Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 49, Ayat: 14-18)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - عز وجل - : { قَالَتِ ٱلأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَـٰكِن قُولُوۤاْ أَسْلَمْنَا } هذه الآية وإن خرجت على مخرج العموم ، ولكن أراد بها الخاص ، وهو بعض الأعراب ؛ إذ في الإجراء على العموم يؤدي إلى الكذب في خبر الله - تعالى - عن ذلك ؛ إذ لا كل الأعراب قالوا ذلك ، ولا كل الأعراب يجب أن يقال لهم : لم تؤمنوا ، ولكن يقال لهم : قولوا : أسلمنا ، فهو يرجع إلى خاص من الأعراب ، فكأنه يرجع إلى أهل النفاق منهم ، فإنهم أخبروا أنهم آمنوا ، ولما آمنوا فلما أطلع الله - عز وجل - رسوله أنهم لم يؤمنوا ، ولكنهم استسلموا وخضعوا للمؤمنين ظاهراً ؛ خوفاً من معرة السيف ، وطمعاً فيما عند المسلمين من الخير ، فنهاهم أن يقولوا : آمنا ، إذا لم يكن في قلوبهم ذلك ، وأمرهم أن يقولوا : أسلمنا ، ومعناه ما ذكرنا ؛ أي : خضعنا واستسلمنا ، ليرتفع عنهم السيف . ولا يصح الاستدلال بالآية على أن الإسلام والإيمان غيران ، فإنه غاير بينهما ؛ حيث نهاهم أن يقولوا : آمنا وأمرهم أن يقولوا : أسلمنا ، ولو كانا واحداً لم يصح هذا ؛ لأنا نقول : لم يرد بهذا الإسلام هو الإسلام الذي هو الإيمان ، ولكن أراد به الاستسلام والانقياد الظاهر ، وهو كما يسمى : إسلاماً يسمى : إيماناً - أيضاً - من حيث الظاهر ، فأما حقيقة الإيمان والإسلام ترجع إلى واحد ؛ لأن الإيمان هو أن يصدق كل شيء في شهادته على الربوبية والوحدانية لله - تعالى - والإسلام هو أن يجعل كل شيء لله سالماً ، لا شركة لأحد فيه ، فمتى اعتقد أن كل شيء في العالم لله - تعالى - وهو الخالق له ، وكل مصنوع شاهد ودليل على صانعه فقد صدقه في شهادته على صانعه ، والله الموفق . وقوله - عز وجل - : { وَلَمَّا يَدْخُلِ ٱلإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } الإيمان ليس هو محسوساً مركباً يدخل في القلب أو لا ، ولكن معناه : نفى فعل القلب ، وهو التصديق ؛ كأنه قال : ولم تؤمن قلوبهم ؛ على ما ذكر في آية أخرى { قَالُوۤاْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ } [ المائدة : 41 ] . ثم هاتان الآيتان تنقضان على الكرامية مذهبهم في أن الإيمان لا يكون بالقلب ، ولكن باللسان والقول ، فإن أهل النفاق قد قالوا ذلك بلسانهم ، ثم أخبر أنهم لم يؤمنوا ، وهم يقولون : بل قد آمنوا . فيقال لهم : { أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ ٱللَّهُ } [ البقرة : 140 ] ، { قُلْ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى ٱللَّهِ تَفْتَرُونَ } [ يونس : 59 ] . وفي هذه الآية آية عظيمة على رسالته ؛ حيث قال له : { قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَـٰكِن قُولُوۤاْ أَسْلَمْنَا } وقد قال لهم - عليه الصلاة والسلام - ذلك ، ولم يتهيأ لهم إنكار ذلك القول ، فعرفوا أنه بالله عرف ذلك ، ولم يظهروا ما في ضميرهم خوفاً من السيف ليعرف النبي - صلى الله عليه وسلم - والله الموفق . وقوله - عز وجل - : { وَإِن تُطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُمْ مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً } جائز أن تكون الآية صلة ما ذكر في سورة الفتح للمنافقين بعد تخلفهم عن أمر الحديبية مع المؤمنين ؛ حيث قال : { سَتُدْعَوْنَ إِلَىٰ قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ } [ الفتح : 16 ] وما ذكر من أمرهم في غير آي من القرآن ، يقول : { وَإِن تُطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُمْ مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً } يقول : إن تطيعوا الله ورسوله فيما يدعوكم الرسول إلى الخروج إلى الجهاد والقتال بعد تخلفكم عن الحديبية لا ينقصكم من أعمالكم التي كانت لكم شيئاً ، والله أعلم . ويحتمل وإن تطيعوا الله ورسوله بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يلتكم من أعمالكم شيئاً ، أي : لم ينقصكم من أعمالكم التي عملتموها من قبل ، ولم تضلوا أعمالكم التي عملتم من بعد ، وإن عصيتموه وتخلفتم عنه في حياته ؛ لأنه قال : { فَإِن رَّجَعَكَ ٱللَّهُ إِلَىٰ طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَٱسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً } [ التوبة : 83 ] قد كان نهاهم عن الخروج معه للغزو أبداً ، فيقول : إن تطيعوا بعد وفاته وتجاهدوا في سبيل الله لم يلتكم من أعمالكم شيئاً ؛ بل يقبل ذلك منكم ، والله أعلم . ويحتمل أن يكون في المنافقين ، فيكون فيها وعد المغفرة للمنافقين إذا تابوا وأطاعوا الله ورسوله ، كما وعد المغفرة لجميع الكفرة إذا تابوا عن الكفر بقوله : { إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ } [ الأنفال : 38 ] فعلى ذلك هذا ، وهو كقوله تعالى : { لِّيَجْزِيَ ٱللَّهُ ٱلصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ ٱلْمُنَافِقِينَ إِن شَآءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } [ الأحزاب : 24 ] ، والله أعلم . قال بعضهم : هذا في جميع المؤمنين : إن من أطاع الله ورسوله لا ينقصكم من أعمالكم شيئاً ؛ أي : لا يضيع أعمالكم ؛ بل يثيبكم ؛ كقوله - تعالى - : { يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ } [ فاطر : 29 ] أي : من عمل لله لا يضيع ، ومن عمل لغيره قد يضيع ، فلا يظفر على ثوابه بشيء . ويحتمل أن تكون الآية في المؤمنين الذين أسلموا ؛ يقول : إذا أسلمتم فلم ينقصكم من ثواب أعمالكم ما سبق منكم من الكفر ، وهو كقوله - تعالى - : { إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ } [ الأنفال : 38 ] ، والله أعلم . وقوله : { إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } ظاهر . وقوله - عز وجل - : { إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصَّادِقُونَ } كأن هذا ذكر مقابل ما تقدم من قول المنافقين ؛ حيث قال : { قَالَتِ ٱلأَعْرَابُ آمَنَّا } ، فقال لهم : قل : لم تؤمنوا أنتم ، إنما المؤمنون هؤلاء ، ثم نعتهم فقال : { ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصَّادِقُونَ } أخبر أن هؤلاء هم الصادقون في إيمانهم ، وأنتم يا أهل النفاق بحيث أضمرتم الخلاف له ولم تجاهدوا معه فلستم بصادقين في إيمانكم ، فجعل الجهاد دليل ظهور الصدق في الإيمان ، لا أنه من شرائط الإيمان الذي لا يجوز الإيمان الذي دونه . ويحتمل : { إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } ؛ أي : صدقوا الله ورسوله سرّاً وعلانية على الحقيقة ، لا الذين أظهروا ولم تكن قلوبهم مصدقة لذلك كالمنافقين ؛ ألا ترى أنه قال : { ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ وَجَاهَدُواْ } أي : لم يشكوا في حادث الوقت ؛ بل جاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ؛ إظهاراً لتحقيق الإيمان وصدقه ، وليسوا كالمنافقين الذين ارتابوا وشكوا في إيمانهم ، وتخلفوا عن الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والله أعلم . ثم قال الله - تعالى - : { قُلْ أَتُعَلِّمُونَ ٱللَّهَ بِدِينِكُمْ } كأنه صلة قوله - تعالى - : { قَالَتِ ٱلأَعْرَابُ آمَنَّا } حيث قالوا ذلك بألسنتهم ، وليس ذلك في قلوبهم ، فأخبر أنه يعلم ما في قلوبهم من الإيمان والشك والخلاف ، كأنهم حين قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم : لم تؤمنوا ، فلجوّا في ذلك وقالوا : بل آمنّا ؛ ظنوا أنه إنما قال ذلك من دأب نفسه ، فقال عند ذلك قل : { أَتُعَلِّمُونَ ٱللَّهَ بِدِينِكُمْ } يخبر أن الذي أنبأني وأخبرني بذلك هو الذي يعلم غيب ما في السماوات وما في الأرض ، وهو بكل شيء مما في القلوب من الصدق وغيره عليم ، فكيف تعلمون الله بأنكم مؤمنون ، وهو يعلم إنكم لكاذبون . وقوله - عز وجل - : { يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ } الذي حملهم وبعثهم على الامتنان عليه بالإيمان الذي أتوا به أنهم قوم لا يؤمنون بالآخرة ؛ فيظنون أنهم إذا أظهروا الموافقة لم يلحقهم بسببه مؤنة الخروج إلى القتال . أو متى أظهروا الإيمان يصير المسلمون أعواناً لهم ، ونحو ذلك . هذا الذي ذكرنا ونحوه بعثهم وحملهم على الامتنان عليه ، ولو كانوا يؤمنون بالآخرة ، لعرفوا أن إيمانهم لأنفسهم ؛ إذ به نجاتهم ، وإليهم يقع نفعه ، ليس في الإيمان لله - تعالى - نفع ، ولا في تركه ضرر ، تعالى عن الضرر والنفع ، فيكون الامتنان لله - تعالى - عليهم كما قال : { بَلِ ٱللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } . ثم [ في ] قوله - عز وجل - : { بَلِ ٱللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ } نقض قول المعتزلة : إنه يجب على الله - تعالى - أن يهديهم ؛ لقولهم بالأصلح ، فإنه قال : { بَلِ ٱللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ } ولو كانت هدايتهم واجبة عليه لا يكون له عليهم منة ؛ لأنه مؤد [ ما ] عليه لهم من الحق ، ومن أدى حقّاً عليه لآخر لا يكون له الامتنان على صاحب الحق ، وكذلك في قوله - تعالى - : { فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ وَنِعْمَةً } [ الحجرات : 8 ] لو كانت الهداية [ واجبة ] عليه لا يكون في فعله متفضلا ولا منعماً ، بل يكون لهم عليه الامتنان ، ومنهم الإفضال والإنعام ؛ لما عظموه وبجلوه بشيء كان عليه فعل ذلك حقّاً واجباً لهم ؛ فدل على فساد مذهبهم . وفيه دلالة أن الهداية ليست هي البيان فحسب ؛ لوجهين : أحدهما : لأن هداية البيان مما قد كان في حق الكافر والمسلم جميعاً ، فلا معنى لتخصيص المسلمين بهذه المنة ومثلها موجود في حق غيرهم . والثاني : أن البيان قد عم الكافر والمؤمن ، وقد أخبر الله - تعالى - بأن له المنة عليهم إن كانوا صادقين في إيمانهم ، فلو كانت الهداية هي البيان لا غير ، لكان لا يشترط فيه شرط صدقهم ؛ لأن منة البيان تعم الصادقين وغير الصادقين دل أن المراد من الهداية : الإسلام ، حتى تتحقق له المنة على الخصوص في حق المسلمين ، والله الموفق . ثم الهداية المذكورة - هاهنا - تحتمل وجهين : أحدهما : خلق فعل الاهتداء منهم . والثاني : التوفيق والعصمة ؛ كأنه يقول : بل الله يمن عليكم أن خلق منكم الاهتداء أو وفقكم للإيمان ، وعصمكم عن ضده ، وكذلك يخرج قوله - تعالى - : { وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ ٱلإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ } [ الحجرات : 7 ] على هذين الوجهين : وفقكم له وعصمكم عن ضده ، أو خلق حبه في قلوبكم وزينه ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } هذا يخرج على الوعيد ؛ أي : هو بصير بما أسروا وأعلنوا ، ليكونوا أبداً على يقظة وحذر ، ولا قوة إلا بالله ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله .