Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 48, Ayat: 24-28)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - عز وجل - : { وَهُوَ ٱلَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ } مع كثرة أولئك ، وقوتهم ، وتأهبهم للقتال ، وضعف هؤلاء وقلة عددهم ؛ لأن أولئك كانوا خرجوا للقتال والحرب ، مستعدين لذلك ، متأهبين ، وهؤلاء كانوا خرجوا لقضاء المناسك وزيارة البيت ، فكفّ أيدي أولئك مع عدتهم وقوتهم وكثرتهم عن هؤلاء مع ضعفهم وقلة عددهم ، حتى أظفرهم بأولئك بما ذكر في القصة أن المسلمين كانوا اشتغلوا بالترامي بالنبل والحجارة حتى هزموهم وأدخلوهم بطن مكة ؛ على ما ذكر ، ثم أظفرهم بهم ، كف أيدي هؤلاء عنهم ويتم لهم الظفر بهم ؛ ليعلم هؤلاء أن التدبير في الأمر إلى الله - تعالى - دونهم ، وله السلطان على الخلق جميعاً ، لا سلطان لأحد في سلطانه ، ولا قوة إلا بالله . وأما ما ذكر من الامتنان هو ما ذكر من كف أيدي أولئك عن هؤلاء عند شدة خوفهم منهم وفزعهم بما ذكرنا من قوة أولئك [ و ] كثرتهم ، وضعف هؤلاء وقلة عددهم ، حتى أظفرهم ؛ يذكر منته عليهم ؛ ليستأدي شكره ، ويكف أيدي هؤلاء عنهم . فإن قيل : ما كف أيدي أولئك عن هؤلاء ، المنة ظاهرة ، ولكن أية منة تكون في كف أيدي المؤمنين عن أولئك الكفرة ؟ فيقال : جائز أن تكون المنة في كف أيدي المؤمنين عن أولئك الكفرة ؛ ليستأدي منهم شكره بذلك ، وهو الإسلام لله - تعالى - على جميع خلقه منة ؛ ليستأدي منهم شكراً على الكافرين والمسلمين جميعاً . ويحتمل أن تكون المنة في كف أيدي المؤمنين عن أولئك على المؤمنين - أيضاً - هو ما ذكر على إثره : { وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ } أنه لو لم يكف أيدي المؤمنين عنهم حتى يتم لهم الظفر بهم فدخلوا مكة وهنالك مؤمنون لأصابهم ما ذكر من المعرة وغيره ، فكان في كف أيدي المؤمنين عن أولئك منة عظيمة عليهم ؛ لما بينا من قبل من فيها من المؤمنين من غير علم ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { بِبَطْنِ مَكَّةَ } وهم لم يكونوا في بطن مكة ، إنما كانوا بالحديبية ، وبينها وبين مكة أميال ، لكن يخرج على وجهين : أحدهما : أظفرهم بهم وقهرهم وهزمهم حتى أدخلهم بطن مكة ، على ما ذكر أنهم هزموهم حتى أدخلوهم في بيوت مكة . والثاني : ببطن مكة ؛ أي : بقرب مكة . وجائز أن يكنى ببطن مكة ؛ أي : قربها . وقال بعضهم : { بِبَطْنِ مَكَّةَ } أي : الحرم ، والحرم كله مكة ، والوجه فيه ما ذكرنا ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً } لم يزل الله - تعالى - عالماً بأعمالهم ، بصيراً . وفيه دلالة خلق أفعالهم ؛ لأنه ذكر أنه كف أيدي هؤلاء عن أولئك وأيدي أولئك عن هؤلاء ، ثم قال : هو عالم بما تعملون بصيراً ؛ ليعلم أن له في فعلهم صنعاً ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { هُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } أي : صدوهم عما قصدوا ، وهو الطواف بالبيت والزيارة له ، وذلك في المسجد الحرام ؛ ذكر صدهم عن المسجد الحرام وصدوهم عما فيه ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَٱلْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ } وقوله : { مَعْكُوفاً } أي : محبوساً ، والمعكوف هو الحبس ، ومنه سمي العاكف والمعتكف . ثم قوله : { وَٱلْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ } محل دم هدي المتعة هو مكة أو منى ، فأما الحرم نفسه فليس هو محله ؛ فكأنه قال : وصدوا الهدي عن أن يبلغ محله الذي جعل لهدي المتعة وهو منى أو مكة ؛ لأنه ذكر في الخبر أنه كان - عليه السلام - معتمراً ، وذكر أنه كان متمتعاً ، وفيه أن دم المتعة إن منع عن محله سقط ، وخرج عن حكم المتعة ، ويعود إلى مكة ، وله أن يصرفه إلى ما شاء ؛ ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر تلك البدن التي