقوله : { إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ ٱلرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ } . يذكر هؤلاء الأحزاب الذين كادوا لرسول الله ، ويخبرهم عن صنيعهم ومعاملتهم الرسل لوجهين : أحدهما : كيفية معاملة الرسل - عليهم السلام - أولئك الكفرة مع تكذيبهم إياهم وسوء معاملتهم وصنيعهم مع الرسل وأنواع البلايا التي كانت منهم إليهم أن كيف عاملوهم وصبروا على أذاهم ؛ ليعامل هو قومه مثل معاملتهم قومهم ، ويصبر على أذاهم كما صبر أولئك على أذى قومهم ، مثل معاملتهم قومهم وسوء صنيعهم ؛ كقوله - عز وجل - : { فَٱصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ ٱلْعَزْمِ مِنَ ٱلرُّسُلِ } [ الأحقاف : 35 ] . والثاني : يذكر هذا لأهل مكة ويحذرهم ما نزل بالأمم المتقدمة بتكذيبهم الرسل وعنادهم وتمردهم معهم ؛ ليحذروا تكذيبهم محمداً صلى الله عليه وسلم وألا يعاملوه كما عامل أولئك رسلهم ، فينزل بهم كما نزل بأولئك من العذاب والإهلاك ، والله أعلم . { فَحَقَّ عِقَابِ } . قال بعضهم : أي : وجب عليهم عقاب ، لكن قوله - عز وجل - : { فَحَقَّ عِقَابِ } أي : نزل بهم العقاب ووقع عليهم ، وإلا كان العذاب واجباً على الكفار . وقوله - عز وجل - : { وفِرْعَوْنُ ذُو ٱلأَوْتَادِ } . قال بعضهم : إن فرعون كان إذا غضب على أحد من قومه مده بأوتاد فيعاقبه بها ويعذبه ، والله أعلم . وقال بعضهم : { وفِرْعَوْنُ ذُو ٱلأَوْتَادِ } ، أي : ذي البناء المحكم . وقال بعضهم : كانت له أوتاد وأرسان ، أي : جبال وتلاعيب يلاعبون بها ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَمَا يَنظُرُ هَـٰؤُلآءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ } . يخبر - عز وجل - رسوله صلى عليه وسلم ويؤيسه عن إيمانهم أنهم لا يؤمنون إلا عند وقوع العذاب بهم حتى لا ينفعهم الإيمان ؛ كقوله - عز وجل - : { إِنَّ ٱلَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّىٰ يَرَوُاْ ٱلْعَذَابَ ٱلأَلِيمَ } [ يونس : 96 - 97 ] . ثم قوله - عز وجل - : { إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً } يحتمل أن يكون سمى نفس العذاب : صيحة . وجائز أن يكون ذكر صيحة ؛ لما أن العذاب إذا نزل بهم ووقع عليهم يصيحون ، فسمى ذلك : صيحة ؛ لصياحهم . أو أن يكون ذلك إذا نزل بهم كان فيه صياح ، وصوت الشيء الهائل العظيم الشديد إذا هو وقع ومال إلى الأرض ، كان فيه صياح وصوت حتى يفزع الناس منه ؛ فعلى ذلك الصيحة التي ذكر يحتمل ما ذكرنا ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ } . قال أبو عبيدة : من فتحها أراد : ما لها من راحة ولا إقامة ، كأنه ذهب إلى إفاقة المريض من علته . ومن ضمها جعلها من فواق الناقة وهو ما بين الحلبتين ، ويريد { مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ } : انتظار ومكث . قال أبو عوسجة والقتبي : { مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ } ، أي : من انقطاع ؛ إذ هي دائمة أبداً لا تنقطع به . وقال الكسائي : الفواق : بالنصب والرفع لغتان ، وهو من فواق الناقة بين الحلبتين والرضعتين . وقال عامة أهل التأويل : { مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ } ، أي : من مرد ومرجع وقرار . وقال بعضهم : هو مد البصر ، يقول : هي أقرب من ذلك ، كقوله - عز وجل - : { وَمَآ أَمْرُ ٱلسَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ ٱلْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ } [ النحل : 77 ] ، والله أعلم . وأصل الفواق : كأنه من العود والرجوع كعود اللبن إلى الضرع بعد ما حلب مرة ، والله أعلم . ذكر عن الحسن في قوله - عز وجل - : { صۤ وَٱلْقُرْآنِ ذِي ٱلذِّكْرِ } [ ص : 1 ] يقول : حارث القرآن بقلبك وهو من قول العرب : صادته الدابة