Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 49, Ayat: 11-13)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - عز وجل - : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ } ظاهر الآية نهي للجماعة عن سخرية جماعة ؛ لأن السخرية إنما تقع وتكون في الأغلب بين قوم وقوم ، وقلما تقع بين الأفراد والآحاد ؛ فعلى ذلك جرى النهي ، ولكن يكون ذلك النهي للجماعة والأفراد والآحاد جميعاً ، والله أعلم . ثم يحتمل السخرية المذكورة في الآية وجهين : أحدهما : في الأفعال ، يقول : لا يسخر قوم من قوم في الأفعال عسى أن يكونوا خيراً منهم في النية في تلك الأفعال أو خيراً منهم ؛ أي : أفعالهم أخلص عند الله من أفعال أولئك ، وأقرب إلى القبول . والثاني : سخرية في الخلقة ، وذلك راجع إلى منشئها ، لا إليهم ، وهم قد رضوا بالخلقة التي أنشئوا عليها ، وعسى أن يكونوا هم على تلك الخلقة عندهم خيراً منهم . ثم قوله - عز وجل - : { عَسَىٰ أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ } يحتمل وجهين : أحدهما : عسى أن يصيروا من بعدهم خيراً من تلك الأحوال والأفعال التي هم عليها اليوم . والثاني : عسى أن يكونوا هم عند الله خيراً منهم في الحال ؛ كقوله - عز وجل - : { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَاكُمْ } أخبر أن الأكرم منهم عند الله - تعالى - هو أتقاهم ، لا ما افتخروا بما هو أسباب الفخار عندهم ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ } ذكر سخرية نساء من نساء ؛ لأن النساء ليس لهن اختلاط مع الرجال حتى تجري السخرية بينهم ، وإنما الاختلاط في الغالب بين الجنس يكون ، فعلى ذلك جرى النهي بالسخرية ، والله أعلم . ويحتمل أنه خص هؤلاء بهؤلاء كما خص القصاص في قوله : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِصَاصُ فِي ٱلْقَتْلَى ٱلْحُرُّ بِالْحُرِّ وَٱلْعَبْدُ بِٱلْعَبْدِ … } الآية [ البقرة : 178 ] ، ثم جمع بين الأحرار والعبيد ، والذكور والإناث بالمعنى الذي جمعهم فيه ، وهو ما ذكر : { وَلَكُمْ فِي ٱلْقِصَاصِ حَيَٰوةٌ } [ البقرة : 179 ] أبان عن المعنى الذي به وجب القصاص فيما بينهم ، فاشتركوا جميعاً في ذلك : الأحرار والعبيد ، والذكور والإناث ، فعلى ذلك ذكر المعنى الذي به نهاهم عن السخرية ، وهو ما ذكر { عَسَىٰ أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ } فذلك المعنى يجمع سخرية الرجال من النساء ، وسخرية النساء من الرجال ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَلاَ تَلْمِزُوۤاْ أَنفُسَكُمْ } واللمز : هو الطعن . ثم منهم من يقول : هو الطعن باللسان . ومنهم من يقول : بالشدق والشفة . ومنهم من يقول : بالعين ؛ وحاصله هو الطعن فيه . وقال القتبي : اللمز : هو العيب ؛ أي : لا تعيبوا . وقال أبو عوسجة : هو شبه العيب . ثم قوله - عز وجل - : { أَنفُسَكُمْ } يحتمل وجهين : أحدهما : { وَلاَ تَلْمِزُوۤاْ أَنفُسَكُمْ } أي : تذكروا مساوى أنفسكم عند الناس . وفيه الأمر بالستر عليهم وعلى أنفسهم ، وألا يهتكوا سترهم ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَلاَ تَنَابَزُواْ بِٱلأَلْقَابِ } أي : لا تدعوا بالألقاب ، والنبز : اللقب ؛ يقال : نبزت فلاناً : أي : لقبته ، وفي الحديث : " قوم نبزهم الرافضة " أي : لقبهم ، ولو قال : { وَلاَ تَنَابَزُواْ } لكان كافياً ، لكن كأنه قال : ولا تظهروا ألقابهم فيسوءهم ما أظهرتم من اللقب ، والله أعلم . ثم قال بعض أهل التأويل : إنما نهوا عن ذلك ؛ لأنهم يسمونهم بعد إسلامهم بالأفعال التي كانوا يفعلون في حال جاهليتهم من الكفر والفسوق ، ويلقبونهم