ساقها عن الإحصار في الحرم ؛ دل أن هدي المتعة إذا منع عن المحل سقط ، ويخرج عن حكم المتعة . وفيه أن دم الإحصار لا يجوز إراقته إلا في الحرم ؛ إذ الحديبية تجمع الحرم والحل جميعاً عندنا ، فإنما كان نحرها في الحرم ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ } أي : تقتلوهم وتهلكوهم { فَتُصِيبَكُمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ } أي : لولا ما فيها - أعني : في مكة - من رجال مؤمنين ونساء مؤمنات ، لأتم لكم الظفر بهم ، ودخلتم عليهم ، لكن منعكم عن دخولكم مكة ؛ لما ذكر . ثم اختلف في قوله - تعالى - : { فَتُصِيبَكُمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ } . قال بعضهم : لزمكم الدية بقتلهم ، وكذا روي عن محمد بن إسحاق . وقال بعضهم : الكفارة . وقال بعضهم : الإثم والذنب ؛ أي : يصيبكم منهم الإثم بقتلكم إياهم ؛ وهذا لا يحتمل ؛ لأنهم إذا قتلوهم وهم لا يعلمون ، لا يلحقهم الإثم والذنب ؛ لأن الله - تعالى - وضع الإثم عنا فيما لا نعلمه ، ولم يضع طريق العلم به ، قال الله - تعالى - : { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَـٰكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ } [ الأحزاب : 5 ] . وعندنا يخرج على وجهين : أحدهما : أي : فيصيبكم من الكفرة وأهل النفاق ما يسوءكم بقتلكم إياهم من اللائمة ، والتعيير ، وغير ذلك من القيل والقال ؛ يقولون : إنهم قتلوا أصحابهم ومن كان على دينهم من أهل الإسلام ؛ فيجدون بذلك سبيلا إلى ما ذكرنا ، فيسوءكم ذلك ، والله أعلم . والثاني : يصيبكم الأسف والحزن والندامة الدائمة بقتلكم أهل الإيمان وأهل الإسلام إذا علمتم أنكم قتلتم أصحابكم وأهل دينكم ، والله أعلم . ثم المخالف لنا تعلق بهذه الآية في مسألتين : إحداهما : فيمن أسلم ولم يهاجر إلينا : أنه تجب الدية في قتله ؛ لقوله - تعالى - : { فَتُصِيبَكُمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ } وهي غرم الدية . والثانية : هل يباح الرمي على حصون المشركين إذا كان فيها أسارى المسلمين وأطفال المسلمين ، وإحراق الحصون أو الرمي على الكفار الذين تترسوا بأطفال المسلمين ؟ قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والثوري : لا بأس برمي حصون المشركين وإن كان فيهم أسارى المسلمين وأطفالهم ، ولا بأس بأن يحرقوا الحصن ويقصدوا به المشركين دون المسلمين ، وكذلك إحراق سفينة الكفار إذا كان فيها أسارى المسلمين . وقال مالك : لا يحرق سفينة الكفار إذا كان فيها أسارى المسلمين . وقال الأوزاعي : إذا تترس الكفار بأطفال المسلمين ، لم يرموا ، ولا يحرق الحصن ، ولكن لا بأس بأن يرمي الحصن بالمنجنيق ، ونحو ذلك . وقال الشافعي : لا بأس بأن يرمي الحصن وفيه أسارى وأطفال المسلمين ، ولو تترسوا بهم فله قولان . واحتج هؤلاء [ بأن ] من عادتهم أنهم كانوا يعبدون ما يهوون ومالت إليهم أنفسهم من الأصنام والأوثان وغيرها ، وينصرون من عبدوها ، ويدفعون عنهم فيذبون عنها ، فجائز أن يكون الذي حملهم على ذلك هو نصرهم أولئك الأصنام وعبادها ، والذب عنهم حمية الجاهلية ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ } جائز أن يكون ما ذكر من السكينة التي أخبر أنه أنزلها على رسوله ومن ذكر : هو شيء أنزله من السماء ؛ لطفاً منه عليهم حتى سكنت لذلك قلوبهم . وجائز أن يكون لا على حقيقة إنزال شيء من مكان إلى مكان ، ولكن أنشأ في قلوبهم ما يسكن به قلوبهم ؛ كقوله - تعالى - : { وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ ٱلأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ } [ الزمر : 6 ] أي : أنشأ لكم من الأنعام ما ذكر ، وخلقها لهم ، ليس أن أنزلها عليهم من مكان إلى مكان ، ولكن على الإنشاء والخلق ، فعلى ذلك الأول ، والله أعلم . ثم السكينة تحتمل أسباباً له بها تسكن قلوبهم وأنفسهم ، والأسباب تختلف . ويحتمل شيئاً آخر سوى ذلك ، وهو اللطف الذي جعل لهم ، فسكن قلوبهم بذلك اللطف ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ ٱلتَّقْوَىٰ وَكَانُوۤاْ أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا } . يحتمل هذا وجهين : أحدهما : ألزمهم كلمة بها يتقون النار . ثم يحتمل { كَلِمَةَ ٱلتَّقْوَىٰ } : كلمة الإخلاص وغيرها وما يقيهم النار ، والله أعلم . ويحتمل قوله : { وَأَلْزَمَهُمْ } : إظهار كلمة التقوى حتى تصير ظاهرة في الخلق أبداً إلى يوم القيامة ، والله أعلم . وقال بعضهم : { كَلِمَةَ ٱلتَّقْوَىٰ } هي { بسم الله الرحمن الرحيم } ، وذلك أنه لما كتب كتاب الصلح فيما بين أهل مكة وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب : { بسم الله الرحمن الرحيم } ، فقال ذلك : اكتب كذا ، لا ندري ما الرحمن الرحيم . وذلك كلمة التقوى ، والله أعلم . والوجه فيه ما ذكرنا . وقوله : { وَكَانُوۤاْ أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا } أي : بتلك الكلمة ، وكانوا أهلا لها { وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً } . وقال بعض أهل التأويل : { كَلِمَةَ ٱلتَّقْوَىٰ } هي كلمة الإخلاص { وَكَانُوۤاْ أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا } من الأمم السالفة وأهلها ، والله أعلم . أو كانوا أحق بها في الإظهار في الخلق والقيام بذلك ، وكانوا أحق بها في إلزامها في أنفسهم ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { لَّقَدْ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّءْيَا بِٱلْحَقِّ } . قال أهل التأويل : قوله : { صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ } أي : حقق الله لرسوله الرؤيا التي أراها إياه الحق ؛ أي : بالوفاء لذلك . ويحتمل : أي : صير النبي صلى الله عليه وسلم صادقاً عندهم فيما أخبرهم أنه رأى ، وجعله صادقاً في ذلك ؛ والأول أشبه . وقوله - عز وجل - : { لَتَدْخُلُنَّ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ آمِنِينَ } هذا يخرج على وجهين : أحدهما : على الأمر : أن ادخلوا المسجد الحرام ، وإن كان في الظاهر خبراً ؛ كرؤيا إبراهيم - عليه السلام - حيث قال : { إِنِّيۤ أَرَىٰ فِي ٱلْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ } [ الصافات : 102 ] ، ثم قال الله - تعالى - : { ٱفْعَلْ مَا تُؤمَرُ } [ الصافات : 102 ] دل على أن ما رأى إبراهيم - صلوات الله عليه - من الذبح هو أمر بذلك ، فإن كان التأويل هذا فيخرج الثنيا المذكور فيه على أثره ، كأنه يقول : ادخلوا المسجد الحرام محلقين ومقصرين إن شاء الله أن تؤمنوا في دخولكم ، وإذا لم تأمنوا لم يشأ أن تدخلوه ، والله أعلم . ويحتمل أن يكون قوله : { لَتَدْخُلُنَّ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ } على الوعد ، فيخرج الثنيا المذكور على وجهين : أحدهما : على التبرك والتيمن ، كما يتبرك بذكر اسمه في فعل يفعله ، والله أعلم . والثاني : على الأمر لكل في نفسه إذا أخبر غيره أنه يدخل أن يقول : إن شاء الله ، كما يؤمر بالثنيا من أخبر شيئاً أنه يفعله ، كقوله - تعالى - : { وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَاْىءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذٰلِكَ غَداً * إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ } [ الكهف : 23 - 24 ] . ويحتمل أن يذكر الثنيا ؛ لأن الوعد في الظاهر وإن كان للجملة كقوله : { لَتَدْخُلُنَّ } ، فجائز أن يكون المراد منه بعض منهم ، ليس الجملة ؛ لاحتمال أن يموت بعض منهم [ و ] ألا يكون هو مراداً و [ المراد ] الجملة ، فذكر الثنيا ؛ لئلا يكون خلف في الوعد من النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم ما ذكر من رؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم ، وأخبر أنه حققها