Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 49, Ayat: 1-5)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - عز وجل - : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } قال بعضهم : إن أبا بكر وعمر - رضي الله عنهما - اختلفا في شيء بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فارتفعت أصواتهما ، فنزل قوله - تعالى - : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ … } إلى آخر ما ذكر من قوله : { لاَ تَرْفَعُوۤاْ أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ ٱلنَّبِيِّ } . وذكر عن الحسن في قوله - تعالى - : { لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } أي : لا تذبحوا قبل ذبح النبي يوم النحر ، وذلك أن ناساً من المسلمين ذبحوا قبل صلاة النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر . وقال قتادة : ذكر لنا أن رجالا كانوا يقولون : لو أنزل كذا وكذا ، أو صنع كذا وكذا ، فنزلت هذه الآية ، وأمرهم ألا يسبقوا نبيه صلى الله عليه وسلم بقول ولا عمل حتى يبين الله - تعالى - بيانه ، وأمثال ذلك قد قالوا ، والله أعلم . وأصل ذلك عندنا من قوله : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ … } الآية ، أي : يأيها الذين آمنوا اعلموا أن لله الخلق والأمر ، لا تقدموا أمراً ، ولا قولا ، ولا فعلا ، ولا حكماً ، ولا نهياً سوى ما أمر الله - تعالى - به ورسوله صلى الله عليه وسلم وغير ما نهى عنه ؛ بل اتبعوا أمره ونهيه ، وراقبوه على ما آمنتم به وأقررتم بأن له الخلق والأمر ، فاحفظوا أمره ونهيه ، ولا تخالفوه ولا رسوله في شيء من الأمر والنهي ، فهذا يدخل فيه كل شيء وكل أمر من القول ، والفعل ، والقضاء ، والحكم ، والذبح ، وغير ذلك ؛ على ما ذكرنا من إيمانهم بأن له الخلق والأمر في الخلق ؛ إذ مثل هذا الخطاب لو كان لواحد خاص لكان حكمه يلزم الكل ، وكذلك لو كان في أمر واحد وفعل واحد كان يدخل في ذلك جميع الأمور ، فكيف والخطاب بذلك عام مطلق ؟ ! فهو للكل ، وفي كل الأمور ، والله الموفق . وعلى ذلك ما روي عن مسروق أنه دخل على عائشة - رضي الله عنها - فأمرت الجارية أن تسقيه ، فقال : إني صائم - وهو اليوم الذي يشك فيه - فقالت له : قد نهي عن هذا ، وتلت قوله - تعالى - : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } في صيام ولا غيره . اعتبرت عائشة - رضي الله عنها - عموم الآية في النهي عن التقدم بين يدي الله ورسوله ومخالفة النبي صلى الله عليه وسلم في [ كل ] قول أو فعل . وكذلك روي عن أبي عبيدة معمر بن المثنى قال في قوله : { لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } أي : لا تعجلوا بالأمر والنهي دونه . وقوله - عز وجل - : { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } أي : اتقوا مخالفة أمر الله ونهيه قولا وفعلا ، واتقوا مخالفة رسوله فيما يأمركم بأمر الله ونهيه ، وفي كل ما دعاكم إليه { إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ } لأقوالكم { عَلِيمٌ } بأفعالكم وأعمالكم ، ولا قوة إلا بالله . ثم لم يفهموا مما ذكر في قوله : { بَيْنَ يَدَيِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } الجوارح ولا العدد في اليد كما فهموا من ذلك في الخلق ، فما بالهم يفهمون ذلك من قوله : { خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } [ ص : 75 ] أي : خلقته على علم مني بما يكون منه [ من ] خلاف أو معصية ، لم أخلقه عن جهل بما يكون منه ، وهو ما ذكر في قوله - تعالى - : { وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [ البقرة : 265 ] و { خَبِيرٌ } [ البقرة : 234 ] ، أي : عن علم بأحوالهم وما يكون منهم أنشأهم لا عن جهل بذلك ، فعلى ذلك هذا ، كما فهموا من قوله : { لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ ٱللَّهِ } أمر الله ونهيه دون الجوارح والعدد ، والله الموفق . وقوله - عز وجل - : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَرْفَعُوۤاْ أَصْوَاتَكُمْ … } إلى قوله : { لِبَعْضٍ } قال بعضهم : إن الآية نزلت في أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - اختلفا في شيء بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم فارتفعت أصواتهما . وقال بعضهم : إنها نزلت في قوم كانوا إذا سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء قالوا فيه قبل قول النبي صلى الله عليه وسلم . وعندنا : لا يحتمل أن يكون ما ذكر من رفع الصوت فوق صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم والجهر بالقول له ، وما ذكر من التقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمر والنهي أن يكون الخطاب بذلك للذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم واتبعوا أمره ونهيه ؛ إذ لا يحتمل منهم أن يرفعوا أصواتهم فوق صوته ويجهروا له بالقول أو يقدموا بين يديه في أمر ولا نهي إلا عن سهو ، أو غفلة ، أو إذن منه بالمناظرة والمحاورة في العلم ، فعند ذلك ترتفع أصواتهم ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أجل في قلوبهم وأعظم قدراً من أن يتجاسروا التقدم بين يديه بأمر ، أو قول ، أو رفع صوت ، أو جهر القول له ، فتكون الآية في أهل الشرك [ أو ] في أهل النفاق ، والله أعلم . ثم إن كان الخطاب بذلك للذين آمنوا فهو على وجهين : أحدهما : أن ذلك منه ابتداء محنة امتحنهم بذلك وأمرهم به من غير أن كان منهم شيء من ذلك من التقدم بين يديه ، ورفع الصوت ، والجهر له بالقول ، ولله - تعالى - أن يمتحن ويأمر وينهى من شاء بما شاء ابتداء ؛ امتحاناً منه لهم ، وهو ما ذكرنا من نهي الرسل - عليهم السلام - عن الشرك والمعاصي وإن كانوا معصومين عن ذلك ؛ لأن العصمة لا تمنع النهي ؛ لأن العصمة إنما تكون عصمة إذا كان هناك أمر ونهي ؛ فعلى ذلك جائز أن يكون ما ذكر من النهي عن التقدم ، والرفع بالصوت ، والجهر بالقول ، وإن لم يكن منهم شيء مما ذكر ابتداء محنة منه لهم ، والله أعلم . ويحتمل أنه خاطب هؤلاء الصحابة - رضي الله عنهم - بذلك ؛ ليتعظ بذلك من يشهد مجلسه من المنافقين وغيرهم من الكافرين ؛ إذ كان يشهد مجلسه أهل النفاق وسائر الكفرة ؛ لئلا يعاملوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل معاملة بعضهم بعضا ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ } ذكر هذا ؛ ليكونوا أبداً متعظين بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم حذرين ، معظمين له في كل وقت ؛ لئلا يكون منهم في وقت من الأوقات ما يجري مجرى الاستخفاف به والتهاون على السهو والغفلة فيحبط ذلك أعمالهم ؛ لأن هذا الصنيع برسول الله صلى الله عليه وسلم يكفر صاحبه ، ولا يكون معذوراً ، وإن فعله على السهو والغفلة ؛ لأن له قدرة الاحتراز ، وأمكن التحذر ، وإن كانوا معذورين فيما بينهم على غير التعمد والقصد ، ولا مؤاخذة لهم برفع الله - تعالى - المؤاخذة عنهم فيما بينهم ، ولم يرفع في حق النبي - عليه أفضل الصلوات - مع أن الكل في حد جواز المؤاخذة ، والله أعلم . وذكر الكرابيسي فقال : ومن حكمة الآية عند قوم حبوط الأعمال بالكبائر ؛ على ما روي عن الحسن قال : أما يشعر هؤلاء الناس أن عملا يحبط عملا ، والله يقول : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ … } الآية . وقيل : المراد من الآية أن يتأذى بشؤم تلك المعصية إلى