Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 48, Ayat: 29-29)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - عز وجل - : { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ } . من الناس من احتج على تفضيل محمد صلى الله عليه وسلم على غيره من الأنبياء - عليهم السلام - بهذه الآية وبغيرها من الآيات يقول : لم يُذكر محمد صلى الله عليه وسلم في القرآن إلا وخاطبه باسم الرسالة والنبوة ؛ كقوله - تعالى - : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ } [ الأنفال : 64 ، 70 ] و { يَـٰأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ } [ المائدة : 67 ] وقوله : { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ } ونحو ذلك ، وسائر الأنبياء - عليهم السلام - إنما خاطبهم بأسمائهم التي جعلت لهم خلقة دون ختم الرسالة والنبوة ، كقوله : { يٰنُوحُ ٱهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا } [ هود : 48 ] ، و { يٰلُوطُ } [ هود : 81 ] و { يَٰمُوسَىٰ } [ البقرة : 61 ] ، و { يٰهَرُونُ } [ طه : 92 ] ، و { يٰهُودُ } [ هود : 53 ] و { يَاصَالِحُ } [ الأعراف : 77 ] ؛ جميع من ذكرهم سواه إنما ذكرهم بأسمائهم الموضوعة في أصل الخلقة ، ولم يجلُّوا ولم يسموا بأسماء الرسالة والنبوة ؛ وذلك لفضل جعل له من بين غيره ، وكذلك يحتج لتفضيل أمته وأصحابه على سائر الأمم حيث خاطب هذه الأمة بأحسن الأسماء فقال : { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } [ البقرة : 104 ] ، وقوله : { أَيُّهَ ٱلْمُؤْمِنُونَ } [ النور : 31 ] ، وقال في سائر الأمم : { يَٰبَنِيۤ ءَادَمَ } [ الأعراف : 26 ، 27 ، 31 ، 35 ] ونحو ذلك ، ومما يدل على فضيلتهم قوله - تعالى - : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ … } الآية [ آل عمران : 110 ] ؛ أي : كنتم خير أمة في الكتب المتقدمة بما ذكر ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَٱلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ … } الآية ، ما وصفهم ونعتهم يرجع إلى أصحابه على الاجتماع ، أي : الكل موصوفون بهذه الصفات التي ذكر في الآية ، وأنها كلها فيهم ، وهو كقوله - تعالى - في صفتهم : { أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ } [ المائدة : 54 ] أي : أشداء على الكفار ، ورحماء على المؤمنين ، وصفهم بذلك جملة ، فعلى ذلك هاهنا . ويحتمل أن يكون ذلك وصف بعضهم دون بعض ، أو وصف عامتهم ، فأما الكل فلا ، وذلك نحو ما روي عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - حيث قال : لولا قوله - تعالى - : { مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا } [ آل عمران : 152 ] ما كنا نعرف أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا ، فإنما يكون ذلك وصف أمثال عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه . ثم قد جعل الله - تعالى - الرحمة والرأفة نعتاً للمؤمنين ، يتراحم بعضهم بعضاً ، وكذلك روي في الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا تدخلوا الجنة حتى تراحموا " قالوا : كلنا نتراحم ولده ، فقال : " ليس ذلك برحمة ، إنما الرحمة أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه ولولده " ، أو كلام نحوه . وروي عن النعمان بن بشير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " المؤمنون كلهم كرجل واحد ، إن اشتكى منه عضو تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى " ، وليس فيما وصفهم بالشدة على الكفار [ دليل ] على أن ليس لهم شفقة عليهم ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم له شفقة عظيمة عليهم ، حتى كادت تهلك نفسه ، لذلك قال الله - تعالى - : { فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ } [ فاطر : 8 ] ، وقال : { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } [ الشعراء : 3 ] فعلى ذلك أصحابه ، رضوان الله عليهم أجمعين . ثم القتال الموضوع فيما بينهم رحمة في الحقيقة ، وإن كان في الظاهر ليس برحمة ؛ لأنه وضع ليضطرهم ذلك إلى قبول الإسلام والتوحيد ، وفي قبولهم ذلك نجاتهم ، وما وصفهم بالرحمة على المؤمنين ، ليس فيه أنهم ليسوا بأشداء عليهم إذا عاينوا منهم المناكير والفواحش حتى يتركوا التغيير عليهم ؛ بل من الشفقة