بذلك ، ويقولون : يا كافر ، يا فاسق ، ونحو ذلك ، ودل على ذلك قوله - تعالى - : { بِئْسَ ٱلاسْمُ ٱلْفُسُوقُ بَعْدَ ٱلإَيمَانِ } . وجائز أن يلقبوا بذلك وبغيره من الألقاب ، فنهوا عن أن يسموهم بغير أسمائهم التي كانت لهم ، وأن يعرفوا بأسمائهم التي لهم ، ونهوا عن التعريف بالألقاب وتغيير الأنساب والأسماء التي لهم إذا كان التعريف بذلك يسوءهم ويغيظهم ، والله أعلم . ثم قال الله - تعالى - : { وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ } أي : واضعون الشيء في غير موضعه ، والله أعلم . ثم قوله - عز وجل - : { بِئْسَ ٱلاسْمُ ٱلْفُسُوقُ بَعْدَ ٱلإَيمَانِ } يحتمل وجهين : أحدهما : ما ذكرنا ؛ أي : بئس النسبة إلى الفسق التي كانت والتسمية بها بعد الإيمان إلى الاسم والفعل الذي كان له ومنه قبل الإيمان ؛ كأنه قال : لا تسموهم بتلك [ الأسماء ] بعد الإيمان ، والله أعلم . والثاني : { بِئْسَ ٱلاسْمُ ٱلْفُسُوقُ بَعْدَ ٱلإَيمَانِ } أي : بئس ما اختار من اسم الفسق بعدما كان اختار اسم الإيمان وفعله ، فهذا يرجع إلى اختيار الفسق بعد الإيمان ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱجْتَنِبُواْ كَثِيراً مِّنَ ٱلظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ ٱلظَّنِّ إِثْمٌ } . هاهنا أسماء ثلاثة يجب أن يتعرف ما محلها ؟ وما قدرها ؟ وكيف أسبابها ؟ أحدها : الظن ، والثاني : الشك ، والثالث : العلم واليقين . أما الظن فكأنه هو الذي له ظاهر الأسباب التي لها خوف الزوال والانتقال . والشك هو الذي فقد ظاهر أسبابه ، أو له استواء الأسباب ، ومقابلة بعضها بعضاً ، فهو المتردد بين الحالين ، لا يقر قلبه على شيء . واليقين هو الذي له الأسباب الظاهرة التي ليس لها خوف الزوال والانتقال ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { ٱجْتَنِبُواْ كَثِيراً مِّنَ ٱلظَّنِّ } كأنه نهى أن يحقق أو يعمل في صاحبه بسوء على ظاهر الأسباب التي هي على شرف الزوال وطرف الانتقال يجوز أن تكون غير متحققة في الأصل أو زائلة ، والله أعلم . ثم في الآية دليل على أنه ليس كل ظن يجتنب عنه ، ولا كل الظن يكون إثما ؛ لأنه استثنى منه بعضه بقوله : { بَعْضَ ٱلظَّنِّ إِثْمٌ } فجائز أن يكون ما استثنى من الظن ، ولا يأمر بالاجتناب عنه هو ما يغلب عليه الأسباب ، وغالب الأسباب ربما تعمل عمل العلم واليقين بحق المكره على شيء يرخص له أو يباح العمل إذا رأى من ظاهر حال المكره أنه فاعل به ما أوعده ، وإن كان يجوز ألا يفعل به أو لا يقدر على ما أوعده ، وعلى ذلك موضوع عامة الأحكام والشرائع بين الخلق أنها على غالب الظن وضعت ليس على التحقيق ، والله أعلم . ويحتمل أن يرجع ما استثنى من الظن القليل الذي لا إثم فيه إلى الظن الحسن ؛ إذ يجوز أن يظن بالإنسان الظن الحسن ؛ ولا إثم فيه ، إنما الأمر بالاجتناب إلى الظن بالسوء على غير تحقق أسباب أو غير تحقيق عين ذلك ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَلاَ تَجَسَّسُواْ } التجسس : هو تكلف طلب المساوئ في الناس من غير أن يظهر منهم من أسبابها شيء ، فنهى عن تكلف طلب ذلك أو من الإظهار وأمر بالستر ، وبمثل ذلك روي في الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم . وروي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قيل له : هل لك في فلان يعطر لحيته خمراً ، فقال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - : إن يظهر لنا شيء نأخذه ، وإلا فإن الله - تعالى - قد نهانا عن التجسس ، والله أعلم . وفرق بعضهم بين التجسس والتحسس ، فقال بعضهم : بالجيم في الشرور والمساوئ ، وبالحاء في الخير وفيما يباح طلبه ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً } الغيبة ترجع إلى وجهين : أحدهما : أن يذكر ما فيه من مساوئ الأفعال التي سترها عن أعين الناس مما يكره إظهار ذلك عنه . والثاني : يذكر ما فيه من قبح الأحوال والأخلاق التي لا يكاد يذكر ذلك منه أو يظهر ، وعلى ذلك روي في الخبر " عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يذكر الرجل أخاه بما فيه مما يكره ، فقيل : إنما كنا نذكره بالشيء الذي فيه ، لا بما ليس فيه ، قال : " ذلك البهتان " . وقوله - عز وجل - : { أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ } أي : لا يحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه بعد موته ، فكأنه يقول : فإذا لم يحب هذا وكرهه ؛ بل يستقذره كل استقذار فالغيبة هي تناول من أخيك وهو حي ، فهو في القبح يبلغ التناول منه بعد موته ، فإن كان لا أحد يتناول من لحم أخيه بعد موته ، لا في حال اختياره ، ولا في حال اضطراره ، فلا تغتابوا ولا تذكروا منه ما فيه ؛ فإنه في القبح ذلك . وقوله - عز وجل - : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ } تأويل الآية على وجهين : أحدهما : إنما خلقناكم جميعاً من أصل واحد ، وهو آدم وحواء - عليهما السلام - فيكونون جميعاً إخوة وأخوات ، وليس لبعض الإخوة والأخوات الافتخار والفضيلة على بعض بالآباء والقبائل التي جعلنا لهم ، إنما القبائل وما ذكر للتعارف والفضيلة والكرامة فيما ذكر { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَاكُمْ } مع ما لو كان في ذلك فضيلة وافتخار ، فالكل في النسبة إليهم على السواء ؛ فلا معنى لانفراد البعض بالافتخار . والثاني : يحتمل : إنا خلقنا كل واحد منكم من الملوك والأتباع ، والحر والعبد ، والذكر والأنثى من ماء الذكر والأنثى ، فليس لأحد على أحد من تلك الجهة التي يفتخرون بها الافتخار والفضيلة ؛ إذ كانوا جميعاً من نطفة مذرة منتنة تستقذرها الطباع . ذكر هذا ؛ ليتركوا التفاخر والتطاول بالأنساب والقبائل ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوۤاْ } ، ثم اختلفوا في تأويل قوله : { شُعُوباً وَقَبَآئِلَ } : قال بعضهم : الشعوب أكبر من القبائل ، فالشعوب هم الأصول ، والقبائل : الأفخاذ منهم ، فالشعوب للعرب ، والأمم والقرون للعجم . وقال بعضهم : الشعوب للعجم ، والقبائل للعرب . وقال أبو عوسجة : الشعوب : الضروب ، وهي القبائل ، والواحد : شعب ، والشعب الاجتماع ؛ يقال : شعبت الإناء : إذا انكسر فجمعته وأصلحته ، ويسمى من يصلح الإناء : شعاباً ، والشعب : التفريق - أيضاً - والشعوب : المنية ، ونحو ذلك . ثم قوله - عز وجل - : { لِتَعَارَفُوۤاْ } أي : جعل فيكم هذه القبائل ؛ ليعرف بعضكم بعضاً بالنسبة إلى القبائل والأفخاذ ؛ فيقال : فلان التميمي والهاشمي ؛ إذ كل أحد لا يعرف بأبيه وجده . ثم قال - عز وجل - : { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَاكُمْ } بين الله - تعالى - بما به تكون الفضيلة والكرامة ، وهو التقوى ، لا فيما يرون ويفتخرون بذلك ، وهو النسبة إلى الآباء والقبائل ؛ بل ذلك لما ذكر من التعارف ؛ وهذا لأن التقوى فعله ، وهو إتيان الطاعات والاجتناب عن المعاصي ، وذلك مما يأتيه تعظيماً لأمر الله - تعالى - ونهيه . وجائز أن تنال الفضيلة والكرامة بفضل الله وكرمه بناء على فعله ، فأمّا ما لا فعل له في التولد من آباء كرام فأنى يستحق الفضل بذلك لو كان افتخاراً بما يكون للآباء بمباشرتهم أسباب حصول الأولاد ليوحدوا الله - تعالى - ويتمسكوا بطاعته ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } على الوعيد .