Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 4, Ayat: 36-37)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - عز وجل - : { وَٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ } . قيل : وَحِّدُوا الله . وقيل : أطيعوا الله . وقد ذكرنا هذا فيما تقدم . { وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً } . يحتمل : النهي عن الإشراك في العبادة والطاعة . ويحتمل : النهي عن الإشراك في الربوبية والألوهية . ويحتمل : النهي عن الإشراك في سلطانه ، وغير ذلك ؛ كل ذلك إشراك بالله ، وبالله العصمة . قال بعض أهل اللغة : العبادة هي الطاعة التي معها الخضوع . وقال بعضهم : التوحيد ، وأصلها : أن يجعل العبد نفسه لله عبداً ، لا يشرك فيها غيره من هوى أو ما كان من وجوه الإشراك . ثم له وجهان : أحدهما : في الاعتقاد . والثاني : في الاستعمال ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَبِٱلْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَاناً } . أمر [ الله - تعالى ] - بالإحسان إلى الوالدين ، وأمر بالإحسان إلى ذي القربى ، واليتامى ، والمساكين … إلى آخر ما ذكر ، لكن المعنى الذي به أمر بالإحسان إلى هؤلاء الأصناف والفرق مختلف : أما إحسان الوالدين : تَشَكُّرٌ لهما بما أحسنا إليه وربياه صغيراً ؛ كقوله : { أَنِ ٱشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ … } [ لقمان : 14 ] وقوله - تعالى - : { فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ … } [ الإسراء : 23 ] الآية { وَقُل رَّبِّ ٱرْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً } [ الإسراء : 24 ] يذكر حال صغره وضعفه أن كيف ربياه ، ويشكر لهما على ذلك ، ويحسن إليهما كما أحسنا إليه وربياه صغيراً ، وقال [ الله ] - عز وجل - أيضاً - : { وَوَصَّيْنَا ٱلإِنسَانَ بِوَٰلِدَيْهِ إِحْسَاناً } [ الأحقاف : 15 ] فإحسان الوالدين جزاء وتشكر لما أنعما هما عليه ، وذلك يكون من جانب [ الولد ] ؛ لأن مثله لا يلزم الوالدين لولده ، وذلك فرض على الولد ، حتى عد عقوق الوالدين من الكبائر ؛ روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أَكْبَرُ الكَبَائِرِ : الإِشْرَاكُ باللهِ ، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ " . والواجب على الرجل أن يطيع والديه وكل واحد منهما ؛ إلا أن يأمراه بمعصية ، أو ينهياه عن أداء فريضة ، أو تأخيرها عن وقتها ، فإن طاعتهما - حينئذٍ - معصية لله ، [ ألا ترى إلى ] قوله - تعالى - : { وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي ٱلدُّنْيَا مَعْرُوفاً } [ لقمان : 15 ] أمره بمصاحبتهما بالمعروف إلا أن يأمراه بمعصية ؛ ولهذا قال أصحابنا - رحمهم الله - : لا ينبغي للرجل أن يقتل أباه الكافر إذا كان محارباً ؛ إلا أن يضطره الأب إلى ذلك ؛ لأنه قال : { وَصَاحِبْهُمَا فِي ٱلدُّنْيَا مَعْرُوفاً } [ لقمان : 15 ] فمن المعروف في الدنيا ألا يقتله ، ولا يشهر عليه السلاح . وقالوا أيضا : إن مات أحدهما تولى دفنه ، وذلك من حسن الصحبة والمعروف . روي أن أبا طالب لما مات قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي : " اذْهَبْ فَوَارِهِ " . ثم في هذه الآية تسوية بين الوالدين فيما أمر له من الإحسان إليهما ، [ و ] لم يجعل للأب فضلا في ذلك على الأم ؛ فذلك يدل على أن إسلام كل واحد من الأبوين إسلام للصغير ؛ إذ كان الإجماع قائماً