إذا كانت امتنعت فأطعمها حتى ذلت ولانت . وقال أبو عوسجة : { صۤ } : هو أشد كلام وهو شبه قسم ، والصاد في غير هذا الموضع العطشان ، وقوم صادون . ثم اختلف في موضع القسم على ما ذكر : قال الكسائي : من القسم في القرآن ما هو ظاهر لا يخفى ، ومنه غامض : فمن ظاهره قوله - عز وجل - : { فَلاَ أُقْسِمُ بِٱلْخُنَّسِ * ٱلْجَوَارِ ٱلْكُنَّسِ } [ التكوير : 15 - 16 ] ، وجوابه قوله : { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } [ التكوير : 19 ] . ومن غامضه : { صۤ } قال بعض الناس : موضع قسمه قوله - عز وجل - : { إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ ٱلنَّارِ } [ ص : 64 ] ، والله أعلم . لا أراه شيئاً لحال الكلام ولما قص من القصص ما لا يكون ذلك قسمه . ولكن قسمه - والله أعلم - عندي : { صۤ وَٱلْقُرْآنِ ذِي ٱلذِّكْرِ } ، ثم اعترض : { بَلِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ * كَمْ أَهْلَكْنَا } القسم هاهنا بـ { كَمْ أَهْلَكْنَا } ، ولكن لما اعترض : { بَلِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } صار قوله ردا عليه وجواباً له ؛ وهو غريب ظريف غامض . وقوله - عز وجل - : { ذِي ٱلذِّكْرِ } . قال بعضهم : ذي الشرف ، أي : من أوتيه شرف ، وقيل : ذي الشأن ، وقيل : ذي الذكر ، فيه ذكر ما يؤتى وما يتقى ، وذكر من كان قبله من الأمم الخالية . وقوله - عز وجل - : { فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ } . قيل : في تكبر وتكذيب ، وقيل : في حمية وخلاف ، وقيل : في غفلة ، ونحوه . وقوله - عز وجل - : { فَنَادَواْ وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ } . قال بعضهم : أي : هربهم في غير وقت الهرب ، و { مَنَاصٍ } : مهرب ، وناص ينوص نوصاً : وهو المنجى والغوث . وقال القتبي : { وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ } أي : لا حين هرب ؛ على ما قال أبو عوسجة ، وقال : النوص : التأخر في الكلام ، والنوص : المتقدم ، وأصله ما ذكرنا : أن ذلك الوقت ليس هو وقت المهرب ، ولا وقت المنجى ولا وقت الغوث على ما تقدم ذكره . وقوله - عز وجل - : { إِنَّ هَـٰذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ } . قال بعضهم : { عُجَابٌ } بلغة قوم : عجب . وقال الكسائي : العُجَاب والعِجَاب والعجيب والعجب كلها لغات واحدة . وقال أبو عوسجة : { عُجَابٌ } هو يكثر للعجب كما يقال : كبار وكبار . وقوله - عز وجل - : { وَٱنطَلَقَ ٱلْمَلأُ مِنْهُمْ } . أي : الأشراف منهم ، وقالوا : للأتباع على ما ذكرنا { أَنِ ٱمْشُواْ وَاْصْبِرُواْ عَلَىٰ آلِهَتِكُمْ } ، قال بعضهم : قوله : { أَنِ ٱمْشُواْ } إلى أبي طالب واثبتوا على عبادة آلهتكم { إِنَّ هَـٰذَا } : قال بعضهم : بقبول إسلام وذلك كان حين أسلم عمر - رضي الله عنه - بشيء أي لأمر يراد ، فمشوا إلى أبي طالب ، وقالوا له ما ذكرنا فيما تقدم والقصة طويلة . وقال بعضهم : { أَنِ ٱمْشُواْ } أي : امضوا وارجعوا إلى عبادة آلهتكم واصبروا عليها . وقال بعضهم : قوله : { أَنِ ٱمْشُواْ } من عند محمد صلى الله عليه وسلم واصبروا على عبادة آلهتكم { إِنَّ هَـٰذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ } بأهل مكة ، والله أعلم . وقوله : { مَا سَمِعْنَا بِهَـٰذَا فِى ٱلْمِلَّةِ ٱلآخِرَةِ } . يعنون . عبادة إله واحد وترك عبادة آلهة في الملة الآخرة . قال عامة أهل التأويل : { ٱلْمِلَّةِ ٱلآخِرَةِ } : النصرانية واليهودية كليهما . وقال بعضهم : يعنون : { ٱلْمِلَّةِ ٱلآخِرَةِ } الملة التي هم عليها ، وآثارهم ، يقولون : ما سمعنا عبادة إله واحد وترك عبادة الآلهة في الدين [ الذي ] نحن وآباؤنا عليه { إِنَّ هَـٰذَا } أي : ما هذا { إِلاَّ ٱخْتِلاَقٌ } من نفسه ، وقالوا : { أَءُنزِلَ عَلَيْهِ ٱلذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا } يعنون : النبوة والكتاب والوحي ، وهو أفقرنا وأصغرنا ونحن أكثر سنا وأعظم شرفاً ، يقول الله - عز وجل - : { بَلْ هُمْ فَي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي } بأنه لم ينزل عليه { بَل لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ } ؛ وهو قول مقاتل ، ثم قال : { أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ } ، أي : يحتمل نعمة ربك ، أي : بأيديهم مفاتيح الرحمة والنبوة والرسالة فيضعونها حيث شاءوا ، أي : ليست تلك بأيديهم ولكنها بيد الله ، العزيز في ملكه الوهاب يهب النبوة والرسالة لمن يشاء ويضعها فيمن يشاء . ثم قال - عز وجل - : { أَمْ لَهُم مُّلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا } ، أي : ليس لهم ذلك ، ولكن - عز وجل - يوحي الرسالة إلى من يشاء ويختار لها من يشاء . ثم قال : { فَلْيَرْتَقُواْ فِى ٱلأَسْبَابِ } ، أي : الأبواب التي في السماء إن كانوا صادقين بأن محمدا صلى الله عليه وسلم اختلقه من تلقاء نفسه ، أي : فليستمعوا إلى الوحي حين يوحي الله إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم بقول أولئك . وقال بعضهم : السبب : ما بين السماء والأرض أصلب من الحديد وأدق من الشعر يعرج به الملائكة وهو المعراج يبصره الميت إذا خرجت روحه . وقال بعضهم : { فَلْيَرْتَقُواْ } أي : فليصعدوا في طرقها ؛ فيعلموا علم ذلك أنزل عليه الذكر أو لم ينزل ؟ والله أعلم . والارتقاء : الصعود . أو أن يقول : ارتقوا أنتم السبب الذي ارتقى محمد صلى الله عليه وسلم وأتوا بمثل الذي أتى به محمد أنه ليس برسول . أو أن يقول : ائتوا أنتم بالذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم من الدين والأسباب ؛ حتى تختصوا بالنبوة والرسالة كما اختص محمد صلى الله عليه وسلم . وقوله - عز وجل - : { جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّن ٱلأَحَزَابِ } . قال : وعد الله - عز وجل - : نبيه صلى الله عليه وسلم أنه سيهزم جند المشركين ، فقال عامة أهل التأويل : جاء تأويلها يوم بدر ، وقد ذكرنا تأويله فيما تقدم ، والله أعلم . والأحزاب : الذين تحزبوا عليه ، أي : تفرقوا . وقوله - عز وجل - : { وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ ٱلْحِسَابِ } ، اختلف فيه : قال بعضهم : { عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا } أي : كتابنا ؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوعدهم أنهم يؤتون كتابهم بشمالهم فيه أعمالهم التي عملوها في الدنيا في الآخرة ، فعند ذلك قالوا له : { عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا } ؛ أي : كتابنا الذي توعدنا أنه يعطى بشمالنا ، قالوا ذلك استهزاء به وتكذيباً له . وقال بعضهم : { عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا } أي : نصيبنا وحظنا من العذاب الذي توعدنا به وتحذرنا يوم الحساب قبل يوم الحساب ، قالوا ذلك استهزاء به وتكذيباً له ؛ ولذلك قال له على أثر ذلك : { ٱصْبِر عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ } يصبره ويعزيه على ما يقولون ؛ ليصبر على ذلك ، والله أعلم . وجائز أن يكون قوله - عز وجل - : { عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا } ليس على سؤال العذاب والكتاب الذي حمله عامة أهل التأويل عليه ، ولكنه سؤال السعة والنصيب في الدنيا ، ويكون ذلك في قوم لا يؤمنون بالآخرة سألوا ما وعدوا من النعيم في الآخرة والسعة في الدنيا ، وذلك أشبه لأنهم سألوا ربهم أن يجعل ذلك لهم ، فلو كان على ما يحمله أهل التأويل من سؤال العذاب والكتاب على الاستهزاء بالرسول والتكذيب له ، لسألوا الرسول ذلك ، ولم يسألوا ربهم ذلك ؛ فدل ذلك على أنه أشبه وأقرب ، والله أعلم .