Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 47, Ayat: 33-38)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - عز وجل - : { أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُوۤاْ أَعْمَالَكُمْ } . قال بعضهم : أي : أطيعوا الله في الجهاد ، ولا تبطلوا حسناتكم بالرياء والسمعة . وفي حرف ابن مسعود - رضي الله عنه - : { يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وأطيعوا الرسول } . ويحتمل : ولا تبطلوا أعمالكم بالارتداد والكفر بعد الإيمان . ويحتمل : أي : لا تبطلوا أعمالكم بالمن على الله ، أو على الرسول في الإسلام ؛ أي : تسلمون ممتنون على الله أو على رسوله ؛ كقوله - تعالى - : { يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَيَّ … } الآية [ الحجرات : 17 ] . وقال قتادة : ولا تبطلوا أعمالكم بالرياء ، وقال : فمن استطاع منكم ألا يبطل عملا صالحاً بعمل شر فليفعل ؛ إن الشر ينسخ الخير ، وإنما ملاك العمل بخواتيمه ، فمن استطاع أن يختم بخير فليفعل ، ولا قوة إلا بالله . وعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال : ما كنا معشر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم نرى شيئاً يبطل أعمالنا حتى نزلت هذه الآية ، فعلمنا ما الذي يبطل أعمالنا ؟ ! الكبائر الموجبات والفواحش ، فكنا على ذلك حتى أنزل الله - تعالى - : { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ … } الآية [ النساء : 48 ، 116 ] ، فلما نزلت هذه الآية كففنا عن هذا القول . وجائز أن يكون قوله - تعالى - : { وَلاَ تُبْطِلُوۤاْ أَعْمَالَكُمْ } قال : هذا ليكونوا أبداً على اليقظة والحذر ؛ لئلا تبطل أعمالهم من حيث لا يشعرون ؛ كقوله : { أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ } [ الحجرات : 2 ] . وفي حرف أبي - رضي الله عنه - : { ولا تبطلوا إيمانكم } . وقوله - عز وجل - : { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ ثُمَّ مَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَهُمْ } تأويلها ظاهر . وقوله - عز وجل - : { فَلاَ تَهِنُواْ وَتَدْعُوۤاْ إِلَى ٱلسَّلْمِ } أي : لا تضعفوا وتدعوا إلى الصلح ، كذلك قال القتبي . وقال أبو عوسجة : السلم - بكسر السين - : الصلح ، ولا أعرف بفتح السين هاهنا له معنى . وقوله - عز وجل - : { وَأَنتُمُ ٱلأَعْلَوْنَ } أي : وأنتم الغالبون . فيه النهي عن الدعاء إلى الصلح إذا كانوا هم الأعلون ؛ أعني : أهل الإسلام . ثم قوله - تعالى - : { وَأَنتُمُ ٱلأَعْلَوْنَ } يحتمل وجوهاً : يحتمل : الأعلون بالحجج والبراهين في كل وقت . ويحتمل : { وَأَنتُمُ ٱلأَعْلَوْنَ } بالقهر والغلبة في العاقبة ؛ أي : آخر الأمر لكم . ويحتمل { وَأَنتُمُ ٱلأَعْلَوْنَ } في الدنيا والآخرة ؛ لأنهم وإن غلبوا في الدنيا وقتلوا كانت لهم الآخرة ، وإن ظفروا بهم كانت لهم الدنيا والأموال . وقال بعضهم : { وَأَنتُمُ ٱلأَعْلَوْنَ } أي : وأنتم أولى بالله منهم ، وهو ما ذكرنا في الآخرة ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَٱللَّهُ مَعَكُمْ } في النصر والغلبة . ويحتمل معكم في الوعد الذي وعد ؛ أي : ينجز ما وعد لكم في الدنيا ويفي بذلك . وقوله - عز وجل - : { وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ } اختلف فيه : قال بعضهم أي : لن يجعل الله للكافرين عليكم مظلمة ولا تبعة ، وهو يحتمل في الدنيا والآخرة ؛ كقوله - تعالى - : { وَلَن يَجْعَلَ ٱللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً } [ النساء : 141 ] . وقال بعضهم : { وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ } أي : لن ينقصكم أعمالكم ، وكذا قال أبو عوسجة ؛ يقال : وتره : أي : نقصه . وقال بعضهم : لن يظلمكم أعمالكم ؛ يقال : وترني حقي ، أي : بخسنيه ، كذلك قال القتبي : ولكن كلاهما واحد في المعنى ، أي : لا ينقص من أعمالهم شيئا ، ولا يظلمون فيها ، ولا يبخسون ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { إِنَّمَا ٱلْحَيَٰوةُ ٱلدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ } ، أي : حياة الدنيا على ما عندهم وعلى ما يقدرون لعب ولهو ؛ لأنهم كانوا يقولون أن لا بعث ولا حياة فعلى ما عندهم تكون