Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 4, Ayat: 11-11)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وقوله - عز وجل - : { يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِيۤ أَوْلَٰدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ ٱلأُنْثَيَيْنِ } . قيل : قوله : { يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ } أي : يفرضكم الله ، وقد سمى الله - تعالى - الميراث فريضة في غير آي من القرآن بقوله : { لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ ٱلْوَالِدَانِ وَٱلأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ } ثم قال : { نَصِيباً مَّفْرُوضاً … } [ النساء : 7 ] ، وقال - أيضاً - في آخر هذه الآية { فَرِيضَةً مِّنَ ٱللَّهِ } ، ولأنه شيء تولى الله إيجابه من غير اكتساب أهله ؛ فهو كالفرائض التي أوجبها الله على عباده من غير اكتساب أهلها ؛ فعلى ذلك سمى هذه فريضة ؛ لأن الله تعالى - أوجبه ، والله أعلم . وقيل : قوله : { يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِيۤ أَوْلَٰدِكُمْ } ، أي : يبين الله في أولادكم … إلى آخر ما ذكر . وفيه نسخ الوصية للوالدين والأقربين في قوله : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً ٱلْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَٱلأَقْرَبِينَ } [ البقرة : 180 ] ، ودليل نسخه ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إِنَّ اللهَ - تَعَالَى - أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ ؛ فَلاَ وَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ " . ثم قيل : إن أهل الجاهلية كانوا لا يورثون النساء ولا الصغار من الأولاد والإناث [ في الميراث ] ؛ وإنما كانوا يورثون الرجال ومن يحوز الغنيمة ؛ فنزل قوله : { لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ … } الآية [ النساء : 7 ] ؛ فالآية في بيان الحق للإناث في الميراث ، وكذلك قوله : { يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِيۤ أَوْلَٰدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ ٱلأُنْثَيَيْنِ } فيه بيان حق الميراث للذكور والإناث جميعاً . وقيل : تأويل هذه الآية ما بين في القرآن في ذوي الأرحام ، وإن كانوا مختلفين في سبب ذلك ، وإن الآيات التي بعدها من قوله : { يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِيۤ أَوْلَٰدِكُمْ } إلى آخر الآيات التي فيها ذكر المواريث - فُسر بها مبلغ النصيب الذي أوجبه الله للنساء والرجال في الآية الأولى مجملاً ، وأجمعوا أن الرجل إذا مات وترك ولداً ذكوراً وإناثاً ؛ فالمال بينهم { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ ٱلأُنْثَيَيْنِ } . ويحتمل قوله : { فِيۤ أَوْلَٰدِكُمْ } - أولاد موتاكم ، وهذا جائز في اللغة ؛ لأنه لا يجوز أن يفرض على الرجل قسمة الميراث في أولاده وهو حي ؛ دلَّ أنه أراد أولاد الموتى . أو يحتمل ما ذكرنا أنهم كانوا لا يورثون الإناث من الأولاد والصغار منهم ؛ فخاطب الجملة بذلك ؛ لئلا يحرموا الإناث من الأولاد والصغار منهم . وفي قوله : أيضاً - : { يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِيۤ أَوْلَٰدِكُمْ } ، أي : في أولاد من مات منكم ؛ إذ لا يحتمل خطاب الحي ما ذكر في ولده ؛ فهذا إن كان تأويل " يوصي " : يفرض أو يأمر . وإن كان تأويل ذلك : يُبَيِّن ، فذلك جائز أن يخبر الحي ما بيَّن الله في أولاده بعد موته في ماله ، وذلك يمنع الوصية ؛ لأنه يزيل حق البيان ، ولما يمكن رفع القسمة وتحصيل الوصية على بعض لبعض ، وذلك بعيد ؛ إذ لا يملك في غيرهم . ثم من الناس مَنْ رأي نسخ الوصية للوارث بقوله : { لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ ٱلْوَالِدَانِ … } الآية [ النساء : 7 ] ؛ لأن الآية أوجبت الميراث فيما قل أو كثر ، فلو كانت الوصية تجب للوالدين بقوله - تعالى - : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً ٱلْوَصِيَّةُ … } [ البقرة : 180 ] ، لكان الميراث لا يجب فيما قل منه ، وإنما يجب فيما يفضل منه ، لكن الآية إذا لم تمنع الوصية للأجنبي وهي تصرف السهم المفروض إلى ما يفضل من الوصية ؛ فمثله للوارث ، لكن في الآية دلالة على رفع الكتاب ؛ إذ في الأولى أنها كتبت ، فلما أوجب الحق في كل قليل وكثير لم يبق معه الفرض والوجوب ، ولكن يجب الفضل ، ثم كان حق الوالدين ومن ذكر بحق اللزوم ، وقد سقط ذلك ، وبه كان يجوز ، فلما سقط الحق جاء في الخبر أن " لا وَصِيَّةَ للوَارِثِ " . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ الله قد أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّه ؛ فلا وَصيَّةَ للوَارِثِ " ؛ فسقط الحق بالآية من الوجه الذي ثبت ، والتنفل بقوله : " لا وَصية … " . فمن هذا الوجه الذي ذكرت يسقط حق الوصية بالقرآن ، لكن قد ذكر للمرأة لا بحرف الوجوب بقوله : { مَّتَاعاً إِلَى ٱلْحَوْلِ } [ البقرة : 240 ] ثم سقط - أيضاً - بالخبر [ الذي ذكرنا ] ؛ إذ ليس في الآية ذكر المرأة بما ذكر فيها ميراث الأولاد والأقربين ، وقد بقى حق المتاع ؛ إذ له أن يوصي لغير الورثة ، لكن ذكر في ميراث المرأة وصية ، كقوله : { وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً } [ البقرة : 240 ] من الله ، والوصية منه مكتوبة على ما للوالدين والأقربين ، ثم أشرك الزوجين في ميراث الوالدين والأقربين مما قل أو كثر ، كقوله : " النصف " و " الربع " و " الثمن " مما ترك . وقد بينا أن الآية نسخت ما ذكرت فصارت ناسخة للأمرين جميعاً ، فهذا من جهة الاستخراج في حق النسخ . على أنه على مذهبنا : السنة كافية في بيان نسخ الحكم [ الذي ] بينه الكتاب ؛ إذ هو بيان منتهى الحكم من الوقت ، وقد جعل الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم بحيث البيان مما في القرآن . وقوله - تعالى - : { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ ٱلأُنْثَيَيْنِ } [ النساء : 11 ] : فيه دلالة أن المال كله للذكر من الولد إذا لم يكن ثَمَّة أنثى ؛ لأنه جعل للذكر مثلَيْ ما جعل للأنثى ، وجعل للأنثى النصف إذا لم يكن معها ذكر ؛ بقوله - تعالى - : { وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا ٱلنِّصْفُ } . فدل أن للذكر من الولد إذا جعل له مثلي ما جعل للأنثى عند الجمع ، إنما جعل له ذلك بحق الكل ، ففي حال الانفراد له الكل . وقوله - تعالى - : { فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ ٱثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ } . قال بعضهم : بين الحق لما فوق الثنتين ، ولم يبين للاثنتين ، ولهما النصف الذي ذكر للواحدة ، وهو قول ابن عباس ، رضي الله عنه . وأما عندنا : فإن للاثنتين ما للثلاث فصاعداً ؛ فيكون بيان الحق للثلاث بياناً للاثنتين ؛ لأن الله - تعالى - جعل حق ميراث الواحدة من الأخوات : النصف ؛ بقوله : { وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ } [ النساء : 176 ] ، كما جعل حق الابنة النصف إذا لم يكن معها ذكر بقوله - تعالى - : { وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا ٱلنِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا ٱلسُّدُسُ } ، ثم جعل للأختين الثلثين بقوله : { إِن لَّمْ يَكُنْ لَّهَآ وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا ٱثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا ٱلثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ } [ النساء : 176 ] ، فإذا نزلت الأخوات منزلة البنات في استحقاق النصف إذا كانت واحدة ، واستحقاق الثلثين إذا كانتا اثنتين فصاعداً ؛ فعلى ذلك نزل بيان الحكم في الأختين منزلة بيان الحكم في الابنتين . قيل : يفوق اثنتين اثنتان فما فوقهما . وقيل : بين الكتاب الاستواء [ بين الابنة ] الواحدة والأخت الواحدة ؛ ليعلم استواء حق الولد وولد الأب ، ثم بين في الأخوات للثنتين الثلثان ، وفي البنات لما فوقهما ؛ ليكون الذكر في الأختين دليلاً على الابنتين ، وفيما كثر من البنات على ما كثر من الأخوات ، وأيَّد ذلك أمر الاجتماع بين البنتين والبنات - وإن كثروا - بالإخوة والأخوات - وإن كثروا - مع ما كان معلوماً أن بنات الرجل أحق من بنات أبيه ؛ أيَّد ذلك أن بنات ابنه قد يَرِثْنَ ، وبنات ابن أبيه لا ؛ فلا يجوز أن تكون الأختان أكثر حقا من الابنتين . وفي الأغلب أن يجعل لهن ميراث هؤلاء ، وأيد ذلك أنه ما