لهم عليهم ما يغيرون عليهم المنكر ؛ إذ في ذلك نجاتهم ، وذلك لا يزيل عنهم الرحمة التي وصفهم بها ؛ بل ذلك من الشفقة لهم والرحمة ، والله أعلم . ثم نعتهم وقال : { تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ ٱلسُّجُودِ } . وقوله - عز وجل - : { تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً } يحتمل وجهين : أحدهما : وصف لهم بالمداومة في إقامة الصلوات بالجماعات ، وأراد بالركوع والسجود : هو الصلاة على طريق الكناية . والثاني : عبارة عن الخضوع لربهم ، والتواضع للمؤمنين ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَاناً } يحتمل قوله : { يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ } أي : الجنة ؛ أي : يبتغون بكل ما وصفهم من الرحمة ، والشدة ، والركوع ، والسجود الجنة ، والفضل يذكر عبارة عن الجنة في القرآن في غير موضع . وجائز أن يكون ما ذكر من ابتغائهم الفضل من الله - تعالى - ما يتعايشون به . وقال بعضهم : { يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ } أي : يبتغون ما يتعيشون [ به ] . وقال بعضهم : { يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ } أي : يبتغون معيشة يتقوون بها على طاعة الله . وقوله - عز وجل - : { وَرِضْوَاناً } أي : رضا ربهم ، وهو بمعنى الفضل - أيضاً - على التكرار للتأكيد ؛ كقوله - تعالى - : { وَٱبْتَغُواْ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ } [ الجمعة : 10 ] لكنه أخبر أنهم يبتغون ذلك الفضل والرضون من الله - تعالى - والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ ٱلسُّجُودِ } اختلف فيه : قال الحسن وغيره : أي : أثر الخشوع والصلاة في وجوههم . وقال بعضهم : إن الرجل إذا قام من الليل فأطال القيام والسهر ، تبين سهر الليل في وجهه إذا أصبح من الصفرة ، وتغير اللون ، وذلك كله في الدنيا . وكذلك روي عن الحسن [ قال ] : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رحم الله قوماً يحسبهم الناس مرضى وما هم بمرضى " قال الحسن : أجهدتهم العبادة . وقال قتادة : أثر الصلاة في وجوههم ، وهو أثر التراب ؛ لكن ذلك بعيد . وقال : { سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ ٱلسُّجُودِ } يوم القيامة ، وهو بياض وجوههم من أثر السجود والوضوء . وكذلك روي في الخبر عن نبي الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إني أعرف أمتي من بين غيرها من الأمم " قيل : وكيف تعرف يا رسول الله أمتك من بين الأمم ؟ فقال : " أمتي غر محجلون يوم القيامة من أثر السجود " ولا يكون ذلك لأحد من الأمم غيرهم ، والله أعلم . وجائز أن يكون على غير ذلك ، يجعل الله - تعالى - في وجوههم من آثار العبادة له ، والجهد فيها من النور والحلاوة والحسن ما يعرفون أنهم أهل عبادة الله - تعالى - وطاعته ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي ٱلإِنجِيلِ } يحتمل وجوهاً : أحدها : أي : شبههم في التوراة والإنجيل الآحاد والأفراد منهم المختارون من بين غيرهم الذين يعظمونهم الأتباع والملوك ويحلونهم ، فما بالكم لا تعظمون أنتم هؤلاء ولا تتبعونهم كأولئك ، والله أعلم . والثاني : يحتمل : { ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي ٱلإِنجِيلِ } أي : ذلك نعتهم ووصفهم في التوراة والإنجيل ؛ أي : على ذلك نعتوا ووصفوا في التوراة والإنجيل ، وقد عرفتم ذلك ، فهلا اتبعتموهم إذا نعتوا ووصفوا في القرآن . وقال بعضهم : قوله : { ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي ٱلتَّوْرَاةِ } مقطوع مقصود ، وهو ما تقدم من قوله : { وَٱلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ … } إلى قوله : { مِّنْ أَثَرِ ٱلسُّجُودِ } ، ثم ابتدأ فقال : { وَمَثَلُهُمْ فِي ٱلإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ … } الآية ، وهذا يحتمل ووجه حسن ، وعلى التأويلين الأولين ما ذكرنا من وصفهم ، كأنه في التوراة والإنجيل جميعاً ، ثم نعتهم - أيضاً - بقوله - تعالى - : { كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ } ، والله أعلم . ثم ذكر نعت أصحابه - رضي الله عنهم - في هذه الآية ، ولم يذكر نعت رسوله صلى الله عليه وسلم ، وإنما ذكر نعته في آية أخرى ، وهو قوله - تعالى - : { ٱلنَّبِيَّ ٱلأُمِّيَّ ٱلَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَٱلإِنْجِيلِ … } الآية [ الأعراف : 157 ] ، ذكر نعته وصفته في الآية صلى الله عليه وسلم ونعت أصحابه - رضي الله عنهم - في هذه السورة ، والله أعلم . ثم قوله - عز وجل - : { ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي ٱلإِنجِيلِ … } الآية دلالة الرسالة ؛ لأنه أخبر أن نعتهم في الكتب المتقدمة كما ذكر في القرآن ، ثم لم يقل أحد من أهل الكتب المتقدمة : أن ليس ذلك نعتهم أو شبههم في تلك الكتب ، ثبت أنه بالله عرف ، ولا قوة إلا بالله . ثم قوله - عز وجل - : { كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَٱسْتَغْلَظَ فَٱسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ … } الآية ، شبههم بالزرع الذي ذكر - والله أعلم - لأنهم أحيوا سنن الدين وشرائعه التي كانت من قبل بعدما درست ، وانقطع أثرها ؛ لأنه لم يكن فيما بين عيسى ومحمد - عليهما الصلاة والسلام - رسول فقد انقرض ذلك واندرس ، ثم جاء محمد - عليه أفضل الصلوات وأكمل التحيات - بعد دروس ذلك وانقراضه كالزرع الذي يخرج وحده ، وهو النبت الواحد في أول ما يخرج ، فأعانه أصحابه وآزروه كانوا إليه كالخلفة التي تنبت حول الساق تؤازر الخلفة والنبت ، فأما { شَطْأَهُ } فقيل : هو محمد صلى الله عليه وسلم خرج وحده كما خرج أول النبت وحده ، وأما الوالية التي تنبت حول الشطأة فاجتمعت ، فهم المؤمنون كانوا في قلة كما كان أول الزرع دقيقاً ، ثم زاد نبت الزرع ، فغلظ ، { فَآزَرَهُ فَٱسْتَغْلَظَ } ، كما آزر المؤمنون بعضهم بعضاً حتى استغلظوا واستووا على أمرهم كما استغلظ هذا الزرع واستوى على سوقه . ثم اختلفوا في الشطأة : قال أبو عوسجة : هو قصب الزرع ؛ أي : صار له واسط الزرع ؛ أي صار له ورق ، { فَآزَرَهُ } أي : قواه ، { سُوقِهِ } جمع : ساق . وقال أبو عبيدة : شطأ الزرع : فراعه وصغاره ؛ يقال : قد أشطأ الزرع فهو مشطئ إذا فرع . وقال الفراء : { شَطْأَهُ } أي : سنبله ، ينبت الحبة عشرا وتسعاً وثمانياً { فَآزَرَهُ } أي : أعانه وقواه . وقوله : { فَٱسْتَغْلَظَ } أي : غلظ { فَٱسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ } جمع ساق ، ومنه يقال : قام كذا على سوقه إذا آذرته وتناهى وبلغ الغاية ؛ يقول - والله أعلم - : كما أن الزرع إذا قام على السوق فقد استحكم ، فهذا مثل ضربه الله - تعالى - لنبيه صلى الله عليه وسلم أي : خرج وحده ، فأيده بأصحابه ، فقوى واشتد كما قويت الساق من الزرع بما نبت منها حتى غلظت وعظمت واستحكمت ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { يُعْجِبُ ٱلزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ ٱلْكُفَّارَ } قال بعضهم : الزراع هو محمد صلى الله عليه وسلم يعجب محمداً ما رأى من أصحابه والمؤمنين ، ويغيظ الكفار ذلك ، من الغيظ ، وهو كقوله - تعالى - : { مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ ٱللَّهُ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ … } [ الحج : 15 ] إلى قوله : { هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ } [ الحج : 15 ] . وقال بعضهم : الزراع : هو صاحب الزرع ، إذا كثر جوانبه ووالياته ، وينبت { لِيَغِيظَ بِهِمُ ٱلْكُفَّارَ } ؛ أي : يغيظ ذلك سائر الزراعين . وقال بعضهم : كما يعجب الزراع حسن زرعه حين استوى قائماً على ساقه ، فكذلك يغيظ الكفار كثرة المؤمنين واجتماعهم . وقال بعضهم : هم الزراع ، سموا كفاراً ؛ لأنهم يكفرون ، أي : يسترون البذر في الأرض ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } من بين غيرهم من الناس { مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً } ، والله أعلم . وفيه نقض قول الباطنية والروافض - لعنهم الله - لقولهم : إنهم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم كفروا وارتدوا عن الإسلام جميعاً ، أو كلام نحوه ؛ في الآية ردٌّ لقولهم ؛ لأنه وعد لهم المغفرة وما ذكر من الأجر العظيم ، فلا يحتمل أن يكونوا على ما ذكر أولئك ، ثم تكون لهم المغفرة وما ذكر من الأجر العظيم ؛ فدل ما ذكر من الوعد لهم بالمغفرة والأجر العظيم أنهم ثبتوا على ما كانوا من قبل في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي حياته ، والله أعلم ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين .