Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 4, Ayat: 116-122)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - عز وجل - : { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذٰلِكَ لِمَن يَشَآءُ … } الآية . في الآية دليل ألا يصير بكل ذنب مشركاً ؛ على ما قاله الخوارج لما قسم الكتاب ، ولا يحتمل إضمار التوبة ؛ لأن الشرك مما : يُغفر بالتوبة ؛ فبطل قولهم . وفيه بطلان قول من يبطل المغفرة في الكبائر بلا توبة ؛ لأن الله - تعالى - جعل لنفسه مشيئة المغفرة ، وذلك فيما في الحكمة دفعه سفه ؛ فلزم الذي ذكرنا الفريقين جميعاً . ثم الذي ينقض قول الخوارج الذين يكفرون بارتكاب الصغائر - ما بلى بها الأنبياء والأولياء ؛ وما يكفر صاحبه - يُسقط النبوة والولاية ، ومن كان وصف إيمانه بالأنبياء - عليهم السلام - هذا ؛ فهو كافر بهم . وعلى المعتزلة في ذلك أن الله وصف الأنبياء - عليهم السلام - بالدعاء له تضرعاً وخيفة ، وخوفاً وطمعاً ، وبكائهم على ما كان منهم من الزلات وتضرعهم إليه ؛ حتى أجيبوا في دعائهم ، ولو لم يكن ذنوبهم بحيث يحتمل التعذيب عليها في الحكمة ، لكان في ذلك تعدى الحد والوصف بالجور والتعوذ به ، وذلك أعظم من الزلات . فهذا ينقض قول المعتزلة في إثبات المغفرة في الصغائر ، وإخراج فعل التعذيب عن الحكمة ، وقول الخوارج بإزالة اسم الإيمان بها ، ولا عصمة إلا بالله . ثم قوله : { لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذٰلِكَ لِمَن يَشَآءُ } - يحتمل : الشرك في الاعتقاد ، وهو أن يشرك غيره في ربوبيته وألوهيته ، وبين أن يشرك غيره في عبادته ؛ ألا ترى أنه قال : - عز وجل - : { أَنَّمَآ إِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ } [ الكهف : 110 ] ثم قال الله - تعالى - في آخره : { وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً } [ الكهف : 110 ] : جعل الإشراك في الألوهية والربوبية ، والإشراكَ في العبادة واحداً ؛ كله شرك بالله ، وبالله التوفيق . ثم قوله : { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذٰلِكَ لِمَن يَشَآءُ } لا يحتمل ما قالت المعتزلة : إنه وعد المغفرة فيما يشاء ، ثم بين ذلك في الصغائر بقوله - تعالى - : { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } [ النساء : 31 ] وقد ثبت الوعيد في الكبائر ؛ بقي الوعد بحقه لم يزل بالذي ذكر لاحتماله . وقيل : قوله : { لِمَن يَشَآءُ } كناية عن الأنفس المغفورات ، لا عن الآثام والأجرام التي تغفر ، لم يجز صرف التخصيص إلى الآثام بالآية المكنى بها عن الأنفس ؛ لأنه لم يقل : ما شاء ، ولكن قال : عز وجل - : { لِمَن يَشَآءُ } ؛ فذلك كناية عن الأنفس . وفي آيات الوعيد تحقيق في الذين جاء بهم ، وفيما جاء على ما قيل : لا صرف في ذلك ؛ فهو أولى . وبعد : فإنه قال : { لِمَن يَشَآءُ } ، والصغائر عندهم مغفورة بالحكمة لا بالوعد ، والآية في التعريف ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَٰثاً } . عن الحسن قال : الإناث : الأموات التي لا روح فيها وكذلك روي عن ابن عباس ، رضي الله عنه . وقيل قوله - تعالى - : { إِلاَّ إِنَٰثاً } : هم الملائكة ؛ لأنهم يقولون : الملائكة بنات الله في السماء ؛ فعبدوها ؛ فإنهم إنما عبدوا الإناث عندهم وفي زعمهم . وقيل : إناثاً من الوثن ؛ وكذلك روي حرف عائشة - رضي الله عنها - أنها كانت تقرأ : " إن يدعون من دونه