حياة الدنيا على ما ذكر من اللهو . ويحتمل أنه سماها : لهواً ولعبا ؛ لأنهم على ما يزعمون أنشأها للانقطاع والفناء ، لا لتكتسب بها الحياة الدائمة في الآخرة ؛ وإنشاء الشيء للانقطاع والفناء خاصة بلا عاقبة تقصد يكون لعباً ولهواً ، ثم اللعب واللهو يجوز أن يكونا شيئاً واحداً ، ويجوز أن يكون أحدهما ما يستمتع بظاهر الأشياء ، والآخر ما يستمتع بباطن الأشياء : اللعب هو ما يستمتع بظواهر الأشياء ، واللهو هو ما يتلهى ببواطنها ، والله أعلم . وقوله - تعالى - : { وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ } أي : وإن تؤمنوا بما أمرتم الإيمان [ به ] وتتقوا عما نهيتم عن مخالفة أمره - { يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ } : جعل الله - عز وجل - بفضله ورحمته لأعمالهم التي يعملون لأنفسهم أجراً ؛ إذ لا أحد يعمل لنفسه ويأخذ الأجر من غيره ؛ لأنهم بالأعمال يسقطون عن أنفسهم التكليف بالشكر لنعم الله - تعالى - حيث أسدى عليهم النعم ابتداء ، لكنه جعل لأعمالهم أجراً كأنهم يعملون له ابتداء ، وإن كانوا عاملين لأنفسهم في الحقيقة ، وإليه ترجع منافع أعمالهم ، ولأن أنفسهم وأموالهم - في الحقيقة - لله - تعالى - فكيف يستحقون الأجر على مولاهم بأعمالهم ؟ وهذا كما ذكرنا من الإقراض له والاستدانة منه كأنه لا ملك له في ذلك ، وأن ليس له ذلك ، وإن كانت حقيقة أملاكهم وأنفسهم لله - تعالى - فضلا منه وكرماً ، فعلى ذلك هذا ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَلاَ يَسْأَلْكُمْ أَمْوَٰلَكُمْ } هذا يخرج على وجهين : أحدهما : أي : ليس يسألكم الإنفاق من أموالكم ، وإنما يسألكم من ماله يستمتعوا بمال غيره لأنفسكم وتجعلون ذخراً لأنفسكم غير { إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُواْ } ، أي : لو كان يسألكم من أموالكم لبخلتم وتركتم الإنفاق منها . والثاني : { وَلاَ يَسْأَلْكُمْ أَمْوَٰلَكُمْ } أي : ولا يسألكم الإنفاق من جميع أموالكم ، ولكن إنما يسألكم الإنفاق من طائفة من أموالكم { إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ } أي : لو يسألكم جميع أموالكم ، لحملكم ذلك على البخل وترك الإنفاق ، فإن يسألكم الإنفاق من جزء من أموالكم فلماذا بخلتم وتركتم الإنفاق ؟ ! وقوله : { فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُواْ } يخرج من وجوه : أحدها : أي : يحملكم على البخل لو سألكم جميع الأموال . ويحتمل { فَيُحْفِكُمْ } أي : يجعلكم حفاة لا شيء يبقى عندكم : الإحفاء : أن يأخذ كل شيء عنده ، وهو من الاستئصال ، ومنه إحفاء الشوارب . وقال أبو عوسجة : الإحفاء : شدة المسألة ؛ أي : إن يلح عليكم فيما يوجبه في أموالكم تبخلوا ؛ يقال : أحفى في المسألة وألحف وألح واحد ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ } أي : لو أمر بالإنفاق من جميع أموالكم ومن أموالكم حقيقة يظهر ذلك من أضغانكم التي في قلوبكم ؛ لأن ذلك الأمر إنما يجري على ألسن الرسل ؛ يوجب ذلك إظهار ما في قلوبهم من الضغائن للرسل ، عليهم السلام . فإن كان التأويل هذا فهو في المنافقين ؛ فيكون الأمر بالإنفاق سبب إظهار نفاقهم وضغائنهم وعداوتهم ، فكان كالأمر بالقتال ؛ كان سبباً لإظهار نفاقهم . وإن كان في المسلمين فيحتمل أنه قال ذلك ؛ تحريضاً لهم على الإنفاق والتصدق ، أي : إنه سبب إخراج الضغائن والعداوة ؛ لما فيه من التحبب والتودد بإيصال ما هو محبوب إليه ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { هَا أَنتُمْ هَـٰؤُلاَءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } أي : هأنتم يا هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله ، أي : في إظهار دين الله ، أو في طاعة الله ، أو في الجهاد ؛ لأن الإنفاق في ذلك كله في سبيل الله ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ } جعل الله - عز وجل - : الإنفاق لهم حقيقة إذا أنفقوا فيما أمرهم الله - تعالى - بالإنفاق في طاعته عند ذلك تصير تلك الأموال لهم ؛ لأنهم إذا أنفقوا فيما أمر الله - تعالى - انتفعوا بها في الدنيا ، واستمتعت أنفسهم وتلذذت ، وانتفعوا بها - أيضاً - في الآخرة وقت حاجتهم وفقرهم بذلك تتحقق وتحصل لهم تلك الأموال ، فأما عند تركهم الإنفاق فيما