Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 48, Ayat: 1-7)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - عز وجل - : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } قال بعضهم : هو فتح مكة . وقال بعضهم : هو صلح الحديبية الذي بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أهل مكة حين صدوهم عن دخولهم مكة ، وحالوا بينه وبين زيارة البيت ، وكان له فيها - أعني : في قصة الحديبية - أمران وآيتان ظاهرتان عظيمتان : أحدهما : أنه أصابه ومن معه من أصحابه عطش ، فأتى بإناء ماء ، فنبع من ذلك الإناء من الماء مقدار ما شرب منه زهاء ألف وخمسمائة ، حتى رووا جميعاً ؛ فذلك آية عظيمة حسّية على رسالته . والثاني : أخبر بغلبة الروم فارس ، وذلك علم غيب ، وكان كما ذكر وأخبر ؛ فدل أنه إنما علم ذلك بالله تعالى . وقصة الحديبية : روي عن رجل يقال له : مجمع بن حارثة قال : " شهدت الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما انصرفنا عنها إذ الناس يوجفون الأباعر ، فقال بعض الناس لبعض : ما للناس ؟ قال : أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فخرجنا نوجف مع الناس حتى وجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفاً عند كراح الغميم - اسم موضع - فلما اجتمع إليه بعض ما يريد من الناس قرأ عليهم : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } قال : قال رجل من أصحاب رسول الله : أو فتح هو يا رسول الله ؟ قال : " إي والذي نفسي بيده إنه بفتح " قال : ثم قسمت الحديبية على ثمانية عشر سهماً ، وكان الجيش ألفاً وخمسمائة " . وفي بعض الأخبار : " أنه الصلح الذي كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين ، ولم نر قتالا ، ولو نرى لقاتلنا ، قال : فنزلت سورة الفتح ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمر - رضي الله عنه - فأقرأها إياه ، فقال : يا رسول الله ، فتح هو ؟ قال : " نعم " . وعن عامر " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بالحديبية ، فأنزل الله - تعالى - : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } فقال رجل : إنه فتح هو ؟ قال : " نعم " . وعن جابر أنه قال : ما كنا نعد الفتح إلا يوم الحديبية . وكذلك روي عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال : نزلت هذه الآية : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } بالحديبية . وعن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال : لم يكن في الإسلام فتح أعظم من صلح الحديبية ، وضعت الحرب أوزارها ، وأمن الناس كلهم ، ودخل في الإسلام في السنتين أكثر مما كان دخل قبيل ذلك ، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة من الحديبية . … وفي الحديث طول تركنا ذكره ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } يخرج على وجوه ثلاثة : أحدها : أي : إنا قضينا ذلك قضاء بيناً بالحجج والبراهين على رسالتك ونبوتك ؛ ليعلم أنك محق على ما تدعي ، صادق في قولك ؛ { لِّيَغْفِرَ لَكَ ٱللَّهُ } بما أكرمك ، وعظم أمرك بالرسالة والنبوة ؛ أي : أعطاك ذلك وأكرمك به ؛ ليغفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر . والثاني : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } ما لم يطمع أحد من الخلائق أنه يفتح عليك أمثال ذلك الفتح { لِّيَغْفِرَ لَكَ ٱللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } . والثالث : إنا فتحنا لك جميع أبواب الحكمة والعلوم وجميع أبواب الخيرات والحسنات { لِّيَغْفِرَ لَكَ ٱللَّهُ } بما أكرمك من أبواب الحكمة والخيرات . يخرج على هذه الوجوه الثلاثة ، والله أعلم . ثم قوله - عز وجل : { لِّيَغْفِرَ لَكَ ٱللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } يخرج على وجهين : أحدهما : يرجع إلى ذنبه ؛ أخبر أنه غفر له . ثم لا يجوز لنا أن نبحث عن ذنبه ونتكلف أنه ما كان ذنبه ؟ وأيش كانت زلته ؟ لأن البحث عن زلته مما يوجب التنقص فيه ، فمن تكلف البحث عن ذلك يخاف عليه الكفر ، لكن ذنبه وذنب سائر الأنبياء - عليهم السلام - ليس نظير ذنبنا ؛ إذ ذنبهم بمنزلة فعل مباح منا ، لكنهم نهوا عن ذلك ، والله أعلم . وجائز أن يكون قوله - عز وجل - : { لِّيَغْفِرَ لَكَ ٱللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } أي : يغفر ذنبه ابتداء غفران ؛ أي : عصمه عن ذلك ، وذلك جائز في اللغة ، والله أعلم . والوجه الثاني يرجع إلى ذنوب أمته ؛ أي : ليغفر لك الله ذنوب أمتك ، وهو ما يشفع لأمته ، فيغفر له ؛ أي : لشفاعته ، وهو كما روي في الخبر : " يغفر للمؤذن مدّ صوته " أي : يجعل له الشفاعة ، فعلى ذلك جائز أن يكون قوله : { لِّيَغْفِرَ لَكَ ٱللَّهُ } أي : يغفر لأمته بشفاعته ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ } يحتمل إتمام نعمته عليه هو ما ذكرنا من الرسالة والنبوة ، وفتح ما ذكر من أبواب الخيرات والحكمة في الدنيا والآخرة ، والشفاعة له في الآخرة ، أو إظهار دينه على الأديان كلها ، وإياس أولئك الكفرة عن عوده إلى دينهم ؛ كقوله : { ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ … } الآية [ المائدة : 3 ] ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَيَنصُرَكَ ٱللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً } ، يحتمل : أي : ينصرك نصراً عزيزاً بالغلبة عليهم ، والقهر ، والظفر ، لا صلحاً ، ولا موادعة ، وعلى ذلك يخرج قول أهل التأويل : نصراً عزيزاً لا يستذل ولا يسترذل ، وظاهر الآية ليس على ذلك ؛ لأنه قال على إثره : { لِّيَغْفِرَ لَكَ ٱللَّهُ } ؛ لأن الخيرات والحسنات تكون سبباً للمغفرة ؛ فجائز أن يكون ما ذكر من الفتح له والمغفرة هذا ، لا ما ذكره [ أهل التأويل ] إلا أن يقال : إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسأل منه الفتح لما أقدم على أسباب الفتح ، وهو القتال مع الكفرة ، ونحو ذلك ، وذلك من الخيرات التي تكون سبب المغفرة ، إلا أن الله أضاف الفتح إلى نفسه ، والقتال منهم ، والله أعلم . ويحتمل أن يكون ما ذكر من الفتح له ليغفر له هو أن الله جعل رسوله بحيث لا يخط بيده خطّاً ، ولا يكتب كتاباً ، ولا يفهم كتابه ، وهو ما وصفه الله - جل وعلا - بقوله : { وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ } [ العنكبوت : 48 ] لدفع ارتياب المبطلين فيه على ما ذكر ، ثم مع أنه جعله هكذا أحوج جميع حكماء الخلق إليه ، وأحوج - أيضاً - جميع أهل الكتب السالفة إليه في معرفة ما ضمن كتابه المنزل عليه ، وجعله رسولا إليهم ؛ فيكون كأنه قال : إنا فتحنا لك النبوة ، والحكمة ، وأنواع العلوم ، والخيرات ، والحسنات ؛ { لِّيَغْفِرَ لَكَ } ؛ أي : إنما فتح لك ما ذكر ليغفر لك ويتم نعمته عليك من النبوة ، والحكمة ، وإظهار دينه على الأديان كلها ، ويهديه صراطاً مستقيماً ، وينصره نصراً عزيزاً ، أعطاه ما ذكرنا ، وذلك كله النصر العزيز ، والله أعلم . وجائز أن يكون قوله : { لِّيَغْفِرَ لَكَ ٱللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ } أي : من ذنب أمتك وما تأخر من ذنبهم ؛ على ما قال بعض أهل التأويل ، ويتم نعمته عليهم من أنواع الخيرات ، والأمن لهم ، والإياس لأولئك الكفرة عنهم ، ويهديهم صراطاً مستقيماً ، وينصرهم نصراً عزيزاً ، أي : فتحنا لك ما ذكر ؛ ليكون لأمتك ما ذكرنا من المغفرة لهم ، وإتمام النعمة والهداية لهم : الصراط المستقيم ، والنصر لهم : النصر العزيز ، أي : نصراً يعزون به في حياتهم وبعد وفاتهم في الدنيا والآخرة ، والله أعلم . ومن الناس من يقول : إن الله - جل وعلا - امتحن رسوله - عليه الصلاة والسلام - في الابتداء بالخوف حين قال : { وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ } [ الأحقاف : 9 ] ، وجد النبي صلى الله عليه وسلم لذلك وجداً شديداً ، ونزل بعده { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً * لِّيَغْفِرَ لَكَ ٱللَّهُ … } إلى آخره ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك : " نزلت علي آية أحب إلي مما على الأرض " ، ثم قرأها النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : هنيئاً مريئاً يا نبي الله ، قد بين لك ماذا يفعل بك ، ولم يبين ماذا يفعل بنا ؛ فنزل قوله - تعالى - : { لِّيُدْخِلَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ … } الآية ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { هُوَ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } . قال بعضهم : السكينة : هي كهيئة الريح لها جناحان ، ولها رأس كرأس الهرّ ؛ لكن هذا ليس بشيء ، فإنه - عز وجل - قال : { أَنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } بحقيقة الدين ، وهو تفسير العلم ، وهذا يدل على أن خالق العلم الاستدلالي ومنزله ومنشئه هو الله - تعالى - وهم يقولون : إن خالقه هو المستدل ؛ فيكون حجة عليهم . قال بعض المعتزلة : إضافة إنزال السكينة إلى نفسه على سبيل المجاز ، ليس على التحقيق ، كما يقال : فلان أنزل فلاناً في منزله أو مسكنه وإن لم يكن منه حقيقة إنزاله إياه في المنزل ، لكن أضيف إليه ذلك ؛ لأنه وجد منه سبب به يصل ذلك إلى نزوله في منزله ومسكنه ، فعلى ذلك أضاف إنزال السكينة في قلوب المؤمنين ؛ ليزدادوا إيماناً ؛ فلا يقال في مثله لأمر كان منه أو بسبب جعل له ذلك ؛ وهو كقوله - تعالى - : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً * لِّيَغْفِرَ لَكَ ٱللَّهُ } [ الفتح : 1 - 2 ] وإنما يقال ذلك لتحقيق إنزال ذلك ؛ ليكون ما ذكر على ما أخبر أنه فتح ؛ ليغفر له ما ذكر ، والله أعلم . ثم قوله - عز وجل - : { لِيَزْدَادُوۤاْ إِيمَٰناً مَّعَ إِيمَٰنِهِمْ } يخرج على وجوه : أحدها : ما قال أبو حنيفة - رحمه الله - : ليزدادوا إيماناً بالتفسير على إيمانهم بالجملة . والثاني : ليزدادوا إيماناً بمحمد صلى الله عليه وسلم وبكتابه مع إيمانهم بسائر الرسل والكتب التي كانوا آمنوا بها وصدقوها ، وهذا في أهل الكتاب خاصة . والثالث : ليزدادوا إيماناً في حادث الوقت مع إيمانهم فيما مضى من الأوقات ، فإذا وصل هذا بالأول فيكون بحكم الزيادة ، وإن شئت جعلته بحكم الابتداء ؛ إذ للإيمان حق التجدد والحدوث في كل وقت ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَلِلَّهِ جُنُودُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } فإن كان نزوله على إثر قول ذلك المنافق على ما ذكر بعض أهل التأويل ؛ حيث قال لأصحابه : يزعم محمد أن الله قد غفر له ، وأن له على عدوه ظفراً ، ويهديه صراطاً مستقيماً ، وينصره نصراً عزيزاً ، هيهات هيهات ، لقد بقي له من العدو أكثر وأكثر ، فأين أهل فارس والروم ؟ ! هم أكثر عدداً ، فعند ذلك نزل : { وَلِلَّهِ جُنُودُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } فمعناه : أي : لله تدبير جنود السماوات والأرض ، ينصر من يشاء على من يشاء ، ويجعل الأمر لمن يشاء على ما يشاء ، ليس لهم التدبير وإنفاذ الأمر على من شاءوا ، ولكن ذلك إلى الله - تعالى - وهو كقوله : { فَلِلَّهِ ٱلْمَكْرُ جَمِيعاً } [ الرعد : 42 ] أي : لله تدبير مكرهم ، لا ينفذ مكرهم إلا بالله - تعالى - فعلى ذلك هذا ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً } أي : عن علم بما يكون منهم من إيثارهم عداوة الله على ولايته ، واختيار الخلاف له - أنشأهم لا عن جهل ، ليعلم أنه لم ينشئهم ولم يأمرهم بما أمرهم وامتحنهم بما امتحن ؛ لحاجة نفسه ، أو لمنافع ترجع إليه ، ولكن لحاجة أولئك ولمنافعهم ؛ ولذلك قال : { حَكِيماً } ؛ لأن الحكيم هو الذي لا يلحقه الخطأ في التدبير ، فإذا كان إنشاؤه إياهم وما أمرهم به ، ونهاهم عنه ، لا لحاجة له في نفسه ولا منفعة ، ولكن لحاجتهم ومنفعتهم - كان حكيماً في إنشائه إياهم على علم منه بما يكون منهم من إيثار العداوة له على ولايته ، واختيار الخلاف له والمعصية ، والله الموفق . وقوله - عز وجل - : { لِّيُدْخِلَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا … } الآية . كأن هذا صلة قوله - تعالى - : { هُوَ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ ٱلْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوۤاْ إِيمَٰناً مَّعَ إِيمَٰنِهِمْ } ، { لِّيُدْخِلَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ … } الآية ، أنزل السكينة في قلوبهم ؛ أي : أنزل ما تسكن به قلوبهم ؛ ليزدادوا إيماناً ، وأنزل السكينة - أيضاً - ليدخلهم فيما ذكر ، كما ذكر في رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً * لِّيَغْفِرَ لَكَ ٱللَّهُ } فتح له ليغفر له ، فعلى ذلك أنزل السكينة في قلوبهم ؛ ليزداد لهم الإيمان ، وليدخلهم الجنات التي وصف ، ثم أخبر أن ذلك لهم عند الله فوز عظيم لا هلاك بعده ، ولا تبعة ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَيُعَذِّبَ ٱلْمُنَافِقِينَ وَٱلْمُنَافِقَاتِ وَٱلْمُشْرِكِينَ وَٱلْمُشْرِكَاتِ } ذكر للمنافقين والمشركين من العذاب مقابل ما ذكر للمؤمنين من إنزال السكينة عليهم ، وإدخالهم الجنة ، حرم هؤلاء السكينة التي ذكر أن قلوب المؤمنين بها تسكن ؛ لما علم أنهم يختارون عداوته ، ويؤثرون عداوة أوليائه على ولايتهم ، وعلم من المؤمنين أنهم يؤثرون ولايته على عداوته ، وولاية أوليائه على عداوتهم فأنزل السكينة في قلوبهم ولم ينزل على أولئك هذا ؛ ليعلم أن من بلغ في الإيمان الحدّ الذي ذكر إنما بلغ ذلك بالله - تعالى - وبفضله ، وبرحمته ، ولا قوة إلا بالله . وقوله : { ٱلظَّآنِّينَ بِٱللَّهِ ظَنَّ ٱلسَّوْءِ } جائز أن يكون قوله - عز وجل - : { ٱلظَّآنِّينَ بِٱللَّهِ ظَنَّ ٱلسَّوْءِ } المنافقون الذين ذكرهم في آية أخرى ؛ حيث قال : { بَلْ ظَنَنْتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ ٱلرَّسُولُ وَٱلْمُؤْمِنُونَ إِلَىٰ أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ ٱلسَّوْءِ } [ الفتح : 12 ] ظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرجع إلى أهله ، وكذلك المؤمنون لا يرجعون إلى أهليهم أبداً ، ثم أخبر أن ذلك الظن منهم ظن السوء ، فيحتمل ما ذكر - هاهنا - { ٱلظَّآنِّينَ بِٱللَّهِ ظَنَّ ٱلسَّوْءِ } هذا ما ذكرنا ، والله أعلم . وجائز أن يكون قوله : { ٱلظَّآنِّينَ بِٱللَّهِ ظَنَّ ٱلسَّوْءِ } : هم المشركون . ثم إن كانوا من المنافقين فيكون ظنهم بالله ظن السوء : ألا يرجع هو وأصحابه إلى أهليهم أبداً وإن كانوا من مكذبي الرسول صلى الله عليه وسلم فيكون ظنهم بالله ظن السوء ألا يكرم محمداً صلى الله عليه وسلم بالرسالة ؛ ولا يعظمه بالنبوة ، لا يختاره ولا يؤثره ، على غيره من الناس الذين يختارونهم ؛ كقولهم : { لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ] فيكون ظنهم بالله ظن السوء على هذا : ألا يكرم الله - تعالى - محمداً صلى الله عليه وسلم ولا يختاره لرسالته ونبوته ، والله أعلم . وإن كان ذلك من مكذبي البعث ومنكريه ، فيكون ظنهم بالله ظن السوء هو ألا يقدر على البعث والإحياء بعد الموت . ثم أخبر أن عليهم دائرة السوء الذي ظنوا ألا يرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فصار عليهم ما ظنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم حيث تفرقوا من أوطانهم ، وهتك أستارهم ، ونحو ذلك . وإن كانوا من مكذبي الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لا يرسله ، فظنهم كان ما ظنوا ؛ لأنه بعث هو رسولا ولم يبعث من اختاروا هم . وإن كانوا منكري البعث فعليهم كان عذاب اليوم ، وفيه هلاكهم ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً } أخبر - عز وجل - أنهم استوجبوا غضب الله ولعنه بالذي كان منهم من سوء ظنهم بالله ورسوله ، وأعد لهم جهنم بذلك ، وساءت مصيراً لهم . وقوله - عز وجل - : { وَلِلَّهِ جُنُودُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً } ذكر على إثر ما ذكر { عَزِيزاً حَكِيماً } ؛ ليعلم أن عزه ليس بما ذكر من الجنود الذين له في السماوات والأرض ، ولكنه عزيز بذاته ، له العز الذاتي الأزلي ، والله أعلم .