أن يهون عليه ارتكاب الكبيرة ، يستحقرها حتى يخف عليه الكفر فيكفر ؛ فتصير المعصية الأولى - وإن قلت - سبباً لحبوط ثواب أعماله ، فإن أساس كل خطيرٍ حقيرٌ . ونحن نقول : إن المعصية لا تحبط الطاعة ، ولكن هو استخفاف بالنبي صلى الله عليه وسلم ، و [ نحو ] ذلك . وقوله - عز وجل - : { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱمْتَحَنَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَىٰ } دلت هذه الآية أن الآيتين اللتين تقدم ذكرهما من قوله - تعالى - : { لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } ، وقوله - عز وجل - : { لاَ تَرْفَعُوۤاْ أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ ٱلنَّبِيِّ } ، وقوله : { وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِٱلْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ } في أهل النفاق ، فأما أصحابه الذين صحبوه وآمنوا به ، [ و ] عرفوا أنه [ رسول ] رب العالمين ، فلا يحتمل أن يكون منهم ما ذكر من رفع الصوت عنده ، وجهر القول له ، والنداء له باسمه من بُعْدٍ ، إنما ذلك به فعل من ذكرنا من أهل النفاق والشرك ، فأما الذين آمنوا به وصدقوه وعرفوا أنه رسول فلا يحتمل منهم سوى التعظيم له ، والتوقير ، والتشريف ؛ لما عرفوا أن نجاتهم وشرفهم وعزهم في الدنيا والآخرة بتعظيمه وتوقيره ، فكيف يحتمل عنهم ذلك ؛ بل كانوا لا يتجاسرون التكلم بين يديه فضلا من أن يرفعوا أصواتهم ، ويقدموا بين يديه ، أو النداء من بعد ، والله الموفق . وقوله - عز وجل - : { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱمْتَحَنَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَىٰ } هذا وصف المؤمنين ، امتحن قلوبهم للتقوى فوجدها صافية خالصة لذلك ، والامتحان - هاهنا - هو التصفية والإخلاص ؛ يقال : امتحن الذهب : إذا أخلص وصفي الصافي منه والخالص من غيره . وقوله - عز وجل - : { لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ } ظاهر . وقوله - عز وجل - : { إِنَّ ٱلَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ ٱلْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } هذا وصف من ذكرنا من أهل الشرك والنفاق . وقال بعضهم : إن نفرا من الأعراب جاءوا ، وقالوا : ننطلق إلى هذا الرجل - يعنون : محمداً صلى الله عليه وسلم - فإن يكن رسولا فنحن أسعد الناس به ، وإن يكن ملكاً نعيش في جناحه ، فأتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجعلوا ينادونه من وراء الحجرات : يا محمد ؛ فنزلت هذه الآية . وقال بعضهم : كان النبي صلى الله عليه وسلم سبى ذراري بني تميم ونساءهم ، فأتوا يطلبون منه تخلية سبيل أولئك وإعتقاهم وردهم إليهم ، فنادوه من وراء حجرات ، فأعتق بعضهم ، وفدى بعضاً ؛ فنزلت الآية . وقوله : { أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حَتَّىٰ تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ } ؛ لأن ذلك أعظم لقدره ، وأجل لمنزلته ، وأعرف لحقه ، وأحفظ لحرمته . ثم قوله : { أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } يحتمل وجوهاً : أكثرهم لا يعرفون قدره ومنزلته ، وإن كان قليل منهم يعرفون ذلك ، وهم المؤمنون . والثاني : أكثرهم لا ينتفعون بما يعقلون . والثالث : أكثرهم لا يعقلون أنه رسوله ، وهم الأتباع والسفلة من الكفرة ، وإنما يعرف القليل منهم ، وهم الرؤساء المعاندون . وفي هذه الآية وفي قوله - تعالى - : { أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ } دلالة أن قد يلحق المرء حكم الكفر ويحبط العمل إذا خرج مخرج الاستخفاف وإن لم يعلم به ولم يقصد ، والله أعلم .