Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 4, Ayat: 171-173)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - عز وجل - : { يٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ } . والغلو في الدين : هو المجاوزة عن الحد الذي حد لهم ، وكذلك الاعتداء : هو المجاوزة عن الحد الذي [ حد لهم ] في الفعل وفي النطق جميعا . وقال بعضهم : تفسير الغلو ما ذكر : { وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْحَقَّ } ؛ فالقول على الله بما لا يليق [ به ] غلو . وقيل : لا تغلوا : أي لا تَعَمَّقُوا في دينكم ، ولا تَشَدَّدُوا ؛ فيحملكم ذلك على الافتراء على الله ، والقول بما لا يحل ولا يليق . وقوله - عز وجل - : { وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْحَقَّ } . أي : الصدق . وعن ابن عباس - رضي الله عنه - : { لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْحَقَّ } يقول : لا تقولوا لله - تعالى - ولد ولا صاحبة . وفي حرف حفصة - رضي الله عنها - : " ولا تقولوا : الله ثالث ثلاثة ؛ إنما هو إله واحد " . وقوله - عز وجل - : { إِنَّمَا ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ ٱللَّهِ } . الخطاب بقوله : { يٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ } في حقيقة المعنى - للخلق كلهم ؛ لأن [ على كل ] الخلائق ألا يغلوا في دينهم ، وهو في الظاهر في أهل الكتاب ، والمقصود منه النصارى دون غيرهم من أهل الكتاب ؛ حتى يعلم أن ليس في مخرج عموم اللفظ دليل عموم المراد ، ولا في مخرج خصوصة دليل خصوصه ؛ ولكن قد يراد بعموم اللفظ : الخصوص ، بخصوص اللفظ : العموم ؛ فيبطل به قول من يعتقد بعموم اللفظ عموم المراد ، وبخصوص اللفظ خصوصه . ثم افترقت النصارى على ثلاث فرق في عيسى صلى الله عليه وسلم بعد اتفاقهم على أنه ابن مريم : قال بعضهم : هو إله ، ومنهم من يقول : هو ابن الإله ، ومنهم من يقول : هو ثالث ثلاثة : الرب ، والمسيح ، وأمّه ؛ فأكذبهم الله - عز وجل - في قولهم ، وأخبر أنه رسول الله ابن مريم ، ولو كان هو إلهاً لكانت أمه أحق أن تكون إلهاً ؛ لأن أمه كانت قبل عيسى - عليه السلام - ومن كان قبلُ ، أحق بذلك ممن يكون من بعد ، ولأن من اتخذ الولد إنما يتخذ من جوهره ، لا يتخذ من غير جوهره ؛ فلو كان ممن يجوز أن يتخذ ولداً - لم يتخذ من جوهر البشر ؛ كقوله - تعالى - : { لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّآ … } [ الأنبياء : 17 ] . وقوله - عز وجل - : { وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ } . قال بعضهم : كلمته : أن قال له : كن ؛ فكان . لكن الخلائق كلهم في هذا كعيسى ؛ لأن كل الخلائق إنما كانوا بقوله - عز وجل - : كن ؛ فكان ؛ فليس لعيسى - عليه السلام - في ذلك خصوصية . وأصله أنه سمى كلمة الله لما ألقاها إلى مريم ، ولا ندري أية كلمة كانت ؛ وإنما خلقه بكلمته التي ألقاها إليها ؛ فسمي بذلك ، كما خلق آدم من تراب ؛ فنسب إليه ، وحواء خلقها من ضلع آدم ؛ فنسبها إليه ، وسائر الخلائق خلقهم من النطفة ؛ فنسبهم إليها ؛ فعلى ذلك عيسى ، لما خلقه بكلمة ألقاها إليها - نسب إليه ، لكن في آدم وغيره من الخلائق ذكر فيهم التغيير من حال إلى حال ، ولم يذكر ذلك في عيسى ؛ فيحتمل أن يكون له الخصوصية بذلك ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَرُوحٌ مِّنْهُ } [ كقوله - تعالى - : ] { فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا } [ التحريم : 12 ] فسمي لذلك روحاً ؛ لما به كان يحيي الموتى ؛ ألا ترى أنه سمى القرآن روحاً ، وهو قوله - تعالى - : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا } [ الشورى : 52 ] . سماه روحاً ؛ لما به يحيي القلوب ، كما يحيي الأبدان بالأرواح . وقيل : { وَرُوحٌ مِّنْهُ } أي : أحياه الله وجعله روحاً . وقيل : { وَرُوحٌ مِّنْهُ } أي : رسولا منه . وقيل : { وَرُوحٌ مِّنْهُ } أي : أمر منه . وقوله - عز وجل - : { فَآمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ … } . لأن الرسل كلهم لم يدعوكم إلى الذي أنتم عليه أنه ثالث ثلاثة ؛ إنما دعاكم الرسل أنه الله إله واحد لا شريك له ولا ولد . { ٱنتَهُواْ خَيْراً لَّكُمْ } . بما ذكرنا بالآية الأولى . وقوله : { وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ } بالرفع ، أي : لا تقولوا : هو ثلاثة . وقوله - عز وجل - : { سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } . نزه نفسه عن عظيم ما قالوا فيه بأن له ولداً ، ثم أخبر أن له ما في السماوات وما في الأرض ؛ وإنما يُتَّخَذُ الولد لإحدى خصال ثلاث : إما لحاجة تمسه ؛ فيدفعها به عن نفسه ، أو لوحشة تصيبه ؛ فيستأنس به ، أو لخوف غلبة العدو ؛ فيستنصر به ويقهره ، أو لما يخاف الهلاك ؛ فيتخذ الولد ليرث ملكه . فإذا كان الله - سبحانه - يتعالى عن أن تمسه حاجة أو تصيبه وحشة ، أو لملكه زوال - يتعالى عن أن يتخذ ولداً وهو عبده . { وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلاً } . قيل : حافظاً ؛ وقيل : شهيداً . وقيل : الوكيل : هو القائم في الأمور كلها ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { لَّن يَسْتَنكِفَ ٱلْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ وَلاَ ٱلْمَلاۤئِكَةُ ٱلْمُقَرَّبُونَ } . تكلم الناس في هذه الآية : قال الحسن : فيه دليل تفضيل الملائكة على البشر ؛ لأنه قال - عز وجل - : { لَّن يَسْتَنكِفَ ٱلْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ وَلاَ ٱلْمَلاۤئِكَةُ ٱلْمُقَرَّبُونَ } ؛ لأن الثاني يخرج مخرج التأكيد للأول ، وأبداً إنما يذكر ما به يؤكد ؛ إذا كان أفضل منه وأرفع ، لا يكون التأكيد بمثله ولا بما دونه ؛ كما يقال : لا يقدر أن يحمل هذه الخشبة واحد ولا عشرة ، ولا يعمل هذا العمل واحد ولا عدد ؛ فهو على التأكيد يقال ؛ فعلى ذلك الأول : خرج ذكر الملائكة على أثر ذكر المسيح ؛ على التأكيد ، وأبداً إنما يقع التأكيد بما هو أكبر ، لا بما دونه . والثاني : قال : { لاَّ يَعْصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [ التحريم : 6 ] ، وقال - عز جل - : { يُسَبِّحُونَ ٱلَّيلَ وَٱلنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ } [ الأنبياء : 20 ] ، وقالوا : فكيف يستوي حال من يعصي مع حال من لا يعصي ؟ ! وحال من لا يفتر عن عبادته طَرْفَةَ عَيْنٍ مع حال من يرتكب المناهي ؟ ! والثالث : ما قال الله - تعالى - حكاية عن إبليس ؛ حيث قال لآدم وحواء - عليهما السلام - { مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ ٱلْخَالِدِينَ } [ الأعراف : 20 ] . لو لم يكن للملائكة فضل عندهم ومنزلة - ليس ذلك للبشر - لم يكن إبليس بالذي يغرهما بذلك الملك والوعد لهما أنهما يصيران مَلَكَيْنِ ، ولا كان آدم وحواء بالذين يغتران بذلك - دل أن الملك أفضل من البشر . والرابع : أن الأنبياء - صلى الله عليهم وسلم - ما استغفروا لأحد ، إلا بدءوا بالاستغفار لأنفسهم ثم لغيرهم من المؤمنين ؛ كقول نوح صلى الله عليه وسلم : { رَّبِّ ٱغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ … } الآية [ نوح : 28 ] ، وكقول إبراهيم - عليه السلام - { رَبَّنَا ٱغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } [ إبراهيم : 41 ] ، وما أمر [ الله ] - عز وجل - نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بالاستغفار ؛ فقال : { وَٱسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ } الآية [ محمد : 19 ] وقال : { لِّيَغْفِرَ لَكَ ٱللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } [ الفتح : 2 ] وما أمر بذلك ، وما فعلوا ذلك ؛ إلا ما يحتمل ذلك فيهم . والملائكة لم يستغفروا لأنفسهم ؛ ولكنهم طلبوا المغفرة للمؤمنين من البشر ؛ كقوله : { فَٱغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَٱتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ ٱلْجَحِيمِ } [ غافر : 7 ] وإلى هذا ذهب بعض الناس : بتفضيلهم الملائكة على البشر . وقال آخرون بتفضيل البشر على الملائكة ، ولا يجب أن يتكلم في تفضيل البشر على الإطلاق على الملائكة ؛ لأنهم يعملون بالفساد وبكل فسق ، إلا أن يتكلم في تفضيل أهل الفضل من البشر والمعروف منهم بذلك - على الملائكة ؛ فذلك يحتمل أن يتكلم فيه . ويذهب من قال بتفضيل من ذكرنا من البشر على الملائكة - إلى أنه : ليس في قوله تعالى : { لَّن يَسْتَنكِفَ ٱلْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ وَلاَ ٱلْمَلاۤئِكَةُ ٱلْمُقَرَّبُونَ } - [ دلالة ] على أن الملائكة كلهم أفضل منهم ؛ لأنه إنما ذكر " المقربون " ، لم يذكر الملائكة مطلقاً ؛ فيجوز أن يكون لمن ذكر فضل على البشر ، وكلامنا في تفضيل الجوهر على الجوهر ، ولأن البشر ركب فيهم من الشهوات والأماني التي تدعوهم إلى ما فيه الخلاف لله والمعصية له ، وجعل لهم أعداء أمروا بالمجاهدة معهم ، من نحو : أنفسهم ، والشياطين الذين سلطوا عليهم ، ولا كذلك الملائكة ؛ فمن حفظ نفسه ، وصانها ، وأخلصها من بين الأعداء ، وقمع ما ركب فيهم من الشهوات ، والحاجات الداعية إلى الخلاف لله والمعصية له - كان أفضل ممن لا يشغله شيء من ذلك ، والله أعلم . وما ذكر من اغترار آدم وحَوَّاء بقول إبليس : { إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ } [ الأعراف : 20 ] لا يحتمل أن يكون آدم لما خلقه من جوهر البشر ، وأخبر أنه جعله خليفة في الأرض أنه يتناول ما نهي عنه ؛ ليصير من جوهر الملائكة ، ولكنه - والله أعلم - رأي أن الملائكة طبعوا على حب العبادة لله ، ولم يركب فيهم من الشهوات والحاجات التي تشغل المرء عن العبادة لله والطاعة له - فأحب أن يطبع بطبعهم ؛ ليقوم بعبادة الله كما قاموا هم ، والله أعلم . والتكلم في مثل هذا فضل ؛ ذلك إلى الله تعالى ، وإليه التخيّر والإفضال . ثم تأويل قوله عز وجل - والله أعلم - : { لَّن يَسْتَنكِفَ ٱلْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ وَلاَ ٱلْمَلاۤئِكَةُ ٱلْمُقَرَّبُونَ } : وذلك أنهم كانوا يعبدون الملائكة دون الله ، ويعبدون المسيح دونه ؛ فأخبر أن أولئك الذين تعبدونهم أنتم لم يستنكفوا عن عبادتي ؛ فكيف تستنكفون أنتم ؟ ! وقوله - عز وجل - : { وَمَن يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً } . فهو - والله أعلم - على الإضمار ؛ كأنه قال : ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر ، ومن لم يستنكف عن عبادته ولم يستكبر ؛ فيسحشرهم إليه جميعاً . ثم بين جزاء من لم يستنكف عن عبادته ، ومن لم يستكبر ، ومن استنكف واستكبر ، فقال : { فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ … } الآية ، { وَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱسْتَنكَفُواْ وَٱسْتَكْبَرُواْ … } الآية ؛ وإلا لم يكن في الذين استنكفوا مؤمن ؛ بل كانوا كلهم كفاراً ؛ بالاستنكاف والاستكبار عن عبادته . والاستنكاف والاستكبار واحد في الحقيقة ، وقال الكساني : وإنما جمع بينهما ؛ لاختلاف اللفظين ، وهذا من حسن كلام العرب : كقول العرب : كيف حالك ؟ وبالك ؟ والحال والبال واحد ، ومثله في القرآن والشعر كثير . لكن الاستنكاف - والأنفة - لا يضاف إلى الله تعالى ، والاستكبار يضاف ، [ فهما ] من هذا المعنى مختلفان ، وأما في الحقيقة فهما واحد ، والله أعلم .