دام يوجد في الأولاد من له فرض أو فضل - لم يصرف إلى أولاد الأب ؛ ثبت أنهم بمعنى الخلف من هؤلاء ، وعلى ما ذكرت جاءت الآثار ، واجتمع عليه أهل الفتوى . وقوله - عز وجل - : { وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا ٱلسُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ } . اختلف فيه : قال بعضهم : أراد بالولد الذكورَ خاصة ؛ لأنه جعل للأبوين لكُلِّ واحد منهما السدس إذا كان الولد ذكراً ، أما إذا الولد أنثى فللأب يكون الثلث . وأمَّا عندنا : فإن اسم الولد يجمع الذكور والإناث جميعاً . وبعد : فإنه إن كان الولد - هاهنا - ذكراً وأنثى ؛ فينظر : إن كان ذكراً يكون لكل واحد من الأبوين السدس ، والباقي للولد . وإن كان أنثى فلها النصف ، وللأبوين السدسان ، والباقي للأب ؛ على ما جاء في الخبر : " مَا أَبْقَتِ الفَرَائِضُ فِلأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ " . وقالت الروافض : الباقي للابنة ، ذهبوا في ذلك إلى أن الذي يقابل الابنة هو الابن ، والذي يقابل الأب هي الأم ، فالذي يقابلُ الابنة هو أولى بإحراز الميراث من الذي يقابل الأم ؛ وهو الأب ؛ فعلى ذلك الذي يقابل الابن - وهي الابنة - أولى بذلك من الذي يقابل الأم ؛ وهو الأب . وأما عندنا : فإن الأب أولى بذلك من الابنة ؛ لأن للأب حَقَّيْن : حق فريضة ، وحق عصبة : أمَّا حق الفريضة بقوله : { وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا ٱلسُّدُسُ } ، وأما حق العصبة بقوله - عز وجل : { وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ ٱلثُّلُثُ } : جعل الباقي له ؛ فذو حقين أولى بذلك من ذي حق واحد ، والابنة ليس لها إلا حق الفريضة ؛ لذلك كان الأب أولى . وفي الخبر دلالة أن حكم الابنتين وما فوقهما سواء ، وهو الثلثان : ما روي عن جابر بن عبد الله قال : " جاءت امرأة ثابت بن قيس بابنتين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ، هاتان ابنتا ثابت [ بن قيس ] ، أصيبَ معك يوم أحد ، وقد أخذ عمهما مالهما وميراثهما ، ولم يدع لهما شيئاً إلا أخذه ، فما ترى يا رسول الله ؟ فوالله لا تنكحان إلا ولهما مال ، فنزل قوله - تعالى - : { يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِيۤ أَوْلَٰدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ ٱلأُنْثَيَيْنِ } ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعم الجاريتين : " أَعْطهِمَا الثُّلُثَيْنِ ، وَأَعْطِ أمَّهُما الثُّمُنَ ، ولَكَ ما بَقِيَ " " . ثم في الآية دلائل : أحدها : يخرج الخطاب على العموم ، والمراد منه خاص ؛ لأنه ذكر الأولاد ، والولد قد يكون على غير دينه ؛ فلا يرث ، وقد يكون مملوكاً فلا يرث ، على ما روي في الخبر : " لاَ يَتَوَارَث أَهْلُ مِلَّتَيْنِ " ، وما روي : " لا يَرِث المُسْلمُ الكافِرَ وَلاَ الكَافِرُ المُسْلِمَ إِلا العَبْدَ مَوْلاَهُ " ، وذلك في الحقيقة ليس بميراث ، ولكن ما للعبد يكون لمولاه . وفي هذا دليل جواز الاستثناء من غير نوعه ؛ حيث استثنى العبد ، وذلك في الحقيقة ليس بميراث . وفي الآية دليل جواز القياس ، والفكر فيها ، والاعتبار ؛ لأن ميراث الابنتين مستدل عليهما ، غير منصوص ، وكذلك ميراث الذكور من الأولاد بالانفراد مستدل عليه غير منصوص ، وما يحرز الأب من الميراث بحق العصبة مستدل عليه لا منصوص ، وما يستحق بالفريضة فهو منصوصٌ عليه ، وهكذا كل من يستحق شيئاً بحق الفريضة فهو منصوص عليه ؛ فدل أن ما ترك ذكره إنما ترك للاجتهاد ، والتفكر فيه ، والاعتبار . وفيه دليل أنه يجوز ألا يُطْلِع الله عباده على الأشياء بقوله - تعالى - { آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً } إذ لم يبين أيهم أقرب نفعاً ؛ دل قوله { وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ ٱلثُّلُثُ } ؛ إذ ذكر وراثتهما ، ولم يبين حق الأب أنه جعله عصبة يرد إليه الفضل . فيظهرُ للأب بهذه الآية من قوله - تعالى - : { يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ … } إلى آخرها - أمران : أَحَدُهُمَا : حق العصبة . الثاني : حق الفرض بقوله : { لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا ٱلسُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ } . ثم بعد هذا فيه أمران : أحدهما : أنه إذا ثبت له حق العصبة ، وقد بين الله - تعالى - نصيب الابنة أنه النصف ، ونصيب الأب مع الوالد أن له السدس ؛ فزعمت الشيعة أن الفضل يرد إلى الابنة ؛ لأنها ولد ، ولم يذكر له مع الولد إلا السدس . وعندنا : يرد إلى الأب ؛ لأنه لم يذكر للابنة إلا النصف ، ثم قد جعل الأب عصبة فيما له حق الفضل عن المفروض ، ولم يجعل الابنة ؛ لذلك كان الرد إلى الأب أحق مع ما يحتمل إن كان له ولد ذكر ، ثم حرمت الأمُّ بالابنة ؛ إذ هي تحرم بالأخوات ، فالبنات أحق ؛ إذ هن أقرب . والثاني : أنه إذ جعل للأب السهم من وجهين : ثم الذي له في أحد الوجهين صار للجد دون أولاده ، وبين لأولاد الأب الحق ، وإبقاء حق الجدِّ لما بين لولده ؛ فعلى ذلك ما له من الوجه الثاني وهو أولى ؛ لأن حق العصَّاب يخرج على إلحاق الأبعدين فيه بالأقربين ، وحق الفرائض لا ، حتى يبين ، ثم صار الجدُّ أباً في حقِّه من الفرض إذا لم يكن هو فمثله في حق العصبة . ثم فيه وجه آخر : أنه أتبع ذلك الذَّكر ذِكر الزوجين ، وذكرهما مع الولد ، ولم يذكر معهما الولدان ؛ فثبت أن أمرهما يدخل في حالهما فيما كان ، لا في حالهما ؛ أي : الزوجين ، وأيَّد ذلك قوله : إنه بقى حالهما مع الزوجين مع الولد على ما كان عليه دون الزوجين معه ؛ فعلى ذلك حالهما بلا ولد ، وفي ذلك وجوب صرف حقهما إلى ما فضل ، كما ذكر في قوله : { وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ } فيكون الفضل بينهما على ما كان عليه بالكل لولا الزوجان . وقوله : { فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ ٱلسُّدُسُ } . اختلف في حكم الآية من أوجه ثلاثة : قال بعضهم : لا يحجب الأم عن الثلث أخوان ولا أختان ، حتى يكون ثلاثة ؛ لأن الله - تعالى - قال : { إِخْوَةٌ } ، وأقل الإخوة ثلاثة ، وهو قول ابن عباس ، رضي الله عنه . وقال آخرون : يحجب الأم عن الثلث الذكور منهم ؛ ولا تحجب الإناث ؛ لأن الله - تعالى - ذكر الإخوة ، والإخوة اسم للذكور منهم دون الإناث ؛ إذ الإناث اسم على حدة وهو الأخوات ؛ لذلك حجب الذكور ولم يحجب الإناث . وأمَّا عندنا : فإن الإخوة اسم للذكور والإناث جميعاً في الحكم ، وإن لم يكن اسماً لهما جميعاً في الحقيقية ؛ ألا ترى أن الله - تعالى - ذكر الإخوة ثم جعل بالتفسير اسما لهما جميعا بقوله : { وَإِن كَانُوۤاْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَآءً } [ النساء : 176 ] ، دل أن اسم الإخوة يجمع الذكور والإناث جميعا في الحكم ؛ لذلك حجب الأم عن الثلث ذكوراً كانوا أو إناثاً . وأما قولنا : بأن الاثنين يحجبانها عن الثلث : ما روي عن علي وعبد الله وزيد بن ثابت أنهم قالوا : يحجب الأخوان الأم عن الثلث كما يحجبها الثلاثة . وجعلوا الأخوين أخوة والفرائض على اختلافها اتفقت في أن حكم الاثنين حكم الأكثر ؛ فكذلك في حق الحجاب ، والله أعلم . وحجة أخرى : وهي أنَّ الله - تعالى - حكم في { ٱلْكَلاَلَةِ } [ النساء : 176 ] إذا كان واحداً أن له السدس ، { فَإِن كَانُوۤاْ أَكْثَرَ مِن ذٰلِكَ فَهُمْ شُرَكَآءُ فِي ٱلثُّلُثِ } ؛ فجعل حكم الاثنين والثلاثة واحداً يشتركون في الثلث ؛ فوجب أن يكون حكم الاثنين والثلاثة في الإخوة في حجب الأم عن الثلث سواء . وحجة أخرى : وهي أن الله - تعالى - جعل للأختين من الأب والأم الثلثين ، وسوى بين حكم الأختين والثلاث في الميراث ؛ فعلى ذلك يجب أن يستوي حكم الأخوين والثلاث في حجاب الأم عن الثلث . ثم المسألة بيننا وبين الروافض : زعمت الروافض أن الإخوة من الأم لا تحجب الأم عن الثلث ؛ لأنهم منها ، فمن البعيد أن يحجبوها ، ويمنعوا ذلك عنها ، ويجعلون ذلك لغيرها ، يضرون بالأم ويَنْفَعونَ غيرها ؛ وقد قال - تعالى - : { آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ ٱللَّهِ } . والثاني : أن الحجاب قد يجوز أن يقع بمن يحصل له ما حجب عنها نحو الإخوة من الأب والأم إذا حجبوا الأم عن الثلث وقع لهم ذلك ، وأمَّا الإخوة من الأم فإن وقع لهم الحجاب لم يجعل لهم ذلك المحجوب منه ؛ فلا يحتمل الحجاب بهم . وأما عندنا : فإنه ليس لهم بحق القرب والبعد ما يحجبون ، ولكن بحق الميت ، فإذا كان ما ذكرنا ؛ فسواء كانوا من قبل الأم أو من قبل الأب في حق الحجاب . والثاني : أن المواريث جعلت حق الابتداء لا بحق المورثين ؛ لما لا يحتمل أن يختار المورث من هو أبعد على من هو أقرب ، نحو من يموت عن ابنة وابن عم ، لا يحتمل أن يختار ابن العم على الابنة في النصف الباقي ؛ دل أنه على الابتداء . ونقول في الإخوة في الأم : إنهم في الحجاب كالإخوة من الأب والأم ، وإن كان الحق لغيرهم ؛ لما أن الإخوة لما تفرقت حقوقهم ذكرت ، وكذلك الأولاد ، فلو كان الحجابُ يتفرق لكانت الحاجة إلى الذكر لازمة ؛ إذ بعيد ترك الأمر للنظر فيما لا أصل له في الأثر ، ولا أصل له في هذا بالتفريق ؛ بل قد جمع ذلك بين الإخوة والأخوات ، على ما في ذلك من اختلاف الحقوق ؛ [ ثبت ] أن غير الحجاب من الحقوق ليس بأصل له ، والأصل أن ذلك لو كان على اعتبار الحق فهو بحق الميت ، لا بحق الأبوين ؛ لأنه لم يُعرف إيجاب حق ممن لا حق له ، ولا حق لهم مع الأب ؛ فبان أنه بمعتبر حق الميت يقع الحجاب ، والمعنى منه واحد ، ولو كان حجاب الإخوة من الأب بالأب لكان الأب إذن حجب الأم ، فإذا كان هو لا يحجب بان أن ولدها لا يحجبونها ؛ إذ هو بحق الميت . وقوله : { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَآ أَوْ دَيْنٍ } . ذكر الله - تعالى - الوصية قبل الدين ، وأجمع أهلُ العلم أن الدين يبدأ به قبل الوصية والميراث . روي عن علي - رضي الله عنه - قال : تقرءون الوصية قبل الدين ، وقضى محمد - عليه الصلاة والسلام - بالدين قبل الوصية . وروي عن علي - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الدِّيْنُ قَبْلَ الوَصِيَّةِ ، وَالْوَصِيَّةُ قَبْلَ المِيرَاثِ ، وَلاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثِ " . وأجمعوا أنه إذا قضى الدين - دفع إلى أهل الوصايا وصاياهم إلا أن تجاوز الثلث فترد إلى الثلث ؛ إن لم يجز الورثة ، ويقسم الثلثان بين الورثة على فرائض الله تعالى . وليس معنى قول الله - تعالى - : { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَآ أَوْ دَيْنٍ } - أن يخرج الثلث ، فيبدأ بدفعه إلى الموصى لهم ، ثم يدفع الثلثان إلى الورثة ؛ لأن الموصى له شريك الورثة ؛ إن هلك من المال شيء قبل القسمة ذهب من الورثة والموصى له جميعاً ، ويبقى سائر المال بالشركة بينهم . ولكن معناه : من بعد وصية إعلام أن الميراث يجري في المال بعد وضع الوصية من جملته إذا كان الثلث أو دونه ، وإن لم يكن دفع ذلك إلى أصحاب الوصايا ، ثم لم يذكر في الآية قدر الدين والوصية ، ومن قولهم : إن الدين إذا أحاط بالتركة منع الميراث والوصية ، وإذا لم يحط لم يمنع . والوصية تجوز قدر الثلث ، ولا تجوز أكثر من الثلث ، إلا أن يجيز الورثة . والآية لم تخص قدراً من الدَّين دون قدر ، وكذلك الوصية ، لكن تفسيره ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الثُّّلُث والثُّلُث كَثيرٌ " ، وما رُوي في خبر آخر : " إِنَّ اللهَ - تَعَالَى - تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ عِنْدَ وَفَاتِكُمْ زِيَادَةً فِي أَعْمَالِكُمْ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ " ، وما روي في خبر آخر عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - وعمر وعثمان - رضي الله عنهما - : " الخُمُسُ اقْتِصَادٌ ، وَالرُّبُعُ جَهْدٌ ، وَالثُّلُثُ حَيْفٌ " . ثم الوصية جوازها الاستحسان والإفضال من الله تعالى ، والقياس يبطلها ؛ وذلك أن الله - تعالى - لم يملك الخلق أَعيْنَ الأموال ؛ وإنما جعل الانتفاع لهم بها ؛ ألا ترى أنهم نُهوا عن إضاعتها ، ولو كان أعين المال لهم لكان لا مَعْنى للنَّهْي عن إضاعتها ؛ دل أنه إنما جعل لهم الانتفاع فيها إلى وقت موتهم ، وبالموت ينقطع الانتفاع بها ؛ فينظر من الأحق بها بعد الموت : الغريم صاحب الدين ، أو الوارث ، وإلا جواز الوصية الإفضال من الله - تعالى - على عباده بقوله صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ اللهَ تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ عِنْدَ وَفَاتِكُمْ " ؛ دل هذا الخبر أن جوازها الإفضال والاستحسان منه إلى عباده ، والله أعلم . وقوله - تعالى - : { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَآ أَوْ دَيْنٍ } - يدل على أن ما ليس بدين ولم يوصِ به الميت - فإنه لا يخرج من ماله ، ويدخل عندنا في هذا الجنس : الحج يكون على الرجل ، والنذر ، والزكاة ، وأشباه ذلك ، ليس بشيء منها دين ، فإذا لم يوص الميت بها فلا يجب أن تؤدى من التركة إلا أن يُنْفِذَها الورثة . فإن قال قائل : هي دين كسائر الديون . قيل له : أرأيت إن كان عليه دين وزكاة : يبدأ بالدين أو تقسم التركة بالحصص إذا لم يف بذلك كله ؟ فإن قال : يبدأ بالدين ؛ قيل له : لو كانت الزكاة ديناً كديون الناس كانت في القضاء . فإن قال : أجعل الزكاة أسوة في القضاء مع الديون ؛ قيل له : ما تقول في رجل أفلس وعليه ديون : هل يقسم ماله بين غرمائه ؟ فإن قال : نعم ؛ قيل : فإن كانت عليه زكاة هل يضرب لها بسهم ؟ فإن قال : لا ؛ قيل : كيف ضربت لها بسهم بعد الموت لما قسمت ماله ، ولم تضرب لها بسهم في الحياة ؛ إن كانت كسائر الديون بعد الموت ؟ ! فيجب أن تكون كسائر الديون في الحياة ، إلا أن الزكاة حالة واجبة على من كان عنده مال فحال عليه الحول فاستهلكه ، وليس يجوز له تأخير قضاء الدين . وفي إقرارك أنك تبدأ بالدين قبل الزكاة في الحياة دليل على أنه يجب أن يبدأ بالدين قبل الزكاة بعد الموت . فإن قيل : " قول رسول الله صلى الله عليه وسلم للمرأة التي سألت : هل تحج عن أبيها ؟ : " أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكِ دَيْنٌ ، فَقَضَيْتِيهِ أَلَمْ يُجْزِ عَنْهُ ؟ " يدل على أن الحج دين . قيل له : ليس فيه دلالة الوجوب عليها ؛ إنما فيه دليل جواز الحج عن الميت وقبوله ، إذن كان قضاء ما هو أوكد منه من ديون العباد قضاء صحيحاً ؛ فالحج الذي هو دون ذلك في التأكيد أحرى أن يقبل ؛ كأنه أراد هذا ، والله أعلم . ودليل آخر : أن الزكاة لا تجوز أن تؤدى عن الميت إذا لم يوص بها ؛ لأن الزكاة لا تؤدى إلا بنية المزكي ، والنية عمل القلب ، ولا خلاف في أنه لا يُصَلَّى عن الميت ولا يصام عنه ؛ فلما لم يجز أن يُقْضَى عن الميت على الأبدان ، لم يجز أن تقوم نية الورثة في أداء الزكاة مقام نية الميت . قال الشيخ - رحمه الله تعالى - في قوله - عز وجل - : { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَآ أَوْ دَيْنٍ } ظاهره أنه يقد م الوصية على الميراث ، لكن أجمع أن الابتداء به عن حق حد الميراث ، ولكن يوزع ؛ فيخرج التأويل على وجوه : أحدها : أن قوله - تعالى - : { يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ } إلى قوله : { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ } - كأنه سوى ، أي : سواء مالُكُم : أن توصوا ، أوصاكم الله فيه - بكذا . والثاني : أن يكون { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ } ، أي : من بعد ما أوصيتم ، ويكون الميراث بعد الإيصاء . ويحتمل : من بعد أن كان عليكم الإيصاء والدَّيْنَ - أمركم بالمواريث ؛ فيكون فيه نسخ قوله : { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَىٰ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ ٱللَّهِ } ؛ فدلت هذه الآية على حجر بعض الوصايا بقوله - عز وجل - : { غَيْرَ مُضَآرٍّ } ، لكن يحتمل أن تكون المضارة تبطل الفضل ، ويحتمل ألا تبطل ؛ كقوله - تعالى - : { وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً } [ البقرة : 231 ] في الرجعة على إمضاء الرجعة على ذلك ، لكن الإضرار في الرجعة مقصود ، وفي هذا مفضول ، فيمكن التفريق بين الأمرين ، فقال - عز وجل - : { تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ … } الآيتين ، وأوعد جهنم على تعدي [ هذه الحدود ] ، وفي ذلك لا يحتمل مع جواز الفضل ، وأيَّد ذلك قوله : { فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ … } [ البقرة : 182 ] الآية ، ولو كان يجوز لكان لا يملك معه الإصلاح ؛ فثبت أن من الوصايا ما يبطل مع ما كان الله ذكر في المواريث : { فَرِيضَةً مِّنَ ٱللَّهِ } ؛ فلا يُملك إبطال فريضة الله ؛ وبالإذن منه يجوز فعله ؛ لذلك يبطل بعض وصاياه . والأصل في ذلك أن الأموال أنشئت للأحياء ؛ وخُلقت لمنافع الأحياء ، فكأنهم ملكوا منافعها إلى انقضاء آجالهم ، ثم صارت إلى من به ملكوها ، يجعلها لمن يشاء ، ويضعها عند من يشاء . وقد بين - عز وجل - أنها : لمن ، ومن أحق بها ؛ فصار