يحتمل ما ذكر من دخول المسجد الحرام على أثره ، فإن كان ذلك ؛ فيكون قوله تعالى : { لَتَدْخُلُنَّ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ } هو تفسير لتلك الرؤيا . وجائز أن تكون الرؤيا في غير ذلك . وقوله : { لَتَدْخُلُنَّ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ } ابتداء وعد وأمر من الله تعالى ، وكذلك ما ذكر من قوله حيث قال : { وَمَا جَعَلْنَا ٱلرُّءْيَا ٱلَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ } [ الإسراء : 60 ] . يحتمل ما ذكر في هذه الآية : { لَتَدْخُلُنَّ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ . … } إلى آخر ما ذكر . ويحتمل غير هذا أيضاً ، وقد أخبر أنه حققها وصدقها ، والله أعلم . ثم قوله - عز وجل - : { مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ } . يخبر أنهم يدخلون المسجد الحرام محلقين مقصرين . ثم يخرج على وجهين : أحدهما : في ابتداء الإحرام ، يخرج على التزين على ما يزين المحرم في ابتداء إحرامه من نحو التطيب واللباس والحلق والتقصير ، ونحو ذلك ، يخبر أنهم يدخلون على التزين في المسجد الحرام آمنين من الكفار ، فإن كان على ذلك فهو على الثياب والطيب وغير ذلك . وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان معتمرا ، فسميت تلك عمرة القضاء ؛ حيث منع في عام الحديبية وكان معتمرا [ فسميت ] تلك عمرة وإن حاجا فيكون قوله : { لَتَدْخُلُنَّ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ } بعد رجوعهم من منى إلى طواف الزيارة في ذلك الوقت يكونون محلقين مقصرين ، والله أعلم . فإن قيل : ما الحكمة في أمره رسوله صلى الله عليه وسلم بالخروج للحج عام الحديبية على علم منه أنه لا يصل إلى مكة وأنه يحال بينه وبين دخول مكة وقضاء النسك ، ولا يحتمل إلى ذلك إلا بأمر من الله تعالى ، ليس هو كغيره من الناس أنهم يفعلون أفعالا بلا أمر ، ثم يمنعون أو ينهون عن ذلك ، فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يفعل شيئاً إلا عن أمر منه له بذلك . قيل : يحتمل إنما أمر بذلك مع علمه بأنهم يمنعون عن ذلك ؛ تعليما منه رسوله وأمته حكم الإحصار : أن من حصر عن الحج ، ومنع عن دخول مكة ؛ لقضاء النسك ، ماذا يلزمه ؟ وبم يخرج منه ؟ ولله تعالى أن يعلم خلقه أحكام شريعته مرة بأمر يأمرهم بذلك ، أو بخبر يخبرهم ، ومرة بفعل النبي صلى الله عليه وسلم يمتحنهم بما شاء ، له الحكم والأمر في الخلق ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { لاَ تَخَافُونَ } . أي : تدخلون مكة آمنين ، لا تخافون عدوكم ، ولا منعهم إياكم . وقوله - عز وجل - : { فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ } . هذا يخرج على وجوه : أحدها : أي : علم ما وعد لكم من فتح خيبر وغنائمه ما لم تعلموا . ويحتمل : أي : علم ما أرى وصوله صلى الله عليه وسلم من الرؤيا وتحقيقها ما لم تعلموا . ويحتمل : أي : علم في رجوعكم عن الحديبية أشياء لم تعلموها أنتم من إظهار ما أظهر من نفاق أهل النفاق فيهم ، وأهل الاضطراب من المحققين والمصدقين وغير ذلك ، والله أعلم . وعن ابن عباس - رضي الله عنه - في قوله تعالى : { فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ } يقول : إن ذلك الدخول أي سنة ؟ ولم تعلموا أنتم ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً } . قال بعضهم : جعل من قبل أن يدخلوا مكة { فَتْحاً قَرِيباً } ، أي : عاجلا فتح خيبر ، والله أعلم . وقول أهل التأويل : إنه اشتد على الناس رجوعهم من الحديبية وصدهم المشركون عما قصدوا ، بعدما أخبرهم الرسول صلى الله عليه وسلم أنه رأى في المنام أنهم يدخلون على ما وقع عندهم أن رؤيا الأنبياء - عليهم السلام - حق كالوحي . لكن هذا لا يحتمل من المسلمين ما يحتمل من المنافقين على ما ذكر أنهم قالوا حين أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية أن الرؤيا [ كذب ] أو كلام نحوه ؛ فكل هذا يحتمل من المنافقين ، فأما من المسلمين فلا يحتمل أن يقع في قلوبهم شيء من ذلك ؛ لما لم يكن في الآية بيان ولا توقيت أنهم متى يدخلون ؟ بل فيها الوعد بالدخول ليس فيها أنه متى ؟ ألا ترى أن يوسف - عليه السلام - رأى رؤيا وخرجت بعد أربعين سنة أو أقل أو أكثر ؛ فعلى ذلك لا يحتمل أن يخفى عليهم إذا لم يكن في الوعد توقيت أنه يجوز أن يتأخر أو يتقدم ، والله أعلم . ثم فيما ذكرنا من أمر الحديبية وصد المشركين إياهم عن دخول مكة والحيلولة بينهم وبين ما قصدوا - أنه لا يحتمل أن يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لقصد الحج وزيارة البيت مع أصحابه بلا أمر منه بذلك ؛ لما ذكرنا ، ثم إن ثبت له الأمر بذلك على علم من الله تعالى أنه لا يصل إلى تحصيل المأمور به وما قصدوا من دخول مكة زائرين ، وما يكون من المشركين من المنع لهم والصد عن ذلك ، وما أرادوا تحصيل ما أمرهم بذلك ، فهذا دليل على أن الله تعالى قد يأمرهم ويريد غير الذي أمر به ، وأنه يريد ما علم أنه يكون منهم الذي أمر به ، وهو كما أمر إبراهيم عليه السلام بذبح ولده ، ثم كان حقيقة المراد بالأمر بذبح الولد ذبح الشاه والكبش ؛ دل أن الأمر بالشيء لا يدل على أنه أراد الذي أمره به ، بل يريد ما علم أنه يكون منهم من خلافه وضده ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { هُوَ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِٱلْهُدَىٰ وَدِينِ ٱلْحَقِّ } . أي : أرسله بالهدى من كل ضلال أو حيرة . أو أرسله بالبيان من كل عمى وشبهة ، وهو هذا القرآن الذي سماه مرة : هدى ، ورحمة ، ونورا ، ونحو ذلك ، وهو ما وصفه - عز وجل - أن من تمسك به يكون ما ذكر هدى من كل ضلالة وحيرة ، ونورا من كل ظلمة ، وبيانا من كل عمى وشبهة ، ولا قوة إلا بالله . وقوله - عز وجل - : { وَدِينِ ٱلْحَقِّ } . جائز أن يكون الحق هو نعت الدين وهو الإسلام ، وهو الدين الحق ، وسائر الأديان باطلة . ويحتمل أن يكون قوله تعالى : { وَدِينِ ٱلْحَقِّ } ؛ أي : دين الإله الذي هو الإله الحق ، وهو الإله المستحق الألوهية وغيره من الأديان دين الشيطان ، ولا قوة إلا بالله . وقوله - عز وجل - : { لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِ } . الإظهار : هو الغلبة ، ثم تخرج غلبته على الدين كله على وجهين : أحدهما : أي : غلب هذا الدين على الأديان كلها بالحجج والبراهين أنه حق ، وأنه من عند الله جاء ، وقد كان بحمد الله كما ذكر ، حتى عرف أهل الأديان كلها بالحجج والبراهين أنه حق إلا من كابر عقله وعاند الحق أو غفل عن دلائله ، ولا قوة إلا بالله . والثاني : يغلب على الأديان كلها ، أي : يغلب على أهل الأديان كلهم حتى يصير أهل الإسلام ظاهرين غالبين من بين غيرهم ، ويتوارى جميع أهل الأديان ويختفوا ، ولكن ذلك في وقت دون وقت ، وهو الوقت الذي ذكره بعض أهل التأويل ، وهو في وقت خروج عيسى - عليه السلام - يصير أهل الأديان كلهم أهل دين واحد وهو الإسلام . وجائز أن يكون قوله : { لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِ } ، أي : يظهر ما يحتاج أهل هذا الدين كله وما يحدث لهم من الحاجة - على الأديان كلها ، بما ضمن في القرآن معاني تقع الكفاية بها في الحوادث كلها ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً } . هذا يحتمل وجهين : أحدهما : { وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً } بأن ما جاء به سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، إنما جاء به من عند الله ، فإن كان التأويل هذا ، فإنما تكون هذه الشهادة في الآخرة . والثاني : يحتمل قوله تعالى : { وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً } بما أنشأه له من الآيات والحجج شهادة منه على رسالته ونبوته ، وذلك في الدنيا ، والله أعلم .