إلا أوثانا " ، وهو الصنم ؛ سمي إناثاً لما صوروها بصور الإناث ، وحلُّوْها ، وقلدوها قلائد ، وزينوها بزيهم ، ثم يعبدونها لم يعبدوها على ما كان في الأصل ؛ فسمي بذلك . وقيل : سمي إناثاً ؛ لأنهم كانوا يسمون ما يعبدون من الأصنام والأوثان : اللات ، والعزى ، ومناة ، فأسماؤهن أسماء إناث ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَٰناً مَّرِيداً } : أخبر الله - عز جل - [ أنهم ] وإن كانوا يفرون من الشيطان ويأنفونه - فإنهم بعبادتهم الأصنام ؛ والأوثان يعبدون الشيطان ؛ لأن الشيطان هو الذي يدعوهم إلى عبادتهم الأصنام ؛ فكأنهم عبدوه ؛ ألا ترى أن إبراهيم - عليه السلام - قال : { يٰأَبَتِ لاَ تَعْبُدِ ٱلشَّيْطَانَ } [ مريم : 44 ] : جعل عبادة الصنم عبادة للشيطان ؛ حيث قال له : { لاَ تَعْبُدِ ٱلشَّيْطَانَ } [ مريم : 44 ] ؛ فدل أن عبادتهم الأوثان عبادة للشيطان ، وبالله العصمة . وقوله - عز وجل - : { مَّرِيداً } ، قال ابن عباس : المريد : هو العاتي . وقوله - عز وجل - : { لَّعَنَهُ ٱللَّهُ } . اللعنة : هي الإبعاد من رحمة الله ، فسمي : ملعوناً ؛ لأنه مبعد من رحمة الله ، مطرود منها . وقوله - عز وجل - : { وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً } . إنه - لعنه الله - وإن قطع القول فيه : لأتخذن من كذا ، قطعا - فهو ظن في الحقيقة ؛ ألا ترى أنه قال - تعالى - في آية أخرى : { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ } [ سبأ : 20 ] ؛ دل أن ما قاله ، قاله ظنّاً ، لكنه خرج مقطوعاً محققاً ، ولا قوة إلا بالله . وقوله - عز وجل - : { نَصِيباً مَّفْرُوضاً } ، أي : مبيناً معلوماً ، والنصيب المفروض هو ما ذكر : { وَلأُضِلَّنَّهُمْ } إلى آخر ما ذكر { مَّفْرُوضاً } ، أي : مبيناً : من يطيعه ومن لا يطيعه . وقوله - عز وجل - : { وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ } الآية . قيل : هذا إخبار عن الله - تعالى - عبادَهُ عن صنيع اللعين ؛ ليكونوا على حذر منه . ثم قوله : { وَلأُضِلَّنَّهُمْ } - ليس على حقيقة الإضلال ؛ لأنه لا يقدر أن يضل أحداً ، لكنه يدعو إلى الضلال ويزين عليهم طريقه ، ويلبس عليهم طريق الهدى ؛ فذلك معنى إضافة الإضلال إليه ؛ وإلا لم يملك إضلال أحد في الحقيقة ؛ كقوله - تعالى - : { وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ … } الآية [ إبراهيم : 22 ] . ثم إذا ضلوا بدعائه إلى ذلك وتزيينه عليهم سبيله - يمنيهم عند ذلك ؛ حتى يتمنوا أشياء ؛ كقوله : { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ … } الآية [ الأحقاف : 11 ] ، وكقوله - تعالى - { وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ ٱلْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَىٰ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ } [ البقرة : 111 ] ونحو ذلك من الأماني ، وذلك مما يمنيهم الشيطان ، لعنة الله عليه . وعن ابن عباس - رضي الله عنه - : { وَلأُضِلَّنَّهُمْ } ، يعني : عن الدين ، { وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ } أن يصيبوا خيراً لا محالة ؛ ليأمنوا . وفي حرف ابن مسعود : " ولأعدنهم ولأمنينهم ولأحرمن عليهم الأنعام ولآمرنهم فليبدلن خلقك ولآمرنهم فليبتكن " . وقوله : { فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ ٱلأَنْعَٰمِ } . فجعلوها نحراً للأوثان والأصنام التي