Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 4, Ayat: 102-103)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - عز وجل - : { وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ ٱلصَّلاَةَ … } الآية . اختلف أهل العلم في صلاة الخوف : قال بعض أهل العلم : يجعل الإمام القوم طائفتين ، يصلي بالطائفة [ الأولى ] ركعة ، ويصف الطائفة الأخرى مصاف العدو ، فإذا صلى بهم ركعة ؛ فيقومون ويصلون الركعة الثانية وحداناً . ثم ينصرفون ويقومون مقامهم بإزاء العدو ، وترجع الطائفة التي كانت مصاف العدو فيصلي بهم الإمام الركعة الثانية ، ثم يسلم بهم الإمام ، فيقومون ويقضون الركعة الأولى وحداناً . ويقولون : لأنه ليس في الآية إتيان الطائفة الأولى وعودها إلى الإمام ؛ لذلك لا يفعل . وقالوا - أيضاً - بأن القيام بعد الفراغ من الصلاة مصاف العدو أطمع وأرجى من القيام قبل الفراغ منها . [ و ] قيل : بل القيام مصاف العدو ، وهم في الصلاة أطمع وأرجى من القيام في غير الصلاة . وأما أصحابنا - رحمهم الله - فإنهم ذهبوا إلى ما روي في الأخبار . روي عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال : صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاةَ الخوف : فصلى بإحدى الطائفتين ركعة والطائفة الأخرى مواجهو العدو ، ثم انصرفوا وقاموا في مقام أصحابهم ، مقبلين على العدو ، وجاء أولئك ، فصلى بهم النبي صلى الله عليه وسلم ركعة ثم سلم النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم قضى هؤلاء ركعة ، وهؤلاء ركعة . وعن عبد الله قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف ، فقاموا صفين : فقام صف خلف النبي صلى الله عليه وسلم وصفٌّ مستقبلٌ العدوَّ ، وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصف الذي يلونه ركعة ، ثم قاموا فذهبوا وقاموا مقام أولئك ، واستقبل هؤلاء العدو ، وجاء أولئك فقاموا مقام هؤلاء ، فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعة ، ثم سلم ، فقاموا يصلون لأنفسهم ركعة ، ثم سلموا ، فذهبوا فقاموا مقام أولئك مستقبلين العدو ، وجاء أولئك إلى مقامهم ، فصلوا لأنفسهم ركعة ، ثم سلموا . وروى ابن عباس وزيد بن ثابت وحذيفة بن اليمان - رضي الله عنهم - عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو ذلك ، فاتفق على هذه الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم هؤلاء الجماعة من الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - : ابن مسعود ، وابن عمر ، وابن عباس ، وزيد بن ثابت ، وحذيفة ؛ كلهم يقولون : إن [ رسول الله صلى الله عليه وسلم ] صلى بإحدى الطائفتين ركعة ، والطائفة الأخرى مواجهو العدو ، ثم صلى بالطائفة الأخرى ركعة ، وإن واحداً منهم لم يقض بقية صلاته حتى فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من صلاته كلها ، فصلى المؤتمون ما بقي عليهم من صلاتهم ؛ وهذا نظراً لما عليه المسلمون جميعاً فيما سبقهم الإمام : لا يقضونه حتى يفرغ الإمام من صلاته ، ثم يقضون ما فاتهم ، والأخبار التي جاءت بخلاف ذلك يحتمل أن تكون في الوقت الذي كانوا يقضون الفائتة قبل فراغ الإمام من صلاته ، ثم نسخ ذلك بما توارث الأمة القضاء بعد الفراغ ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَلْيَأْخُذُوۤاْ أَسْلِحَتَهُمْ } اختلف فيه . قيل : هم الطائفة التي بإزاء العدو ، يأخذون السلاح ؛ ليكون أهيب للحرب والقتال . وقيل : هم الطائفة الذي يصلون ، يأخذون السلاح حتى إذا استقبلهم العدو والحرب يقدرون على ذلك . وقيل : إذا وقع بينهم الحرب فلهم تأخير الصلاة إلى وقت انقطاع الحرب بينهم . وقال الحسن : يصلي الإمام بكل طائفة تمام الصلاة ؛ لأنه ذكر في الخبر أنه كان يصلي بكل طائفة