الموصي كأنه أوصى بحقِّ مَنْ بَيْنَ أن مُحِقَّه فيه غيرُهُ ، فإن تفضل الله عليه في ذلك من شيء ، وإلا فذلك كسائر الأملاك التي بينت أربابها ، لم يكن لغيرهم فيها حق إلا بجعل الله أو جعل من له ؛ فعلى ذلك هذا قد جاء عن الله بيان هذه بعد أن بينت هذه الآيات جعل الحق له إلى الثلث ، فذلك له صدقة من الله - تعالى - وفي الفضل إن أجاز المجعول له جاز ، وإلا لا ، والله أعلم . فجعلت للوصية حدّاً ، ولم تجعل للدين ؛ لأن الدين مما يتصل بحوائجه في حال حياته ؛ إذ هو يلزم بالأسباب التي بها معاشه وغذاؤه ؛ فصار مقدماً على المتروك في الحكم ، وإنما جُعلت المواريث في المتروك مع ما كان الغرماء أحق بملكه في حياته بعجزه عن كثير من المعروف في مرضه بهم ، فلو لم يكن لهم الحق لامتنعوا من المداينات إلا بوثائق يكونون هم أحق بها بعد الوفاة من الورثة ، أو يمتنعون من المداينات ، وفي ذلك تقصير القوت والأغذية عن مضي الأجل ، وهو به مأمور ؛ فجعلت الديون كأنها استحقت الإملاك في حال الحياة ؛ فلم تجيء منهم التركة ، وليس كالعبادات ؛ لأنها تجب في الفضول عن الحاجات ، والديون في الأصول ، فليست العبادات بالتي تمنع الوفاء بالآجال ولا كان بأربابها إليها تلك الضرورات ؛ فإنما هي بحق القرب ، وهي عمل الأحياء ، فإذا ماتوا زال الإمكان ، وجرت في الأموال المواريث ، وكذا المعروف من الدين المذكور في القرآن من قوله - عز وجل - : { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَآ أَوْ دَيْنٍ } - أن العبادات لا توصف بالديون ، ولا تفهم من إطلاق القول بالديون ؛ فصارت بمعنى الفضل عن الوصايا والديون إلى أن يؤجل ، وهو الحقيقة ؛ ألا يكون للمولى على عبده دين ؛ فيكون المذكور ديناً في الأفعال ؛ كما ذكرت العِدَاتُ دَيْناً في الأخلاق ، لا في حقيقة الذمم ، مع ما كانت هي لله ، وقد جعل الله له فريضة لأقوام بأعيانهم ، لا تمنع عنهم إ لا بالوصية ، كما جعل للموصى . وعلى أن العبادات لا تقوم إلا بالبينات ، ولا تؤدى عن أحد في حياته إلا بأمره ، وإن احتمل قيام بعض منها عن بعض ، وسائر الديون تجوز دونه ؛ فعلى ذلك بعد الوفاة ، وإن كان كل ما يؤدى به فهو الذي حدّت به الوصية ، وقد جاء الحد لها مع ما كانت العبادات لا تحتمل لحوق الأموات ولا الإيجاب عليهم في أموالهم ، ثبت أنها حقوق الحياة خاصة ، والديون تحتمل ، فهي حقوقهم في الحالين . ثم قد ذكر في الدين { غَيْرَ مُضَآرٍّ } ؛ بل الدين أقرب إلى حرف الثنيا ، ومعلوم أنه لا يقع منه في الديون الظاهرة المعلومة مضارة بالورثة إن كان يقع ، يقع في الغرماء ؛ إذ يؤخذ منه بلا إيصاء ، ولا يحتمل النهي من حيث الغرماء ؛ لما فيه إلزام المكاسب في أوقات العجز لقضاء الديون ؛ فثبت أن ذلك فيما لا يعرف من الديون ؛ وإنما يرجع فيها إلى قوله ؛ فبطل بالذي ذكرته جواز إقراره على كل حال لكل أحد ؛ إذ لا ضرر يقع من حيث فعله فيرد ، وقد بينا أن المضارة في هذا تمنع الجواز ؛ فثبت أن من الإقرار ما لا يجوز ، فقال أصحابنا - رحمهم الله - : لا يجوز إقراره لبعض الورثة وقت الإياس من نفسه ؛ لأنه وقت الإيثار ، والسخاء بما عنده من المال ، ولوقت السخاء ما أبطل وصيته للوارث بما يخرج مخرج الإيثار ، فنحن إذا أجزنا إقراره فيهن لنظره لم يمنع الوصية أن ينتفع ؛ بل يذهب الكل ، وفي الأول لم يكن يذهب ، والله أعلم . ثم الأصل أنه أجيز في الكل بحق الأمانة ، ووصيته بحق الفضل ثم جعل وارثه كمن لا ملك له ؛ إذ قد يقصد به التفضيل والتخصيص إلى القربة ؛ فعلى ذلك فيما خان في الأمانة يجعل كمن لا أمانة له لما يخرج ، على ما بينا ، وإسقاط الأخبار ؛ لتوهم من الأمناء أوجد في الأحكام ، ومن إسقاط المعروف عن الأملاك ، والله أعلم . وعلى ذلك فيما كانت عليه ديون ظاهرة قد يبقى الضرر بأهلها لبعض من له بشأنه عناية ، وفيما بينهما حقوق تحث على المعروف والصلة له وقت السخاء بماله ، وللعلم بأنه عن الانتفاع به عاجز ؛ فيقر لهم ذلك بتهم في الحقوق التي ظهرت ، ثم كانت عبادات الأموال قد تقام عن الأموات بالأمر ، ولا تقام عبادات الأفعال لوجهين : أحدهما : جواز بعض في أحد عن بعض النوعين فيما للعباد بلا أمر في الحياة ، ولا يجوز في الآخر ؛ فمثله العبادات بالأمر . والثاني : أن السبب الذي به تجب عبادات