Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 43, Ayat: 79-89)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - عز وجل - : { أَمْ أَبْرَمُوۤاْ أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ } . ثم يحتمل أن يكون ما ذكر من إبرامهم أمراً ما ذكر في آية أخرى ، وهو قوله تعالى : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } [ الأنفال : 30 ] إبرامهم أمرا : هو مكرهم الذي مكروا برسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذكر ، والله أعلم . ويحتمل : أن يكون إبرامهم الذي ذكر غير ذلك ، وكيفما كان ، ففيه وجهان من الدلالة : أحدهما : ليعلموا أن الله - تعالى - عالم سميع بما يبرمون فيما بينهم من أمر سرّاً ؛ لأنه في ظنهم أن الله لا يعلم ولا يسمع ما يبرمون من الأمر سرّاً ، ولذلك قال تعالى : { أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم } . والثاني : فيه دلالة إثبات الرسالة ؛ لأنهم أبرموا ذلك الأمر فيما بينهم سرّاً ، ثم أخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أبرموا وأحكموا من الأمر ؛ ليعرفوا أنه إنما علم ذلك بالله تعالى . وقوله - عز وجل - : { فَإِنَّا مُبْرِمُونَ } . يحتمل : فإنا جازون جزاء إبرامهم . ويحتمل : { فَإِنَّا مُبْرِمُونَ } أي : إلينا يرجع تدبير إبرامهم الأمر ومكرهم جميعاً ؛ وعلى ذلك قوله : { فَلِلَّهِ ٱلْمَكْرُ جَمِيعاً } [ الرعد : 42 ] على هذين الوجهين اللذين ذكرناهما . وقوله - عز وجل - : { أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم } . أي : بل يحسبون على ما ذكرنا : أن حرف الاستفهام منه يخرج على الإيجاب ؛ كأنه قال : بل يحسبون ؛ ألا ترى أنه قال : { بَلَىٰ وَرُسُلُنَا } . وقوله : { بَلَىٰ وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ } . هذا وعيد وتنبيه منه لهم ؛ يخبر أن رسله يكتبون ما يسترون ويخفون من المنكر وغيره ؛ ليكونوا أبدا على حذر ويقظة ، والله أعلم . وقوله : { قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَـٰنِ وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْعَابِدِينَ } له بالتعالي والتنزيه عن الولد ، أي : وأنا أول من يعبد الرحمن بالإيمان والتصديق أنه ليس له ولد ، على هذا أعبد الله تعالى . والثاني : ما كان للرحمن ولد فأنا أول الآنفين ، وهو من عَبِدَ يَعْبِد ، أي : أنف يأنف ، فيكون هذا تنزيه تَصريحٍ عن الولد ، والأول تنزيه له بالكناية ، هذا إذا كان معنى قوله : { قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَـٰنِ وَلَدٌ } ما كان للرحمن ولد . ثم قوله - عز وجل - : { فَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْعَابِدِينَ } يخرج على التأويل - أيضاً - على وجهين : أحدهما : أي : لو كان للرحمن ولد على زعمكم وعلى ما عندكم فأنا أول من أتبرأ عن أن يكون له ولد ، وأدعوكم إلى الرحمن الذي لا ولد له ، وهو كقوله - تعالى - : { أَيْنَ شُرَكَآئِيَ ٱلَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } [ القصص : 62 - 74 ] أي : أين شركائي [ الذين ] تزعمون أنتم أنهم شركاء ؟ وقوله تعالى : { وَٱنظُرْ إِلَىٰ إِلَـٰهِكَ ٱلَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً } [ طه : 97 ] أي : انظر إلى إلهك الذي هو في زعمك إله . والثاني : يحتمل أن يقول له : قل : لو كان يجوز أو يحتمل أن يكون له ولد ، فأنا أول من أعبده على ذلك ، أو أول من أقول أنا بذلك ، فإذ لم أقل بذلك وأنا رسول الله ، فظهر أنه لا يحتمل ولا يجوز أن يكون له ولد ، وهو كقوله - تعالى - : { لَّوْ أَرَادَ ٱللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لاَّصْطَفَىٰ مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ } [ الزمر : 4 ] أي : لو كان يجوز أن يريد الله أن يتخذ ولداً لاصطفى ممن عنده وممن شاء ، لا مما هو عندكم ومما تختارون أنتم ، لكن لا يحتمل ولا يجوز أن يتخذ ولداً . وقال بعضهم في قوله - تعالى - : { قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَـٰنِ وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْعَابِدِينَ } يقول : كما أني لست أول من عبد الله ، فكذلك ليس للرحمن ولد ؛ كقول الرجل : لو كان ما تقول حقّاً فأنا حمار ، معناه : ليس الذي تقوله بحق ، كما أني لست بحمار ، والله أعلم . [ ثم ] نزه نفسه عن الولد ، وأنه لا يجوز أن يكون له ولد حيث قال : { سُبْحَانَ رَبِّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ رَبِّ ٱلْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ } أي : رب السماوات ، ورب الأرض ، ورب من فيهن ، ورب العرش . قال أهل التأويل : أي : رب السرير . لكن لا يحتمل أن يكون تأويل العرش - هاهنا - السرير ، فينسب إلى السرير ، فيقال : رب السرير ، ويجوز لغيره - أيضاً - أن يقال له : رب السرير ، فيثبت المشاركة في النسبة بينه وبين الخلق ، إلا أن يقال : إن لذلك السرير عند الخلائق موقعاً وقدراً عظيماً يليق القسم به ، وإنه من أعظم المخلوقات وأعجبها ، فكان نسبة هذا إلى الله - سبحانه وتعالى - من باب التعظيم والإجلال له بمنزلة نسبة كل العالم إليه ؛ فيكون جائزاً ، والله أعلم . ويحتمل أن يكون تأويل العرش - هاهنا - هو الملك ؛ يقول : سبحان رب السماوات والأرض ورب الملك عما يصفون ، ثم قد بينا حكمة ذكر السماوات والأرض على إثر ذكر الولد في غير موضع . وقوله - عز وجل - : { فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ } هذا - في الظاهر - أمر بتركهم على ما هم عليه من الخوض واللعب وغيره ، ومثل هذا مما لا يليق بالحكمة ؛ إذ هو حرام في العقل ، لكن يخرج على الوعيد ، وإن كان صيغته صيغة الأمر ، كقوله : { ٱعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ } [ فصلت : 40 ] هو في الظاهر وإن كان أمراً فهو في الحقيقة وعيد ، فعلى ذلك هذا يخرج على الوعيد . ويحتمل أن يخرج على ترك المكافأة على ما يصنعون من الاستهزاء بهم ، والأنواع من الأذى إلى اليوم الذي يلاقون ويعاينون العذاب حين لا تنفعهم الندامة في الرجوع في ذلك اليوم . وأصل ذلك أن الله - تعالى - قد أوعدهم بمواعيد شديدة ، ووعظهم بمواعظ بليغة ، فلم تنجع تلك المواعيد فيهم ، ولا نفعهم شيء من ذلك . والثاني : قد بين ما يزيل عنهم الشبه ، وما يوجب التعلق به ، [ و ] أوضح لهم طريق الحق والهدى ، فلم يسلكوا مسلك طريق الحق ، فأوعد لهم بما ذكر في ذلك اليوم ما لا تنفعهم ندامتهم في ذلك الوقت ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَهُوَ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمآءِ إِلَـٰهٌ وَفِي ٱلأَرْضِ إِلَـٰهٌ } الإله في اللغة هو المعبود ؛ كأنه يقول - والله أعلم - : إنكم تعلمون أن الله - تعالى - هو المعبود في السماء ، وهو المعبود في الأرض ، والأصنام التي تعبدونها أنتم لا يعبدها إلا أنتم ، فكيف تركتم عبادة المعبود الذي هو معبود في السماء والأرض ، واخترتم عبادة من ليس بمعبود إلا بعبادتكم ؟ ! . ويحتمل أن يقول : تعلمون أنتم أن الله - سبحانه وتعالى - هو إله السماء والأرض وإله من فيهما وما فيهما ، وأنه خالق ذلك كله ؛ لقوله : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ } [ لقمان : 25 ] والأصنام التي تعبدونها لم يفعلوا ذلك ، ولا يملكون شيئاً من ذلك ، فكيف اتخذتموها آلهة دونه ؟ ! والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَهُوَ ٱلْحَكِيمُ ٱلْعَلِيمُ } ذكر الحكيم والعليم على إثر ذلك يخرج على وجهين : أحدهما : لسؤال الثنوية : أن الله - عز وجل - لا يجوز أن يبسط الرزق ويوسع الدنيا على من يعلم أنه يعاديه ويشتمه ، ويعادي أولياءه ويشتمهم ؛ لأن في الشاهد من يصنع إلى من يعلم أنه يعاديه معروفاً فليس بحكيم ، فعلى ذلك يقولون : إن ذلك ليس من الله - تعالى - ولكنه من إله غيره سفيه ؛ لأنه وصف نفسه بالحكمة ، وأنه يزيل الحكمة . و [ الثاني ] : لقول البراهمة في إنكارهم الرسالة أصلا ، يقولون : ليس من الحكمة بعث الرسل إلى من يعلم أنه يكذبه ويكذب رسله ولا يقبل رسالته ؛ بل يقتله ويعاديه ؛ لذلك ينكرون رسالة الرسل ، فأخبر - تعالى - بقوله : { وَهُوَ ٱلْحَكِيمُ ٱلْعَلِيمُ } أن إعطائي إياهم ما أعطيتهم وبعثي الرسل إليهم على علم مني بما يكون منهم من التكذيب والعداوة - لا يخرجني عن الحكمة ، ويخرج فاعل ذلك في الشاهد عن الحكمة ؛ لأن ملوك الأرض إنما يرسلون الرسل ويبعثون الهدايا لمنافع أنفسهم ولحاجتهم ، فإذا علموا من المبعوث إليهم الرسل والمصنوع إليهم المعروف ما ذكرنا - خرج من الحكمة ، فأما الله - تعالى - إنما بعث الرسل لحاجة المبعوث إليهم ، ولمنافع أنفسهم ، فكذلك ما يعطيهم من الدنيا لمنافع أنفسهم ؛ فلم يخرج بذلك من الحكمة ؛ لأنه لا تضره معاداة من عاداه ، ولا تنفعه موالاة من والاه ؛ بل كل ذلك راجع إليهم ؛ بل صنع ما يصنع من المعروف إلى من يعلم أنه يعاديه يكون وصفاً له بغاية الكرم والجود ، كذلك ما ذكرنا ، وبطل قوله الثنوية والبراهمة ، والله الموفق . وقوله - عز وجل - : { وَتَبَارَكَ ٱلَّذِي لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا } قوله : { وَتَبَارَكَ } قال أهل التأويل : أي : تعالى وتعاظم عما قالت الملاحدة فيه من الشريك ، والولد ، والصاحبة ، وغير ذلك مما لا يليق به ، ولا يجوز ؛ فيكون تنزيهاً عن جميع ما قالوا فيه ، وهو كحرف { سُبْحَانَ } الذي يكون تنزيهاً عما قالوا فيه ، والله أعلم . قال بعض أهل الأدب : { وَتَبَارَكَ } هو من البركة ، لكن بعض العلماء قالوا : إن هذا التأويل لا يصح ؛ لأن قوله : { وَتَبَارَكَ } هو من وقوع البركة بنفسه ، فهو اسم ملازم ، ولا يجوز أن يوصف الله - تعالى - بوقوع البركة ، لكن عندنا { وَتَبَارَكَ } هو تفاعل ، والتفاعل هو فعل اثنين ؛ فجائز نسبة البركة إليهما على حقيقة وقوعها بأحدهما وهو الخلق للإيصال ؛ على ما هو الأصل في مثل هذا ، وله نظائر كثيرة . وأصل تأويل { وَتَبَارَكَ } : ما قاله أهل التأويل : تعالى وتعاظم عن جميع ما قالت الملاحدة فيه مما لا يليق به من الولد ، والشريك ، وغير ذلك ، لكن هو على التأويل ، لا على تحقيق الاسم ، فنظيره ما فسروا في قوله [ صلى الله عليه وسلم ] : " وتعالى جدُّك " أي : عظمتك ، والجد هو في الحقيقة ليس هو اسم العظمة ، ولكن هو خروج الأمر على ما يريد ويشاء ، ويسميه الناس فيما بينهم بالفارسية : بختا ، فسروا الجد بالعظمة ؛ لنفاذ مشيئة العظيم ، وخروج الأمور على ما يريده ويشاؤه ، فعلى ذلك تفسيرهم { وَتَبَارَكَ } بما قالوا : تعالى وتعاظم على التأويل ، لا على تحقيق الاسم ؛ إذ هو من البركة ، لكن كل من بورك فيه صار متعالياً ، فأطلقوا عليه { وَتَبَارَكَ } بمعنى : تعالى ، لا بمعنى حقيقة الاسم ، والله أعلم . ثم قوله : { وَتَبَارَكَ ٱلَّذِي لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا } بيان منه وتعليم للخلق ما يجوز النسبة [ له ] فقال : { لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } ، وقال : { وَلَهُ مَا فِي ٱلْسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } [ النحل : 52 ] ، ونحو ذلك ، يبين لهم أن ينسبوا إليه هذا ، ولا ينسبوا إليه من الولد ، والشريك ، والصاحبة ونحو ذلك ؛ لأن نسبة الأشياء بكليتها يخرج مخرج الوصف له بالعظمة والجلال ، نحو ما ذكرنا من قوله - تعالى - : { لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } وقوله : { وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [ البقرة : 29 ] ، [ وقوله : ] { وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ المائدة : 120 ] ، وقوله : { خَٰلِقُ كُلِّ شَيْءٍ } [ الأنعام : 102 ] ، ونسبة خاصية الأشياء إليه يخرج مخرج التعظيم والتبجيل لتلك الأشياء ، ثم ينظر بعد هذا : فإن كانت تلك الأشياء الخاصة مما يجوز تعظيمها نسبت إليه وأضيفت ، نحو قوله : بيت الله ، ومساجد الله ، ورسول الله ، وغير ذلك من الأشياء التي عظمها الله - تعالى - ورفع قدرها ومنزلتها عنده ، وإن كانت الأشياء مما يستقذر ويستقبح ويسترذل فلا يجوز النسبة إليه والإضافة ؛ لما ذكرنا أن نسبتها إليه وإضافتها يخرج مخرج التعظيم لها ، وهي ليست بمعظمة ، ولكنها مسترذلة مستقذرة ؛ فيكون وضع الشيء غير موضعه ، وأنه خلاف الحكمة ، والله الموفق . وقوله - عز وجل - : { وَعِندَهُ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ } يخرج على وجوه : أحدها : أي : عنده علم ساعة : الصعقة ؛ كقوله - تعالى - : { وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ … } الآية [ الزمر : 68 ] . ويحتمل { وَعِندَهُ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ } : الزلزلة ؛ كقوله : { إِنَّ زَلْزَلَةَ ٱلسَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ } [ الحج : 1 ] . ويحتمل : { وَعِندَهُ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ } : الفزع والهول ؛ كقوله : { فَفَزِعَ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ … } الآية [ النمل : 87 ] . ويحتمل : { وَعِندَهُ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ } : القيامة ؛ كقوله - تعالى - : { يَوْمَ يَقُومُ ٱلنَّاسُ لِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [ المطففين : 6 ] ، ونحو ذلك ، والله أعلم . أخبر أنه لم يطلع الله - عز وجل - على حقيقة ما ذكر أحداً من خلقه . وقوله : { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } قد ذكرنا في غير موضع : أن تخصيص ذلك بالرجوع إليه يخرج على وجوه ، وإن كانوا في جميع الأحوال راجعين فيه إلى الله - تعالى - صائرين إليه : أحدها : لأن المقصود من إنشائهم ذلك - أعني : البعث - كي لا يكون خلقهم عبثاً ، على ما ذكرنا غير مرة . ويحتمل أنه خص ذلك اليوم بالرجوع إليه والمصير والخروج ؛ لأنه يومئذ يخلص خروجهم ورجوعهم إليه وانقيادهم له ، وقد ذكرناه ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَلاَ يَمْلِكُ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ ٱلشَّفَاعَةَ } إن قوماً كانوا يعبدون الملائكة ؛ رجاء أن يكونوا لهم شفعاء ؛ لما عرفوا من خصوصيتهم وفضلهم عند الله - تعالى - وذلك معروف في الناس أنهم يخدمون ويكرمون خواص ملوكهم رجاء أن يشفع لهم أولئك الخواص عند الملك إذا نزل بهم بلاء ووقعت لهم حاجة يوماً من الدهر ، فعلى ذلك هؤلاء الكفرة كانوا يعبدون الملائكة ؛ لما عرفوا من خصوصيتهم وفضل منزلتهم عند الله تعالى . ثم أخبر - عز وجل - عن الملائكة أنهم لا يملكون الشفاعة بقوله : { وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ٱرْتَضَىٰ } [ الأنبياء : 28 ] وهو قوله : { إِلاَّ مَن شَهِدَ بِٱلْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } ، أي : إلا لمن شهد بوحدانية الله - تعالى - وألوهيته ، لا يشفعون لأولئك ، إنما يشفعون لمن ذكر ، وإن كانت لهم خصوصية عند الله - تعالى - لأن الله - عز وجل - نهى أولئك أن يعبدوا الملائكة ويعظموهم من جهة العبادة ؛ لذلك لا يملكون الشفاعة لهم ؛ فيكون مثل هذا مثل ملك نهى قومه أن يخدموا أو يعظموا أحداً سواه من خواصه ، فإذا فعلوا ذلك وخدموهم وتركوا نهيه لا يملك أولئك الخواص ولا يتجاسرون على طلب الشفاعة عند الملك لأولئك الذين نهاهم الملك أن يخدموهم ويعظموهم دونه ، فعلى ذلك الملائكة ، لم يجعل لهم شفاعة لأولئك الذين عبدوهم دونه إلا لمن ذكر ، وهم : الذين شهدوا بالحق ، وقاموا بعبادة الله - تعالى - فقد أذن الله لهم بالشفاعة لأولئك ، والله أعلم . ويحتمل أن يكون قوله : { وَلاَ يَمْلِكُ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ ٱلشَّفَاعَةَ } أي : لو كانت لهم الشفاعة لكانت لا تنفعهم ؛ كقوله - تعالى : { فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ ٱلشَّافِعِينَ } [ المدثر : 48 ] أي : لو كانت لهم شفعاء لكانت لا تنفعهم شفاعتهم ، ليس أن يكون لهم شفاعة أو شفعاء ، وهو كقوله - تعالى - : { لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ … } الآية [ المائدة : 36 ] ، وكقوله - عز وجل - : { وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ … } [ البقرة : 123 ] ؛ فعلى ذلك يحتمل قوله - عز وجل - : { وَلاَ يَمْلِكُ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ ٱلشَّفَاعَةَ } أي : لا ينفعهم ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { إِلاَّ مَن شَهِدَ بِٱلْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } يخرج قوله : { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } على وجهين : أحدهما : يرجع إلى الملائكة ، فيكون كأنه يقول : ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة وهم يعلمون أنهم لا يملكون الشفاعة . والثاني : يرجع إلى من شهد بالحق ، يكون كأنه يقول : ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون أنهم يشهدون بالحق ، والشهادة بالحق ما ذكرنا ، يعني : يشهدون على وحدانية الله - تعالى - وألوهيته ، وأنه هو المستحق بالعبادة دون من عبدوهم ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ } ، وقال في أول السورة : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ ٱلْعَزِيزُ ٱلْعَلِيمُ } [ الزخرف : 9 ] ، ثم نعته فقال : { ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ … } [ الزخرف : 10 ] إلى آخر ما ذكر ؛ قد أقروا جميعاً : أن الذي خلق السماوات والأرض وخلقهم وما يحتاجون إليه هو الله تعالى . ثم علمهم وعرفانهم بذلك يحتمل وجوهاً : يحتمل : علم حقيقة على التسخير والاضطرار بأن أنشأ الله - تعالى - علماً في قلوبهم ، فعلموا بذلك حقيقة أن الله - عز وجل - : هو خالق ذلك كله . ويحتمل علموا علم الاستدلال بالتأمل والنظر ؛ إذ من عادة العرب التأمل والنظر في الأشياء ، فنظروا وتأملوا ، فعرفوا بالاستدلال العقلي أنه كذلك ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { فَأَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ } يقول : فأي شيء يصرفهم ويأفكهم عن القيام بوفاء ما أعطوا بألسنتهم ، وتحقيق ما أقروا ونطقوا أن الله خالق ذلك كله ، وأن ذلك كله منهم ، وجعل ذلك لمن يعلمون أنه [ لا ] شيء من ذلك منهم ، وبعد معرفتهم بذلك ، أعني : الأصنام التي يعبدونها ، والله الهادي . وقال أهل التأويل : أي : فأنى يكذبون بعد علمهم ومعرفتهم ذلك في تسميتهم معبودهم : إلهاً ، أو شكرهم غير الذي صنع ذلك لهم بالعبادة له دون الله تعالى . وقوله - عز وجل - : { وَقِيلِهِ يٰرَبِّ } قرئ بنصب اللام وكسرها فمن قرأه بالنصب جعله مقطوعاً على قوله : { أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم } ونسمع قيله ؛ أي : قوله الذي أغفلوه ؛ أي : بل نسمع ذلك كله . ومن قرأه بالكسر عطفه على قوله : { وَعِندَهُ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ } أي : عنده علم الساعة وعلم قيله . وقوله - عز وجل - : { يٰرَبِّ إِنَّ هَـٰؤُلاَءِ قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ } كأنه على الإضمار ، أي : قيل لهم : قل : إن هؤلاء قوم لا يصدقون . وفيه دلالة إثبات رسالته ؛ لأنه أخبر أنهم لا يؤمنون ، وقد كان على ما أخبر لم يؤمنوا ؛ دل أنه بالله عرف ذلك وعلمه . وقوله - عز وجل - : { فَٱصْفَحْ عَنْهُمْ } أي : أعرض ودعهم ، { وَقُلْ سَلاَمٌ } أي : قل الصواب والحق { فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } يوماً ، فهو وعيد لهم . ويحتمل أن يكون قوله : { وَقُلْ سَلاَمٌ } أي : سلام عليهم ، لكنه على المؤمنين ، ليس على أولئك الكفرة : { فسوف تعلمون } بالتاء يكون لو صرف إلى المؤمنين ، وهو كقوله تعالى : { وَإِذَا جَآءَكَ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَٰمٌ عَلَيْكُمْ } [ الأنعام : 54 ] فيكون كأنه - عز وجل - قال : فسوف تعلمون أيها المؤمنون ما ينزل بأولئك ، والله أعلم .