أمروا بالإنفاق والبذل فلا تتحقق لهم تلك الأموال المجعولة في أيديهم ؛ لأنه إما أن تجعل لوارثهم أو يأخذها منهم بلا سبب من غير أن يجعل لهم بذلك نفع يحصل لهم ، فيكون ما ذكرنا ، فذلك تأويل قوله - تعالى - : { وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ } - والله أعلم - لما يهلك نفسه بترك الإنفاق منه ولم يتمتع ولم ينتفع به وقت حاجته إليه في الآخرة . وقال بعضهم : قوله : { فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ } عن الصدقة والإنفاق في طاعة الله ، { وَمَن يَبْخَلْ } بالصدقة في طاعة الله { فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ } بالجزاء ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَٱللَّهُ ٱلْغَنِيُّ وَأَنتُمُ ٱلْفُقَرَآءُ } أي : { وَٱللَّهُ ٱلْغَنِيُّ } عن إنفاقكم وعما يأمركم بالإنفاق ، { وَأَنتُمُ ٱلْفُقَرَآءُ } إلى ما تنفقون ؛ أي : أنتم المنتفعون بذلك الإنفاق الذي يأمركم به ، لا أنه ترجع منفعة ذلك إليه ، أو يأمر لحاجة نفسه ، ولكن إنما يأمركم بذلك لحاجتكم إليه يوماً ، والله أعلم . ويحتمل أن يكون يقول : { وَٱللَّهُ ٱلْغَنِيُّ } عنكم وعما في أيديكم ، { وَأَنتُمُ ٱلْفُقَرَآءُ } إليه في كل وقت ، وكل ساعة ، في جميع أحوالكم وأوقاتكم ؛ كقوله - تعالى - : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ أَنتُمُ ٱلْفُقَرَآءُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱللَّهُ هُوَ ٱلْغَنِيُّ ٱلْحَمِيدُ } [ فاطر : 15 ] . ويحتمل : { وَٱللَّهُ ٱلْغَنِيُّ } عن أموالكم ، { وَأَنتُمُ ٱلْفُقَرَآءُ } إلى مغفرته ورزقه وجنته ورحمته . وقوله - عز وجل - : { وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوۤاْ أَمْثَالَكُم } . قال بعضهم : قد تولوا ، وهم أهل مكة ، واستبدل قوماً غيرهم وهم أهل المدينة ، لكن هذا بعيد ؛ لأن السورة مدنية ؛ فلا يحتمل الخطاب بها لأهل مكة بقوله : { وَإِن تَتَوَلَّوْاْ } . ومنهم من يقول : الله - عز وجل - أخبر ووعد أهل المدينة أنهم إن يتولوا استبدل غيرهم أطوع منهم لله - تعالى - فلا تولوا هؤلاء ولا استبدل غيرهم . وقال بعضهم : هو على وجهين : أحدهما : قوله : { وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً } ، أي : [ لم ] تتولوا ولم يستبدل قوماً غيركم . والوجه الآخر : قد تولوا واستبدل بهم النخع ، وأحمس ، وناس من كندة ، والذين تولوا حنظلة وأسد ، وغطفان ، وبنو فلان . وقوله - عز وجل - : { ثُمَّ لاَ يَكُونُوۤاْ أَمْثَالَكُم } أي : لا يكونوا أمثالكم في الطاعة لله - تعالى - بل أطوع له وأخضع ، والله أعلم . " وذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن قوله : { وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ } فضرب بيده على فخذ سلمان الفارسي ، وقال : " والذي نفسي بيده ، لو كان الدين منوطا بالثريا ، لتناوله رجال من فارس " . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رأيت غيما سوداء ، ردفها غيم بيض ، فاختلطت بها فتعقب بهن جميعاً " قالوا : يا رسول الله ، فما أولت ؟ قال : " العجم يشركونكم في دينكم وأنسابكم " ، قالوا : العجم يا رسول الله ؟ ! قال : " نعم ، لو كان الإيمان معلقاً بالثريا ، لناله رجال من العجم ، وأسعدهم به أهل فارس " فإن ثبت هذا الخبر ، فجائز أن يستدل به على جعل العجم أكفاء العرب ؛ لأنه قال : " يشركونكم في أنسابكم " فإذا أشركوهم في أنسابهم صاروا أكفاء لهم . ويحتمل أن يكون قوله : " يشركونكم في أنسابكم " ؛ لأنهم يسبونهم ، فيلدون منهم أولاداً فيشتركون فيما ذكر ، والله أعلم . وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال : " تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : { وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوۤاْ أَمْثَالَكُم } ، قالوا : ومن يستبدل قوماً ؟ قال : فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على منكب سلمان ، ثم قال : " هذا وقومه هذا " ، وقال في حديث آخر : " والذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطاً بالثريا ، لناله رجال من فارس " ، والله أعلم بالصواب ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله أجمعين .