سجدة ، والسجدة هي اسم التمام ، وهذا جائز في اللغة . لكن عندنا ما ذكرنا من الأخبار عن الصحابة : عن عمر ، وابن عباس ، وغيرهما - رضوان الله عليهم أجمعين - حيث قالوا : صلاة السفر ركعتان ، وصلاة الفطر والأضحى ركعتان ، وصلاة الخوف ركعة تمام غير قصر ، وما روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد بالصف الأول ، ولم يسجد معه الصف الثاني ، فلما رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من السجدتين سجدهما أهل الصف الثاني ؛ فهذا يدل على أن الأمر ما وصفنا . وإذا كان العدو مواجَهةَ القبلة فالإمام بالخيار : إن شاء جعل القوم صفين : صفّاً أمامه بإزاء العدو ، وصفّاً معه يصلي بهم ؛ هكذا روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه فعل [ ذلك ] بالمسلمين : [ و ] روى جابر بن عبد الله أن [ رسول الله صلى الله عليه وسلم ] صلى بهم والعدو في القبلة ، فصلى بطائفة ركعة ، وجاءت الأخرى فصلى بها أخرى . وإن شاء جعل القوم كلهم خلفه صفين فيصلي بهم ، فإذا انتهوا إلى السجود ، سجد الصف الأول ، والصف الثاني يحرس العدو ، فلما فرغ هؤلاء من السجود سجد الآخرون ، ثم كذلك يفعل بهم في الثانية ، وهذا - أيضاً - روى أنه فعل ؛ فيختار أيهما شاء . وقوله - عز وجل - : { فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ } . أي : ليكونوا مصاف العدو يحرسونهم من العدو . [ وقوله - عز وجل - : ] { وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ } . يحتمل قوله - تعالى - : { حِذْرَهُمْ } ، أي : يأخذون ما يستترون به ويحرسون العدو ، من نحو الترس ، والدرع ، ونحوه . وقوله - عز وجل - : { وَأَسْلِحَتَهُمْ } : ما يقاتل به من السلاح ويحارب . ويحتمل ما يتحصن به من الحصن ، من نحو الجبال وغيرها . وفيه الأمر بتعلم آداب الحرب والقتال ، وأخذ الأهبة والإعداد للعدو دون أن يَكِلُوا الأمر إلى ذلك ؛ ولكن يكلوا الأمر إلى ما وعد الله لهم من النصر بقوله - تعالى - : { وَمَا ٱلنَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ } [ آل عمران : 126 ] ، وبقوله : { وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ } وقوله - تعالى - : { وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ٱسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ ٱلْخَيْلِ } [ الأنفال : 60 ] ، وقوله : { فَٱنفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ ٱنْفِرُواْ جَمِيعاً } [ النساء : 71 ] ، وغيره من الآيات ، فيها الدلالة على تعلم آداب الحرب وأخذ الأهبة فيه ؛ حيث أمرهم - عز وجل - بمجاهدة العدو في غير آي من القرآن . وقوله - عز وجل - : { وَدَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ … } الآية . هذا يعلم بالطبع أن كل أحد يطلب الفرصة على عدوه والغفلة منه ، هذا معروف في طباع الخلق . وقوله - عز وجل - : { عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ } : ما يحارب به ويقاتل . وقوله - عز وجل - : { وَأَمْتِعَتِكُمْ } - يحتمل : أمتعتكم : ما يحرس به العدو ويستتر به منه ، أي : يطلبون الغفلة عن الأسلحة والأمتعة . ويحتمل : الأمتعة أن يريد بها غيرها ، من : الثياب وغيرها . وقوله - عز وجل - : { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَّرْضَىۤ أَن تَضَعُوۤاْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ } . في الآية دلالة أن الله - تعالى - لم يرد بقوله : { إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ … } [ التوبة : 111 ] - بَذْلَها للقتل ؛ حيث رخص لهم وضع الأسلحة وأخذ الحذر عندما بُلُوا بالمطر والمرض ؛ لأنه لو كان المراد بشراء الأنفس منهم بذلها للقتل - لكان لا يرفع ذلك عندما يخافون على أنفسهم من الهلاك ؛ إذ المرض وخوف الهلاك لا يرفع ذلك في الأحوال كلها إذا كان الأمر بذلك أمراً بالقتل والهلاك ؛ ألا ترى أن من وجب عليه الرجم لم يرفع عنه بالمرضِ الرجم ؛ لأن في الرجم هلاكه ، فلما رفع عنهم القتال في حال المرض ، أو في الحال الذي يخاف الهلاك - دل أنه لم يرد بشراء الأنفس بذلها للقتل ؛ ولكن أراد - والله أعلم - إظهار دين الله ، ونصر [ أهل دينه ] ؛ ألا ترى أنه قال في آية أخرى : { فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً } [ النساء : 74 ] جعل الثواب والأجر عند الغلبة على عدوه مثل ما جعل عند القتل ، ولو كان الأمر بذلك أمراً بالقتل خاصة - لا يستوجب الأجر والثواب بغيره ؛ دل أنه ما ذكرنا ؛ ألا ترى أنه قال : { فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً } [ التوبة : 111 ] : جعل الوعد للقاتل ما جعل للمقتول . هذا كله يدل أن الأمر بذلك ليس على القتل . وقوله - عز وجل - : { وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ } . قد ذكرنا أن الأمر بأخذ الحذر يحتمل وجهين : أحدهما : فيه الأمر بتعلم آداب الحرب وأسباب القتال ، وألا يكلوا الأمر إلى ذلك خاصة ؛ لكن إلى ما وعد لهم من النصر والظفر على عدوهم بعد أخذ الأهبة ؛ ألا ترى أنه قال : { وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ٱسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ … } الآية [ الأنفال : 60 ] ، وقال - تعالى - : { وَلْيَأْخُذُوۤاْ أَسْلِحَتَهُمْ } الآية [ النساء : 102 ] . والثاني : يحتمل أن يأمرهم بأخذ ما يدفعون به سلاح العدو عن أنفسهم ويتقون به ، نحو الترس ، أو الدرع ، أو البنيان ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { إِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً } . أي : أعد لهم من العذاب ما يهانون به ، نصروا أو غلبوا ، وأعد لكم من الثواب ما تشرفون وتفوزون به ، نصرتم أو غلبتم ؛ فما لكم لا تقاتلون ؟ ! . وقوله - عز وجل - : { فَإِذَا قَضَيْتُمُ ٱلصَّلَٰوةَ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىٰ جُنُوبِكُمْ } . قيل يحتمل وجهين : يحتمل : { فَإِذَا قَضَيْتُمُ ٱلصَّلَٰوةَ } ، أي : إذا فرغتم منها ، فاذكروا الله على كل حال ، تستعينون به بالنصر على عدوكم ، كقوله - تعالى - { إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَٱثْبُتُواْ وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيراً } [ الأنفال : 45 ] أمر بالثبات عند لقاء العدو ؛ وذكر الله ؛ استعانة منه على عدوهم ؛ فعلى ذلك الأول . ويحتمل : أن يكون معناه : إذا أردتم أن تقضوا الصلاة فاذكروا الله كثيراً في أي حال كنتم : في حال القيام ، والركوع ، والسجود ؛ كقوله : { وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ ٱلصَّلاَةَ … } معناه - والله أعلم - : إذا كانت فيهم فأردت أن تقيم لهم الصلاة فافعل كذا ؛ فعلى [ ذلك ] الأول ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { فَإِذَا ٱطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَٰوةَ } . هذا - والله أعلم - مقابل قوله : { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي ٱلأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلَٰوةِ إِنْ خِفْتُمْ … } الآية [ النساء : 101 ] ، وقد ذكرنا أن القصر يحتمل وجوهاً : يحتمل : القصر للضرب في الأرض ، وهو القصر في عدد الركعات . ويحتمل القصر للمرض والخوف ، فهو قصر الإيماء ، فنحن نأخذ بذلك كله على اختلاف الأحوال ؛ فعلى ذلك قوله : { فَإِذَا ٱطْمَأْنَنتُمْ } يحتمل الوجوه التي ذكرنا ، أي : اذا اطمأننتم صرتم أصحاء ؛ فصلوا كذا صلاة الأصحاء . ويحتمل : { فَإِذَا ٱطْمَأْنَنتُمْ } : أمنتم من الخوف ؛ فصلوا كذا . ويحتمل - أيضا - : { فَإِذَا ٱطْمَأْنَنتُمْ } إذا رجعتم وأقمتم ، فصلوا صلاة المقيمين أربعاً ؛ فهذا - والله أعلم - على ما ذكرنا مقابل قوله : { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي ٱلأَرْضِ … } الآية . وقوله - عز وجل - : { إِنَّ ٱلصَّلَٰوةَ كَانَتْ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ كِتَٰباً مَّوْقُوتاً } أي : مفروضا ، وهو قول ابن عباس . وقيل : { كِتَٰباً مَّوْقُوتاً } أي : لها وقت كوقت الحج ، وهو قول ابن مسعود ، رضي الله عنه . وقيل : { كِتَٰباً مَّوْقُوتاً } : محدودا ، فنحن نقول بهذا كله ، نقول : إنها مفروضة ، موقوتة ، محدودة ؛ على ما قيل ، والله أعلم . والآية ترد على من يقول بأن على الكافر الصلاة ؛ لأنه أخبر أنها كانت على المؤمنين كتاباً موقوتا ، وهم يقولون : على الكافرين والمؤمنين ، لكنها كتبت على المؤمنين فعلا ، وعلى الكافرين قولا ؛ هذا - والله أعلم - معنى قوله : { إِنَّ ٱلصَّلَٰوةَ كَانَتْ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ كِتَٰباً مَّوْقُوتاً } ، أي : فعلها على المؤمنين كتابا موقوتا . ثم يحتمل قوله : { كَانَتْ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ كِتَٰباً مَّوْقُوتاً } أي : لم تزل هي كانت كتاباً موقوتاً على الأمم السالفة ، لا أنّ هذه الأمة خصت بها ؛ كقول إبراهيم - عليه السلام - : { رَبِّ ٱجْعَلْنِي مُقِيمَ ٱلصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَتِي } [ ابراهيم : 40 ] ، وكقول عيسى - عليه السلام - : { وَأَوْصَانِي بِٱلصَّلاَةِ وَٱلزَّكَاةِ … } [ مريم : 31 ] ، وكقول موسى - عليه السلام - : { وَٱجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ } [ يونس : 87 ] . ويحتمل قوله - تعالى - : { كَانَتْ } ، أي : [ الصلوات صارت ] ، { عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ كِتَٰباً مَّوْقُوتاً } بعد أن لم تكن . وكل ذلك محتمل ، ولكن لا نشهد على الله أنه أراد كذا ، وكذلك في قوله - تعالى - : { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي ٱلأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلَٰوةِ } . وقوله - تعالى - : { فَإِذَا ٱطْمَأْنَنتُمْ } نتأول فيه ونعمل فيه بالوجوه كلها على اختلاف الأحوال ؛ لاحتماله الوجوه التي ذكرنا ؛ فلا نقطع القول فيه ، ولا نشهد على الله أنه أراد كذا ، وهكذا السبيل في جميع المجتهدات أن نعمل بها ، ولا نشهد على الله أنه أراد ذا أو أمر بذا ، وبالله التوفيق . ذكر الله - تعالى - ما بَيَّنَ فرض الصلاة ووجوبها في غير موضع من كتابه ، منها الآية التي ذكرناها ، ومنها قوله - تعالى - : { وَمَآ أُمِرُوۤاْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ حُنَفَآءَ وَيُقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَيُؤْتُواْ ٱلزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ ٱلقَيِّمَةِ } [ البينة : 5 ] ، وقوله - تعالى - : { فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَٰوةَ فَإِخْوَٰنُكُمْ فِي ٱلدِّينِ } [ التوبة : 11 ] ، ولم تدل هذه الآيات على كيفية الصلاة وعددها ؛ إنما دلت على وجوبها ولزوم فرضها ، ودلت آيات أخر على عددها وجمل أوقاتها ؛ قال الله - سبحانه وتعالى - : { أَقِمِ ٱلصَّلاَةَ لِدُلُوكِ ٱلشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ ٱلَّيلِ وَقُرْآنَ ٱلْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ ٱلْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً } [ الإسراء : 78 ] فهذه ثلاثة أوقات ذكر الله - تعالى - فيهن ثلاث صلوات ، روي عن مجاهد ، عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال : سألته عن قول الله - تعالى - { أَقِمِ ٱلصَّلاَةَ لِدُلُوكِ ٱلشَّمْسِ … } [ الإسراء : 78 ] ؛ قال : إذا زالت الشمس عن بطن السماء ، لصلاة : الظهر { إِلَىٰ غَسَقِ ٱلَّيلِ } [ الإسراء : 78 ] قال : بذا صلاة المغرب . وعن ابن عمر - رضي الله عنه - قال : { لِدُلُوكِ ٱلشَّمْسِ } [ الإسراء : 78 ] قال : دلوكها : زيغها بعد نصف النهار ، وهو وقت الظهر . وعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال : دلوكها : زوالها . وعن عبد الله قال : { لِدُلُوكِ ٱلشَّمْسِ } [ الإسراء : 78 ] قال : زوالها . وقد روي عن ابن مسعود وابن عباس قالا : { لِدُلُوكِ ٱلشَّمْسِ } [ الإسراء : 78 ] : غروبها . فأيَّ التأويلين كان دلوك الشمس فقد أوجب فيه صلاة ، وصلاة عند غسق الليل ، وصلاة عند الفجر ؛ فهذه ثلاث صلوات . قال الله - تعالى - : { وَأَقِمِ ٱلصَّلاَةَ طَرَفَيِ ٱلنَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ ٱلَّيْلِ } [ هود : 114 ] ؛ فأحد طرفي النهار يجب فيه صلاة الفجر ، وقد ذكر في هذه الآية ، والطرف الآخر قبل غروب الشمس ؛ فهذه أربعة ، وهي العصر . وروي عن الحسن - رضي الله عنه - أن الصلوات الخمس مجموعة في هذه الآية : { وَأَقِمِ ٱلصَّلاَةَ طَرَفَيِ ٱلنَّهَارِ … } [ هود : 114 ] ، قال صلاة الفجر ، والطرف الآخر : الظهر والعصر : { وَزُلَفاً مِّنَ ٱلَّيْلِ … } [ هود : 114 ] المغرب والعشاء . فأي التأويلين كان فإن صلاة العصر مذكورة في هذه الآية . وعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال : جمعت هذه الآية مواقيت الصلاة : { فَسُبْحَانَ ٱللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ } [ الروم : 17 ] المغرب والعشاء ، { وَحِينَ تُصْبِحُونَ } [ الروم : 17 ] : الفجر ، { وَعَشِيّاً } [ الروم : 18 ] العصر ، { وَحِينَ تُظْهِرُونَ } [ الروم : 18 ] : الظهر . وعن ابن عباس - رضي الله عنه - أيضاً : { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ ٱلشَّمْسِ وَقَبْلَ ٱلْغُرُوبِ } [ ق : 39 ] ؛ قال : الصلاة المكتوبة . دلت هذه الآيات - والله أعلم - أن الله - تعالى - فرض على عباده في كل يوم وليلة خمس صلوات ، وبيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف فرضت الصلاة ؟ ومتى فرضت ؟ . وروي عن عبادة بن الصامت قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهَا اللهُ - تعالى - عَلَى العِبَادِ ، فَمَنْ أَتَى بِهِنَّ لَمْ يُضَيِّعْ مِنْ حَقِّهِنَّ شَيْئاً اسْتِخْفَافاً بِحَقِّهِنَّ ؛ فَإِنَّ لَهُ عِنْدَ اللهِ عَهْداً أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ ، وَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِنَّ فَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ اللهِ عَهْدٌ : إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ ، وَإِنْ شَاءَ أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ " . وعن أبي معبد ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم حين بعث مُعاذاً إلى اليمن قال : " إِنَّكَ تَأْتِي قَوْماً أَهْلَ الكِتَابِ ، فَادْعُهُمْ إِلَى شَهادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ ، فَإِنْ أَطَاعُوكَ لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللهَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ " وعلى ذلك اتفاق الأمة لا اختلاف بينهم ، إلا أن قوماً زعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب بعد ذلك الوتر ؛ بقوله : " إِنَّ اللهَ زَادَكُمْ صَلاَةً ، أَلاَ وَهِيَ الوَتْرُ " . وليس في الكتاب ذكر ولا دليل وجوبه ؛ فتركنا الكلام فيها ، لكن أبا حنيفة - رضي الله عنه - سلك فيها مسلك المكتوبة ؛ احتياطا .