Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 4, Ayat: 59-59)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - عز وجل - : { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلأَمْرِ مِنْكُمْ } . فإن قيل : كيف خص الله - تعالى - المؤمنين بالخطاب بالطاعة له وطاعة الرسول والأمر بها يعم المؤمن والكافر جميعاً ؟ . قيل : [ فيه بوجوه ] ثلاثة : أحدها : أن من عادة الملوك أنهم إذا خاطبوا بشيء إنما يخاطبون أهل الشرف والمجد ، ومن كان أسمع لخطابهم ، وأعظم لقولهم ؛ كقوله - عز وجل - : { يٰأَيُّهَا ٱلْمَلأُ أَفْتُونِي فِيۤ أَمْرِي } [ النمل : 32 ] ، وقال - تعالى - : { يٰأَيُّهَا ٱلْمَلأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا } [ النمل : 38 ] يخاطبون [ أبداً ] أهل الشرف والمجد ، ومن هو أقبل لقولهم ، وأطوع لأمرهم ؛ فعلى ذلك خاطب الله - تعالى - المؤمنين وأمرهم أن يطيعوه ويطيعوا رسوله ، وإن كان الخطاب بذلك يعمهم . والثاني : يحتمل أن يكون الخطاب بذلك للمؤمنين خاصّة ؛ لأن الكافر إنما يخاطب باعتقاد الطاعة له أولا ، فإن أجاب إلى ذلك فعند ذلك يخاطب بغيره ، والمؤمن قد اعتقد طاعة ربه ، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم ؛ لذلك خرج الخطاب منه للمؤمنين خاصة ، والله أعلم . ويحتمل : أن يكون تخصيص الخطاب للمؤمنين ؛ لما أمر بطاعة أولي الأمر ؛ ليعلم أنه إنما أمر بطاعة أولي الأمر إذا كانوا مؤمنين ، والله أعلم . ثم فيه دلالة جواز الطاعة لغير الله ؛ لأن كل من عمل بأمر آخر فقد أطاعه ، هو الائتمار للآمر . وأما العبادة فهي إخلاص الشيء بكليته لله - عز وجل - حقيقة ؛ إذ الأشياء كلها لله بكليتها حقيقة ، ليست لأحد سواه ؛ لذلك لم يجز أن يعبد غير الله - تعالى - وقد يجوز أن يطاع غيره ؛ لما ذكرنا أن الطاعة هي الائتمار بالأمر ، وليس العبادة ؛ لذلك افترقا . ثم طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم تكون طاعة لله ؛ لأنه بأمره يطاع ، وفي طاعتهم له طاعته . ثم قيل : قوله - تعالى - : { أَطِيعُواْ ٱللَّهَ } في فرائضه ، و [ رسول الله ] صلى الله عليه وسلم في سنته . وقيل : { أَطِيعُواْ ٱللَّهَ } فيما أمركم ونهاكم في كتابه ، { وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ } صلى الله عليه وسلم فيما أمركم ونهاكم في سنته . ثم اختلف في أولي الأمر : قيل هم الأمراء على السرايا . وقيل : هم العلماء والفقهاء . وقيل : هم أهل الخير . ويحتمل : أولي الأمر : الذين يُوَلَّوْنَ السرايا . فكيفما ما كان ومن كان ، ففيه الدلالة ألا يولي إلا من له العلم والبصر في ذلك ، أمراء السرايا كانوا أو غيرهم ؛ لأنه - عز وجل - أمر بطاعتهم ، ولا يؤمر بطاعة أحد إلا بعلم وبصر يكون له في ذلك . والآية التي تقدمت ، وهو قوله - تعالى - : { وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِٱلْعَدْلِ } يدل على أن أولي الأمر الأمراء ؛ لأنه - تعالى - أمر الحكام في الآية الأولى بالعدل ، وأمر الرعية بالسمع لهم والطاعة فيما يحكمون ويأمرون ، والله أعلم . ألا ترى أنه روي في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يَأَيُّهَا النَّاسُ ، اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا ، وَإِنْ أُمِّرَ عَلَيْكُمْ حَبَشِيٌّ مُجَدَّعٌ فَاسْمَعُوا لَهُ ، وَأَطِيعُوا مَا أَقَامَ فِيكُمْ كِتَابَ اللهِ " . [ و ] عن ابن عمر - رضي الله عنه - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ ، إِلاَّ أَنْ يُؤْمَرَ بِمَعْصِيةٍ ، فَمَنْ أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلاَ سَمْعَ عَلَيْهِ وَلاَ طَاعَةَ " . وبعد : هذه الآية [ و ] التي تليها تدل على أن أولي الأمر هم الفقهاء ، وهو قوله - تعالى - : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ } ، والتنازع يكون بين العلماء ؛ فكأنه - والله أعلم - أمر في آية أولي الأمر بطاعتهم ، وأمر أولي الفقه برد ما يختلفون فيه إلى كتاب الله - تعالى - وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم . والآية تحتمل المعنيين - والله أعلم - : أن [ على ] العامة طاعة أمرائهم في أحكامهم ، وعليهم اتباع علمائهم في فتواهم ؛ يبين ذلك قول الله - تعالى - : { فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي ٱلدِّينِ … } الآية [ التوبة : 122 ] ، فلو لم يجب على قومهم قبول قول علمائهم ما وجب عليهم إنذار قومهم . وفي هذه الآية دليل على إبطال قول الرافضة في الإمامة ؛ لأن الله - تعالى - قال : { أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلأَمْرِ مِنْكُمْ } فليس يخلو أولو الأمر من أحد ثلاثة أوجه : إما أن يكون الأمراء ، أو الفقهاء ، أو الإمام الذي تدعيه الرافضة ، فإن كان المعنى في أولي الأمر : الفقهاء أو الأمراء ، ففيه إبطال قول الرافضة : إنه الإمام الذي يصفونه ، ومحال أن يكون ذلك هو الإمام الذي يذكرونه ؛ لأنه قال [ الله ] - عز وجل - : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ } ، وذلك الإمام عندهم طاعته مفترضة ، وهم بين أظهر المتنازعين عندهم ، ومخالفته كفر في مذهبهم ، فلو كان ذلك كذلك ، لقال - والله أعلم - : " فردوه إلى الإمام ؛ فإن من خالفه فقد كفر " ، ولكنه - عز وجل - أمر برد المتنازع إلى كتاب الله - تعالى - وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ؛ فدل على أن قول أحد لا يقوم في الحجة مقام قول الرسول صلى الله عليه وسلم . وقوله - عز وجل - : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ } قيل : { إِلَى ٱللَّهِ } ، أي : إلى كتاب الله ، أو إلى رسوله صلى الله عليه وسلم إذا كان حيّاً ، فلما مات ، فإلى سنته . واستدل قوم بهذه الآية على إبطال الاجتهاد ، وترك القول إلا بما يوجد في كتاب الله - تعالى - أو في [ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ] نصّاً ، ويقولون : فَنَكِلُ أمره إلى الله - سبحانه وتعالى - ورسوله - عليه أفضل الصلوات وأكمل التحيات - وليس ذلك عندنا . والآية تحتمل وجهين : أحدهما : أن يحمل تأويلها على أن التنازع إذا كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وجب أن يرد إليه - عليه الصلاة والسلام - ويُسأل عن ذلك ، ولا يُستعمل في الحادثة الاجتهاد ولا النظر . فأمّا ما كان من التنازع بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم : فإن حكم الحادثة يطلب في كتاب الله ، أو في سنة [ رسول الله ] صلى الله عليه وسلم أو في إجماع المسلمين ، فإن وجد الحكم في أحدهم بينا وإلا قيل بالاجتهاد . والوجه الثاني : أن يكون المجتهد إذا ما اجتهد فيه إلى كتاب الله - تعالى - وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فيقول : وجدت في الكتاب أو في السنة كذا وكذا ، وهذه الحادثة تشبه هذا الحكم ، فحكمها حكمه ، ويكون رادّاً لحكم الحادثة إلى كتاب الله - تعالى - وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أو شبهها بما وجده من الحكم فيهما . وإذا كان ما وصفنا من تأويل الآية محتملاً ؛ فلا حجة لهم علينا في ذلك ، والله المستعان . وفي الآية دلالة جعل الإجماع حجة ، وهو قوله : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ … } [ الآية ] ، أنه إنما أمر بالرد إلى الله والرسول صلى الله عليه وسلم عند التنازع ؛ لم يأمر عند الإجماع ؛ دل أنه إذا كان ثَمَّ إجماع لا تنازع فيه ، لم يجب الرد إلى ما أودع في الكتاب وفي السنة . وفي الآية دلالة أنه يدرك بالطلب المودع فيه ؛ لأنه لو لم يدرك ، أو ليس ذلك فيه ، لم يكن للرد إلى ذلك معنى ؛ ألا ترى أنه قال [ الله - سبحانه و ] تعالى - : { لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } [ النساء : 83 ] فإنما يستنبط ما فيه ؛ فدل [ أن حكم الحوادث ] مذكور في هذين : في الكتاب ، والسنة ؛ إذ لو لم يكن الفرج عند النظر والطلب ، لكان لا يفيد الأمر بالرد إليهما معنى . ثم لا توجد نصوص في كل ما يتلى ، ثبت أنه مطلوب ، وهو يدل على لزوم البحث في استخراج المودع من المنصوص ، والله أعلم . وفي قوله - أيضاً - : { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ … } الآية - تخصيص المؤمنين على اشتراك الجميع في اللزوم ؛ يخرج على أوجه : أحدها : على مخاطبة الأشراف والنجباء ، وعلى ذلك أمر الملوك في الأمور ، يريدون اشتراك الرعية وأهل المملكة في ذلك ؛ كقوله - سبحانه - : { قَالَتْ يٰأَيُّهَا ٱلْمَلأُ } [ النمل : 29 ] ، وقال سليمان - عليه السلام - : { يٰأَيُّهَا ٱلْمَلأُ } [ النمل : 38 ] ، وقال فرعون للملأ [ : { يٰأَيُّهَا ٱلْملأُ … } [ القصص : 38 ] ] ونحو ذلك ، فمثله الذي نحن فيه ، والله أعلم . والثاني : أنهم مما قد عرفوا الأمور والمناهي ؛ فقيل لهم : { أَطِيعُواْ ٱللَّهَ } وما ذكر ، واعلموا أنهم فيمن أمروا به ونهوا عنه ، ولم يكن من الكفرة علم بالذي يوجهون الأمر إليهم ؛ فلذلك خص من ذكر ، والله أعلم . والثالث : أن الكفرة قد أنكرت المعبود والرسول ، فجرى الخطاب فيمن ثبتت لهم المعرفة بذلك ، مع ما يحتمل : أن يكون هذا الخطاب في الشرائع ، وهي غير لازمة للكفرة ؛ فلذلك كان على ما ذكرت . والرابع : ما أدخل في الخطاب أولي الأمر منا ، ولا يلزمهم طاعتهم ؛ لذلك خص المؤمنين ، وكأن المقصود بالآية بيان طاعة أولي الأمر منا ، وإلا كانت طاعة الله - تعالى - وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم بما كان إيمانهم قد ثبت ، ولكن جمعت طاعة من ذكر ؛ ليعلم أن قد يكون بطاعة أولي الأمر طاعة الله ، والله الموفق . ومما يبين الذي ذكرت أن كل من عرف الإله ، عرف أن عليه طاعته بما عرف اسمه الذي سمت العرب كل معبود : إلهاً ، فمن عرف منهم الإله عرف أنه معبود ، ثم من عرف ما له عنده من الأيادي ، وعليه من النعم على أن عليه شكره وطاعته به . ثم من عرف الرسول صلى الله عليه وسلم ، عرف أن طاعته هي طاعة الله ؛ لأنه إليه يدعو ، وعن أمره ونهيه يأمر وينهي ؛ إذ هو رسول الله صلى الله عليه وسلم منه إلى الخلق ، وليس من عرف الله وعرف الرسول صلى الله عليه وسلم يعرف أن عليه طاعة أولي الأمر بما لم يروا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فبين الله - تعالى - ذلك في هذه الآية ؛ ليعلموا أن طاعتهم هي طاعة الله وطاعة [ رسول الله ] صلى الله عليه وسلم ؛ وذلك هو الدليل على جعل الإجماع حجة ، وأن متبعهم هو مطيع لله - تعالى - إذ صير الله - تعالى - طاعتهم طاعته ، وهم في ذلك الإجماع . وعلى ما ذكرت من شأن الرسول صلى الله عليه وسلم يخرج قوله - تعالى - : { مَّنْ يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ٱللَّهَ … } [ النساء : 80 ] وقوله - تعالى - : { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ } الآية [ النساء : 65 ] صير الواجد حرجاً مما قضى واجداً حرجاً من قضاء الله - تعالى - في نفس حكم الإيمان ؛ وعلى ذلك قوله - تعالى - : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ ٱللَّهِ } [ النساء : 64 ] أي : ليكون عليهم طاعته بأمر الله - تعالى - إذ هي طاعة الله أولا ؛ لتكون طاعته طاعة الله بإذنه وبأمره ، والله الموفق . ثم اختلف في أولي الأمر ، ومعلوم أنهم هم الذين إليهم يرجع تدبير أمور الدين ، وعن آرائهم يصْدرُ وهم الذين تضمنتهم آية أرجو أن يكون فيها الكفاية في تعريف المقصود بها ، وهو قوله - عز وجل - : { وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُوْلِي ٱلأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } [ النساء : 83 ] فجعل أولي الأمر مَنْ عندهم علم الاستنباط ، وشهد لهم بالعلم فيما رد إليهم ؛ فثبت أنهم الفقهاء المعروفون بالاستنباط ورعاية أمور الدين ، وفي هذا - أيضاً - دلالة على إصابتهم فيما أجمعوا عليه ؛ إذ شهد لهم في الجملة بالعلم ؛ وعلى ذلك قوله - تعالى - : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ … } الآية [ آل عمران : 110 ] ، وقوله - تعالى - : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً … } الآية [ البقرة : 143 ] . ثم كانت الشهادات والأمر والنهي للعلماء بهما ؛ ثبت أن الأمر في ذلك ينصرف إلى العلماء ، وأنهم إذا اجتمعوا على شيء بالأمر أو بالنهي ، يكون إجماعاً ؛ لأن ذلك كذلك عند الله - تعالى - وتجوز شهادتهم على جميع العوام ومن تأخرهم ، ومن ذلك في الأمور التي تجري بها البلية والعمل بها في العامة ، مما لا يحتمل خفاء مثله ، على ما ذكرت من الخاص أن ذلك كان عند أولئك الخاص على ذلك ؛ إذا لم يغيروا ولا شهدوا في ذلك بغيره ، وأمراء السرايا لو كانوا أهل البصر في الأمر مع العلم بالشرع والفتيا يلزم فيهم ذلك ؛ لأنهم صيروا في الباب أهل الأمر . وأيد الأول أنهم العلماء - : قوله - تعالى - : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ } ومعلوم أن على العوام لذي الإشكال والحاجة الردّ إلى أولي الأمر بما ذكرت من الآية ، فثبت أن