الأموال قد يجوز أن يوجب على نفر بالتحول من ملك إلى ملك ، وما له تجب عبادات الأفعال يجوز فعل ذلك حق القيام بالأفعال ، وعلى ذلك النيات ؛ إذ ليست من الحقوق التي تتصل بالأموال في شيء من الأمور لم يقم بها أحد عن أحد ، لذلك لم يجز إلا بأمر ؛ فيكون الأمر بالأمر لما أمرنا به نادرا ، والله أعلم . وقوله - تعالى - : { آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً } . اختلف فيه : قال بعضهم : هذا في الدنيا ، وهو أن يلزم الابن نفقة والده عند الحاجة والقيام بأمره ، والأب يلزم أن ينفق على ولده في حال صغره ، وعند الحاجة إليه ، والقيام بحفظه ، وتعاهده ، فإذا كان ما ذكرنا لم يدر أيهما أقرب نفعاً : نفع هذا لهذا ، أو هذا لهذا . ويحتمل أن يكون قال : لا تدرون أنتم أي نفع أقرب إليكم : نفع الآباء أو الأبناء ، فإن كان التأويل ما ذكرنا ؛ ففيه دلالة بطلان شهادة [ الوالد لولده ، وشهادة الولد لوالده ] ؛ إذ أخبر أن لهذا نفعاً في مال هذا ولهذا نفعاً في مال هذا ، فإذا ثبت النفع لم تقبل شهادة من يُنتفع بشهادته ؛ ولهذا قال أبو حنيفة - رضي الله عنه - : لا يجوز للوكيل بالبيع أو الشراء أن يبيع من أبيه ، أو ابنه ، أو والدته ؛ لما ينتفع ببيعه منه وبالشرى منه . وكذلك قالوا : إذا اشترى من هؤلاء فليس له أن يبيع مرابحة ، إلا أن يبين ؛ لأنه ينتفع به . وقيل : هذا في الآخرة . ورُوي عن ابن عباس - رضي الله عنه - : { آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً } ، يقول : أطوعكم لله من الآباء والأبناء : أرفعكم درجة عند الله يوم القيامة ؛ [ لأنه - تعالى - ] يُشَفِّعُ المؤمنين بعضهم في بعض . وقيل : قوله : { لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ } أنتم في الدنيا { أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً } ، يقول : أخصّ لكم نفعاً في الآخرة في الدرجات الوالد لولده ، أو الولد لوالده ؛ إذ هم في الدنيا لا يدرون أيهم أقرب لصاحبه نفعاً في الآخرة حتى يرجعوا في الآخرة قال : فإن كان الوالد أرفع درجة في الجنة من ولده رفع الله - تعالى - إليه ولده في درجته ؛ لتقر بذلك عينه ، وإن كان الولد أرفع درجة من والده رفع الله - تعالى - والوالدين إلى الولد في درجته ؛ لتقر بذلك أعينهم برفع الأسفل إلى الأعلى والأدون إلى الأفضل ، وهو كقوله - تعالى - : { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ } [ الطور : 21 ] ، يعني : بإيمان الآباء ، { أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ } [ الطور : 21 ] ، يعني الآباء { مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ } [ الطور : 21 ] . ويحتمل أن يكون هذا في الشفاعة ، أو لا يدري ما ذلك النفع وما مقداره . أو يحتمل قوله : { لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً } : ليس على حقيقة القرب ؛ ولكن على الكبر العظم ، وقد يتكلم بهذا كقوله : { وَمَا نُرِيِهِم مِّنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا } [ الزخرف : 48 ] : ليس على أن آية هي أكبر من أُخرى ، ولكن على وصف الكل منها بالكبر والعظم ؛ فعلى ذلك قوله : { لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً } على وصف كل منهم بالنفع ؛ على الإعظام والإكبار ، والله أعلم . ويحتمل قوله - تعالى - : { أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً } ، أي : أوجب ؛ كقوله : { إِنَّ رَحْمَتَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ ٱلْمُحْسِنِينَ } [ الأعراف : 56 ] أي : واجب للمحسنين ، وغيره من الآيات . وقوله - عز وجل - : { فَرِيضَةً مِّنَ ٱللَّهِ } . سمى الله - تعالى - المواريث فرائض ؛ لأنه كان بإيجاب الله - تعالى - لا باكتساب من الخلق ؛ إذ لم يملك الخلق أعين هذه الأموال ، ولكنه إنما ملكهم المنافع منها ، وإلى وقت وفاتهم فإذا ماتوا صار ذلك المال للذي جعل [ الله ] له ؛ لذلك سمى فرائض . وقوله : { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً } ببدو حالهم ومعاشهم ومصالحهم ، وما يصلح لهم وما لا يصلح { حَكِيماً } فيما فرض من قسمتها وبينها . والحكيم : هو المصيب واضع كل شيء [ في ] موضعه ، والظالم : هو واضع الشيء في غير موضعه .