كانوا يعبدونها . وقوله - عز وجل - : { وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ ٱللَّهِ } . يحتمل هذا وجهين ، سوى ما قال أهل التأويل : أحدهما : أن الله - تعالى - خلق هذا الخلق ؛ ليأمرهم بالتوحيد ، وليجعلوا عبادتهم له ، لا يعبدون دون الله غيره ؛ كقوله - تعالى - : { وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ * مَآ أُرِيدُ مِنْهُم … } الآية [ الذاريات : 56 - 57 ] ؛ فهو دعاهم أن يجعلوا عبادتهم لغير الله ، وهو ما قيل في قوله - عز وجل - : { فِطْرَتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ ٱللَّهِ ذَلِكَ ٱلدِّينُ ٱلْقَيِّمُ } [ الروم : 30 ] ، قيل : لدين الله ؛ فعلى ذلك يحتمل قوله : { فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ ٱللَّهِ } ، أي : عن الذي كان خَلْقُهُ إياهم لذلك ، والله أعلم . والثاني : أنه - عز وجل - خلق الأنعام والبهائم لمنافعهم ، وسخرها لهم ، فهم حرموها على أنفسهم ، وجعلوها للأوثان والأصنام : كالبحيرة ، والسائبة ، والوصيلة ، والحام ؛ منعوا منافعها التي خلقها لهم عن أنفسهم ، وذلك تغيير ما خلق الله لهم ، والله - تعالى - أعلم . وأما أهل التأويل فإنهم قالوا غير الذي ذكرنا : قال بعضهم : قوله : { فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ ٱللَّهِ } : الإخصاء ، وهو قول ابن عباس ، رضي الله عنه . وقال آخرون : هو دين الله . وروي عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال - أيضاً - : دين الله . وقيل : هو ما جاء من النهي عن الواشرة ، والنامصة ، والمتفلجة ، والواصلة ، والواشمة . ولا يحتمل أن يكون خطر بباله يومئذ أنه أراد بتغيير خلق الله ما قالوا من الإخصاء ، أو المثلة ، والواشرة ، والنامصة ؛ لأنه إنما قال ذلك يوم طلب من ربه النظِرة إلى يوم البعث ، ولا يحتمل أن يكون له علم ألا يحل هذا أو النهي عن مثله ؛ إذ قد يجوز أن ترد الشريعة في مثله ؛ لذلك بعد [ هذا ] ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَمَن يَتَّخِذِ ٱلشَّيْطَٰنَ وَلِيّاً مِّن دُونِ ٱللَّهِ } . أي : يطيعه ويجيبه إلى ما دعاه ، ويعبده دون الله . { فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِينا } . في الدنيا والآخرة : أما في الدنيا فذهاب المنافع عنهم التي جعلوها للأصنام والأوثان ، وفي الآخرة العقوبة . وقوله - عز وجل - : { يَعِدُهُمْ } . إما فقراً وإما سعة . { وَيُمَنِّيهِمْ } . هو ما ذكرنا من الأماني وقضاء الشهوات في الدنيا . { وَمَا يَعِدُهُمُ ٱلشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً } . والغرور : هو أن يرى شيئاً يظهر خلافه . { أُوْلَـٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً } . الآية ظاهرة ، قيل : مفرا ، وقيل : ملجأ . وقوله - عز وجل - : { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً } . قد ذكرنا هذا فيما تقدم : أن الإيمان هو التصديق ، والأعمال الصالحات غير التصديق . وقوله - عز وجل - : { وَعْدَ ٱللَّهِ حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ ٱللَّهِ قِيلاً } . تأويل هذا - والله أعلم - أن يقال : إنكم ممن تقبلون الأخبار والقول من الناس ، ثم لا أحد أصدق قولا من الله - تعالى - ولا أنجز وعدا منه ؛ كيف لا تقبلون قوله وخبره أنه بَعْثٌ ، وجنة ، ونار ، وتكذبون قول إبليس أن لا جنة ، ولا نار ، ولا بعث ؟ ! .