في أن إسلام الأب إسلام لولده الصغار ، وكذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال : " غَيْرَ أَنَّ أَبَويْهِ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ " . وقوله - عز وجل - : { وَبِذِي ٱلْقُرْبَىٰ } . أمر بالإحسان إلى ذي القربى ، ومعنى الأمر به - والله أعلم - صلة يصل بعضهم بعضاً ، وذلك من جانبين ما يلزم هذا أن يحسن إلى هذا لزم الآخر أن يحسن إليه ، وذلك إبقاء للمودة فيما بينهم والمحبة ، وذلك فرض - أيضاً - أن يصل بعضهم بعضاً ؛ لأن صلة القرابة فريضة . والأمر بالإحسان إلى اليتامى يحتمل وجهين : يحتمل : لما ليس لهم والد يقوم بكفايتهم على ما يقوم له والده ، وأمر بذلك ؛ لما يبر الرجل ولد آخر لمكان والديه ، فإذا مات والده يمتنع عن ذلك ، فأمر أن يحسنوا إليه بعد موت والده على ما كانوا يحسنون في حياته ؛ لأنه في ذلك الوقت أحوج إليه ؛ إذ لا شفقة لأحد عليه ، وشفقة والده معدومة ، والله أعلم . ومعنى الأمر بالإحسان إلى المساكين يحتمل أيضاً وجهين : يحتمل : شكر الله على [ ما ] مَنَّ عليهم وأنعم بالإفضال على أولئك ؛ إذ لم يسبق منهم إلى الله معنى يستوجبون ذلك دونهم ، أمر بالإحسان إليهم ؛ شكراً لما أنعم عليهم وأحسن إليهم . والثاني : أنهم من جوهرهم وجنسهم في الخلقة ؛ يحتاجون إلى ما يحتاج هؤلاء من المأكل ، والمشرب ، والملبس ، وغير ذلك ، يأمرهم بالإحسان إليهم ؛ شفقة منهم لهم ؛ ليتقووا على أداء ما فرض الله عليهم ؛ إذ هم مثلهم في الخلقة والجوهر ، والله أعلم . وهذا الإحسان في اليتامى والمساكين من جانب ليس من جانبين . وقوله - عز وجل - : { وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ } . أمر الله بالإحسان إلى ابن السبيل ؛ للوجهين اللذين وصفتهما في المساكين ، والله أعلم . وقيل : في اليتامى : إنه أمر الأوصياء بالقيام على ما لهم وحفظهم ؛ رحمة لهم ، وباللين لهم . وقوله : { وَٱلْجَارِ ذِي ٱلْقُرْبَىٰ } . وهم ذوو قرابة ، وله حقان : حق الجوار ، وحق الرحم ، كذلك روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم [ أنه ] قال : " الجِيرَانُ ثَلاَثةٌ : جَارٌ لَهُ حَقٌّ وَاحدٌِ ، وَجَارٌ لَهُ حَقَّانِ ، وَجَارٌ لَهُ ثَلاَثَةُ حُقُوقٍ : فَأْمَّا الَّذِي لَهُ حُقُوقٌ ثَلاَثَةٌ : حَقُّ القَرَابَةِ ، وَحَقُّ الإِسْلاَمِ ، وَحَقُّ الجِوَارِ ، وَالَّذِي لَهُ حَقَّانِ : حَقُّ الإِسْلاَمِ ، وَحَقُّ الجِوَارِ ، وَالَّذِي لَهُ حَقٌّ وَاحِدٌ هُوَ حَقُّ الجِوَارِ خَاصَّةً " . وقوله - عز وجل - : { وَٱلْجَارِ ٱلْجُنُبِ } . خص الله - سبحانه وتعالى - الجار الجنب دون غيره من الجيران غير الملازقين ، وكان ذلك دليلاً على أن الحقوق التي تلزم بالجوار إنما تلزم في الجيران الملازقين ؛ لأنهم الجيران بالملك ، يمس ملك بعضهم بعضاً ، ويلصق به ؛ كما في الرحم يمس أنفس بعضهم لبعض ، ولهذا قال أبو حنيفة - رضي الله عنه - : إنه إذا أوصى لجيرانه ، فالوصية للملازقين دون غيرهم ؛ لأنهم هم الذين يلزم لبعضهم على بعض حقوق يقومون بأدائها في حال حياتهم ، فإذا ماتوا فأوصوا إنما أوصوا بأداء ما كان بينهم ، وكذلك قال في الوصية لذوي قرابته : إنها لقرابته الذين يفرض عليهم صلتهم إذا كانوا أحياء ، فإذا مات فأوصى فإنما يوصي بأداء ما كان يؤدي في حال حياته ، وذلك مما عليه الأداء ؛ وفيه دليل على أن الشفعة الواجبة للجار إنما تكون للجار الجنب الملازق دون غيره من الجيران ، وقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم حق الجار ، وأمر بمسامحته . وعن ابن عمر - رضي الله عنه - : قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِيني بالجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ " وفي بعض الأخبار : " مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللهِ وَالْيَوْمِ الآخِر ، فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ " ، وفي بعضها : " مَا آمَنَ مَنْ أَمْسَى شَبْعَاناً وَجَارُهُ جَائِعٌ " . وإذا بيع بجنبه دارٌ أو أرضٌ ، [ فله ] أن يأخذها بالشفعة ؛ لما روي عن عمرو بن الشريد ، عن أبي رافع ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الجَارُ أَحَقُّ بِسَقَبِهِ " وعن عمرو بن الشريد ، عن أبيه قال : قلت : يا رسول الله ، أرض ليس لأحد فيها شرك إلا الجوار ؟ قال : " الجَارُ أَحَقُّ بِسَقَبِهِ مَا كَانَ " . وعن رافع بن خديج قال : عَرَضَ عَلَيَّ سَعدٌ بيتاً له ، فقال : خذه ؛ فإني قد أعطيت به أكثر ممَّا تعطيني ؛ ولكنك أحق به ؛ لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " الجَارُ أَحَقُّ بَسَقَبِهِ " . وعن أبي الزبير ، عن جابر - رضي الله عنه - : أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة بالجوار . وعنه - أيضاً - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الجَارُ أَحَقُّ بِسَقبهِ جَارِهِ إِذَا كَانَ طَرِيقُهُمَا واحداً يَنْتَظِرُ بِهَا وَإِنْ كَانَ غَائِباً " وقول النبي صلى الله عليه وسلم " يُنْتَظَرُ بِهَا وَإِنْ كَانَ غَائِباً " يدل على أنه لا ينتظر بها أكثر من ذلك ؛ وفي ذلك دليل على أن الشفيع إن أمسك عن طلب الشفعة ، وقد علم بالبيع - بطلت شفعته ، ومما يدل على ذلك - أيضا - أن الشفعة إنما جعلت للجار - والله أعلم - بما يخاف عليه من سوء جوار المشتري ، والضرر الذي عسى أن يلحقه منه ، فلو جعلنا الشفيع على شفعته أبداً لم يؤمن أن يبني المشتري في الدار ، وينفق فيها نفقة عظيمة ، ثم يجيء الشفيع فيطلب الشفعة ؛ فيقال للمشتري : سلم الدار وارفع بناءك ، وفي ذلك ضرر عليه بيّن . وعن علي وعبد الله قالا : قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة بالجوار . وعن شريح قال : كتب إليَّ عمر - رضي الله عنه - : أن اقض للجار بالشفعة . وإلى هذا ذهب أصحابنا - رحمهم الله - في إيجاب الشفعة للجار . وأنكر قوم أن تكون الشفعة إلا فيما لم يقسم من الدور والأرضين ، واحتجوا في ذلك بما روي عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة قالا : " قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما [ لم ] يقسم ، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق ، فلا شفعة " . وكذلك روى أبو هريرة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله . لكن تأويل الحديث عندنا - والله أعلم - : أن قوله : " قضى بالشفعة فيما لم يقسم " قول الراوي ؛ لأنه لم يحك عنه أنه قال : لا شفعة فيما قسم ، فيحتمل أن يكون علم ذلك فحكاه ، ولم يعلم بما رواه الآخرون بإيجاب الشفعة فيما قد قسم . وأمّا قوله : " فإذا وقعت الحدود ، فلا شفعة " ، فليس فيه بيان حكاية عن النبي صلى الله عليه وسلم . وقد يجوز أن يكون ذلك من الراوي ، أو أن قال [ ذلك ] إنما قال في القسمة ، لا شفعة في القسمة عندنا . ثم جعل الله - تعالى - للجيران بعضهم على بعض حقوقاً باتصال أملاكهم ، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ أَرَادَ أَنْ يَبِيعَ دَارَهُ فَلْيَسْتَأْذِنْ جَارَهُ " فإذا أراد البائع اختيار الجار الذي لا حق له على الجار الذي له حق ، جعل له إبطال ذلك ؛ إذ ليس غرضه من البيع إلا الثمن ؛ وهو وقد يوجد ذلك من الجار ؛ ولهذا ما توجب الشفعة في الهبات والصدقات مما يجوز أن يقصد بها أسبابا وأحوالا لا يوجد ذلك في الجار ، وأما البيع فالمقصود فيه الثمن . وقوله - عز وجل - : أيضاً : { وَٱلْجَارِ ذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْجَارِ ٱلْجُنُبِ } . والجنب : البعيد ، بيّن - والله أعلم - ليعلم أن الحق الذي ذكر للجار من الإحسان إليه ليس هو بحق القرابة ، بل هو بحق الجوار ، فأمر بالإحسان إلى من له جوار بالملك نحو ما أمر بالاحسان إلى من له جوار بالنسب ، ثم كان الحق قد يفترض بجوار النسب بمال مع ما كانت الصّلة مفروضة فيمن مس ملكُهُ ملكَهُ في الملك وجوبه فيما وقع التَّمَاسُّ بالبدن في البدن . على أن الآية فيما أمر بالإحسان إلى جميع من ذكر قد يصير ذلك حقّاً يلزم بحال ، فمثله حق الجوار ، وذلك لا يعرف غير حق الشفعة ، وقد جاءت به الآثار ، وتوارث المسلمون في ذلك الطلب والاحتيال في الصرف والمنع ؛ فبان أن الحق به ظاهر لا يحتمل الخفاء ، مع ما لا يشك من القوام عن ذلك إلا وعنده حظ من العلم فيه لا يوجد مثله بشيء من الحقوق في غير أملاك المحقين ، هذا البيان والظهور ثبت أن أمره كان معروفاً في الأمة حتى جرى به التوارث . ثم هذا النوع من العلم لا يحتمل انتشاره ونيله بالرأي ؛ فصار كسنة ظاهرة ، لها حق التواتر مع ما يستغنى عن روايته ، والله أعلم . ثم [ اعلم أن ] الناس على اختلافهم متفقون على وجوب حق الشفعة بحق الشرك فيما يحتمل القسمة ، وأما أن يجب بحق القسمة ، فيجب ذلك في كل محتمل القسمة ، وذلك مما يأباه الجميع ، أو يجب بما جعل من حق الجوار الذي جاء به الكتاب ، وجرت به السنة ، أو بما جعل من تأذي بعض الجيران ببعض ، والأمر بالمعروف في الخلق من الاستخبار عن أحوال الجيران قبل تأمل الدور وتفاوت القيم باختلاف الجيران بما في ذلك من المؤن والمضارّ ، وأي هذين كان فالشفعة واجبة بالجوار ؛ لأنهما أمران لا يسلم عنهما على ثبات الجوار ؛ فيجب به الشفعة مع ما أمكن الجمع بين الآثار بما لا يحتمل تسمية الشريك جاراً من حيث الشرك لوجهين : أحدهما : قوله - تعالى - : { وَفِي ٱلأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ } [ الرعد : 4 ] لم يجعل الأرض من حيث الأرض متجاورة حتى أثبت لها القطع ؛ فأوجب بالقطع التجاور مع ما كان الجوار في اللغة اسماً للتقارب والالتصاق ، لا لتداخل معروف ، ذلك عند من تأبى نفسه مكابرة المعارف . والوجه الآخر : ما لا يسمّي الشركاء في عين العرصات جيراناً ، ثبت أن ذلك ليس من أسماء الشرك ؛ فلا وجه لصرف الخبر باسم الجوار إلى الشرك مع ما قد جاء ما يقطع من السؤال عن أرض ليس لأحد فيها شرك إلا الجوار أنه قال : " الجَارُ أَحَقُّ بِسَقَبِهِ … " ، ومما جاء : " الجَارُ أَحَقُّ بِشُفْعَةِ جَارِهِ يُنْتَظَرُ بِهِ وَإِنْ كَانَ غَائِباً " إذا كان طريقهما واحداً ؛ فيجب بما ذكرت صرفه عن الشريك إلى وجه يوافق خبر الجار ، وله أوجه ثلاثة : أحدها : أن قوله : " قضى بالشفعة لشريك لم يقسم " غير مقابل لخبر الجوار ؛ إذ هو أحق في القولين : وما روي من القول : " إِذَا وَقَعَتِ الحُدُودُ وَصُرِفَتِ الطُّرُقُ فَلاَ شُفْعَةَ " فقد يحتمل أن يكون خبراً عن هذا الفعل ألا شفعة في صرف الطريق وإظهار الحدود ؛ إذ القسمة في معنى البيع في الأمور حتى منع الاقتسام في كل ما لا يحتمل التفاضل إلا بما يجوز به ، فقيل : لا شفعة في هذا ، والله أعلم . والثاني : أن يكون إذا كان هذا فلا شفعة لهم مع من لم تقع بينهم الحدود ، ولا صرفت بينهم الطرق ، والله أعلم . والثالث : إذا وقعت الحدود فتباينت ، وصرفت الطرق فتباعدت ؛ إذ فيما لم يتباينا ثم حد ليس واحد من الأمرين ، وإذا احتمل خبر الشرك ما ذكرنا ، ثبت أمر الشفعة بالجوار والشرك جميعاً على الترتيب ، ولا قوة إلا بالله . ولو كان الجنب اسمه لبعيد الجيران بالنسب استحق بما كان الذي به الجوار يلتصقان ، ويكون كل واحد منهما بجنب الآخر ؛ إذ لا يسمى كل بعيد به ، ففيه وجهان : أحدهما : الحق بالاتصال . والثاني : بيان ما به يكون الجوار ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَٱلصَّاحِبِ بِٱلجَنْبِ } اختلف فيه : قال علي - رضي الله عنه - : هي المرأة . وقال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - كذلك أيضاً هي المرأة . وعن ابن عباس - رضي الله عنه - : هو الرفيق في السفر ، وكذلك قول مجاهد . فإن كان الصاحب بالجنب هو المرأة ، فالأمر بالإحسان من جانب ، وإن كان هو الرفيق في السفر فمن جانبين ، ما يلزم هذا يلزم الآخر مثله بحق المصاحبة . وقوله - عز وجل - : { وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُمْ } يحتمل الأمر وجهين : بالإحسان إلى المماليك شكراً لما أنعم عليهم مما جعل لهم من الخولة من جوهرهم وأمثالهم في الخلقة أذلاء تحت أيديهم يستخدمونهم ويستعملونهم في حوائجهم . أو لما هم أمثالهم في الحاجة من المطعم ، والمشرب ، والملبس ، وهم مقهورون في أيديهم ، وقد يترك الرجل النظر لمن هو مقهور في يده ؛ أمر بالنظر إليهم ، والله أعلم . وقد جاءت الآثار في ذلك عن أنس - رضي الله عنه - قال : كانت عامة وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الصَّلاَةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ " . وعن جابر بن عبد الله قال : كان [ رسول الله ] صلى الله عليه وسلم يوصي بالمملوك خيراً ، ويقول : " وَأَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ ، وَأَلْبِسُوهُمْ مِمَّا تَلْبَسُونَ " . وعن علي - رضي الله عنه - قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصي بالصلاة والزكاة وما ملكت [ أيماننا ] . وعن أم سلمة - رضي الله عنها - [ قالت : سمعت رسول الله ] صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في مرضه : " الصَّلاَةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ " فجعل يتكلم وما يقبض بها لسانه . وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال [ رسول الله ] صلى الله عليه وسلم : " لِلْمَمْلُوكِ طَعَامُهُ وَكُسْوَتُهُ ، وَلاَ يُكَلَّفُ مِنَ العَمَلِ مَا لاَ يُطِيقُ " . وعن أنس - رضي الله عنه - قال : كان آخر وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حضرته الوفاة : " الصَّلاَةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ " ، ثم جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يغرغر بها في صدره ، ولا يفصح بها لسانه . وعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في المماليك : " هُمْ إِخْوَانُكُمْ ، وَلَكِنَّ اللهَ خَوَّلَهُمْ إِيَّاكُمْ ، فَأَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ ، وأَلْبِسُوهُمْ مِمَّا تَلْبَسُونَ " . وقوله - عز وجل - : { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً } الآية . قيل : المختال : هو المتكبر . وقيل : هو من الخداع . وقيل : هو الذي يمشي مرحاً ؛ وهو واحد ، يتكبر على عبادة الله - تعالى - أو يتكبر على عباد الله - تعالى - ويخدعهم . وقوله - عز وجل - : { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً } ؛ لأنه لا يحب الاختيال ، وكذا في كل ما ذكر : لا يحب ذا ويحب ذا ؛ كقوله : { وَيُحِبُّ ٱلْمُتَطَهِّرِينَ } [ البقرة : 222 ] والتائبين ، ولا يحب الظالمين ؛ لأنه يحب الطهارة والتوبة ، ولا يحب الظلم ولا الكفر ، فإذا لم يحب هذا ، لم يحب فاعله لفعله وإذا أحب هذا ، أحب فاعله لفعله . وقوله - عز وجل - { ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبُخْلِ … } الآية . يحتمل أن تكون الآية تفسيراً لما تقدم من قوله : { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً } وَوَصْفٌ لهم ؛ إذ لا يتكلم بمثله إلا عن تَقَدُّمِهِ . ويحتمل على الابتداء ؛ كقوله : { ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ … } الآية [ الزخرف : 69 ] . ثم يحتمل وجوهاً : يحتمل قوله : يبخلون بما عندهم من الأموال ، ويأمرون الناس به ، وهكذا دأب كل بخيل أنه يبخل ويأمر به غيره . ويحتمل : يبخلون بما عندهم من العلوم والأحكام ، لم يُعَلِّمُوا غيرهم ، ويأمرون الناس بذلك . ويحتمل قوله : يبخلون بإظهار نعت محمد صلى الله عليه وسلم ويأمرون الناس به ؛ ألا ترى أنه قال : { وَيَكْتُمُونَ مَآ آتَاهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ } أي : يكتمون نعت محمد صلى الله عليه وسلم [ وصفته ] . ويحتمل قوله : { وَيَكْتُمُونَ مَآ آتَاهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ } [ أي : يكتمون ] من العلوم والحكمة . ويحتمل : ما ذكرنا : أنهم يكتمون ويبخلون بما آتاهم الله من فضله من الأموال ، ولا ينفقونها ، وفي ترك الإنفاق والتصدق كتمان ما أنعم الله عليهم ، وعلى ذلك روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " مَنْ أَتَاهُ اللهُ نِعْمَةً فَلْتُرَى عَلَيْهِ " لعله أراد بقوله : " تُرَى عَلَيْهِ " أن ينفقها على نفسه ويتصدق بها ويلبسها . وجائز أن يكون أراد - والله أعلم - الإنفاق والتصدق على غيرهم ، فعلى ذلك كتمان ما آتاهم الله من الأموال إذا تركوا الإنفاق على غيرهم ؛ لأن من كانت له الأموال لا يترك الإنفاق على نفسه . وقيل في قوله : { ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبُخْلِ } نزلت في كعب بن الأشرف كتم نعت محمد صلى الله عليه وسلم وكتب إلى الرؤساء من اليهود في الآفاق يأمرهم بكتمانه . وأيضاً ، في قوله : { يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبُخْلِ } : أي : بما أنعم الله عليهم من الأموال ، أو بما بين لهم من صفات الرسول - عليه أفضل الصلوات - أو بما أمروا به من العبادات ، حملهم على الكفر أحد هذه الأوجه الثلاثة ؛ أو كانوا استحلوا أحدها ، فكفروا بذلك ، لزمهم الذي ذكر في القرآن ، والله أعلم . وكتمانهم يرجع إلى كتمان النعت والحقوق والعبادات في أنفسهم ؛ لئلا يعرفوا بالعدول عليهم عما في كتبهم ، وذلك تحريفهم ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً } . ظاهر ، قد ذكرناه في غير موضع .