هذا في تنازع العلماء ، وهو يوضح إبطال قول الروافض في جعل أولي الأمر إمامهم ، وإبطال قول من يجعل أولي الأمر كل أمير أو نحوه ، وإنما هم العلماء في كل نوع ، حتى يمكن فيهم التنازع ، وإمامهم واحد لا معنى للتنازع فيهم ، والتنازع إنما يكون عن تدبر وبحث ونظر ، ولا معنى في ذلك للعوام الذين لا يعرفون الأصول والفروع ، والله الموفق . ثم اختلف في تأويل قوله - تعالى - : { فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ } : فقال قوم : كأنه قيل : كِلُوا الأمر فيه إلى الله - تعالى - والرسول صلى الله عليه وسلم ، ولا تجتهدوا فيه ؛ كقوله - تعالى - : { وَمَا ٱخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى ٱللَّهِ } [ الشورى : 10 ] تعالى ، ولأن الاختلاف كان على تأويل الكتاب والسنة ، فكيف يطلب من بعد فيهما ، وبعد الطلب حدث التنازع ؟ ! . وقال قوم : الاختلاف يقع في التأويل بقوله - عز وجل - : { فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ } إلى ظاهر ذلك ، ولا تتأوّلوا فتختلفوا إذ الأول كان على التأويل . وقال قوم : هذا كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يظهر في ذلك نص الحكم والحق في ذلك ؛ فيكون الأمر الذي يتنازع فيه أولو الأرم لم يجز لأحد العمل إلا بالبيان ، ولهم وجه الوصول إلى البيان في الحقيقة ، فأمروا بذلك مع ما كان يجوز أن يكون التنازع في وقت لم يفرغ من بيان جميع ما بالخلق إليه حاجة بالكفاية ؛ إذ كان ذلك الوقت وقت حدوث الشرائع ، ووقت احتمال التناسخ وتبديل الأحكام ، فإن وقع التنازع [ بين المجتهدين ] فلهم مع إشكال التنازع شبهة احتمال أن أصله لم ينزل ، وأن الذي يتضمن حكمه من المنصوص لم يبلغهم في ذلك ، فيجب في ذلك الرد إلى الله - سبحانه وتعالى - بالرد إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم . وأما بعده فقد فرغ من جميع أصول الحوادث التي يعلم الله - سبحانه وتعالى - أنها تقع بيان كفاية ؛ إذ لو لم يبين ذلك القدر لبقي تنازع لا ارتفاعه له ، ولا يجوز الحكم ، ولكان لا يعلم الحادث الذي له أصل يطلب أولاً ، وفي ذلك تمكين المعنى الذي يخرج إلى الرسالة مع ما قد تكلم جميع الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - ومن بعدهم إلى اليوم في الحوادث من غير أن يظهر عن أحد قول بأن هذا هو ما لم ينزل له الأصل ، فصار ذلك إجماعاً في بيان أصول كل حادث ؛ فيجب طلبه في الأصول ، والله أعلم . والأصل : أنه فيما يوكل إلى أحد يوكل إلى من يعلم الحكم ويملك إظهاره ، فلو كان للتنازع يجب الرد إلى الله - تعالى - وترك الحكم في ذلك بالاجتهاد ؛ فإذاً يبطل أن يكون في الرد إليه علم بحكمه إلا للوقت الذي لا يحتاج إلى الحكم ؛ وهو يوم القيامة ؛ على أنه معلوم لو كان يرده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لكان لا يدعهم على ما هم عليه من التنازع الذي هو أصل كل شين وفساد ؛ فعلى ذلك فيما يرد إلى الله ، سبحانه وتعالى . وإذا علم - عز وجل - بجميع النوازل وبجميع ما بالخلق إليه حاجة فصارت النوازل كلها مردودات إليه ؛ فيجب أن يكون فيها ؛ إذ قال [ الله ] - عز وجل - : { فَحُكْمُهُ إِلَى ٱللَّهِ } [ الشورى : 10 ] تعالى ، وإذا لم يحكم فيها لم يصر الحكم إليه ، بل لا حكم فيه إلى الله - تعالى - فلما وجب بالذي ذكرت أن يكون ذلك مما تضمنه البيان - لزم الاجتهاد . ثم لو كان الحق عند التنازع الظاهر دون أن يطلب - على أصح التأويلات - دليل ، لكان لا يجوز التنازع أن يقع ؛ لأن الظاهر قد كان في أيديهم وهو حجة لا يحتمل أن يتركه أحد إلا بالدليل لو كان حجة ، وكان قد قام الدليل على لزوم العدول عن الظاهر بتأويل جميع أولي الأمر في ذلك ؛ فثبت أن دليل ذلك مطلوب يوجد ، ويتفقون عليه إذا أنصفوا ، وأنعموا النظر ، وأعرضوا عن حسن الظن ، ففريق من الأئمة على أن الذي يقوله هؤلاء يقتضي أحكام الحوادث كلها بيقين ؛ فثبت أن أحكامهم مودعات في المنصوص ؛ فصرن متعلقات بالمعاني ، لا بالظواهر . ثم الأصل : أن العمل بالظواهر في محتمل المعاني ومختلف التأويلات ممّا فيه التنازع في الأمة ، وللتنازع أمر بالرد ؛ فبعيد أن يرد إلى ما لم يثبت صحته ، بل في الظاهر وجه في ظاهر الاسم باللسان ، والظاهر من التفاهم في المعتاد ؛ نحو القول بأن اغسلوا وجوهكم ، أنه بأي شيء غسل يستحق اسم الغسل في اللغة ، لكن لما يغسل به عادة في الاستعمال إلى ذلك ينصرف الخطاب ، ويصير الظاهر في المعتاد به أولى من الظاهر في اللسان ، ويكون في ذلك منع الذي ذكر حتى يوضحه دليل ، أو يعلم أنه المعتاد ؛ فيكون ذلك دليلاً ، والله أعلم . ثم لا يحتمل التنازع فيما فيه المعتاد من التفاهم والعدول عنه إلا بدليل ؛ فيجب القول لمن عدل إن كان عنده دليل ؛ فيكون بما يوجب العمل منع ، والله أعلم . ثم قيل في قوله - تعالى - : { أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ } بأوجه ثلاثة : { أَطِيعُواْ ٱللَّهَ } - تعالى - فيما أمر ، والرسول صلى الله عليه وسلم فيما بلغ ، وأطيعوا الله فيما فرض ، والرسول فيما سن ، وأطيعوا الله - عز وجل - فيما أنزل ونص ، والرسول فيما بين . والأصل في معهود اللسان : أن الطاعة تكون في الائتمار ، فرسول الله صلى الله عليه وسلم مطاع في جميع ما أمر ، لازم طاعته في ذلك وأمره - إذا ثبت أنه أمره - هو أمر الله - تعالى - وطاعته صلى الله عليه وسلم طاعة الله - عز وجل - وله يجب به ظهور الخصوص والعموم والتناسخ جميعاً ، وبه تبين الفرض والأدب وكل نوع ، وما يظهر ، فبالله - تعالى - ظهر على لسانه صلى الله عليه وسلم : كتاباً كان ، أو تنزيلا كان ، أو تأويلاً ، فالتقسيم بين الذي لله - عز وجل - والذي لرسوله صلى الله عليه وسلم يوجب الشبهة ، وَتَوَهُّم الاختلاف ، جل الله - عز وجل - أن يبعث رسولا يخالفه ، وبالله المعونة [ والتوفيق ] . وقوله - عز وجل - : { ذٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } . يحتمل قوله - عز وجل - : { ذٰلِكَ خَيْرٌ } أي : ذلك الرد خير إلى ما ذكر . ويحتمل : { ذٰلِكَ خَيْرٌ } أي : الائتلاف فيما أمكن فيه خير من الاختلاف وأحمد . وقوله - عز وجل - : { وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } أي : عاقبة . وقيل : { وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } أي : خبراً . وفي حرف حفصة : " ذلك خير وأحسن ثواباً " . وعن ابن عباس : { ذٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } قال : القرآن أحسن تأويلا .