Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 49, Ayat: 6-10)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - عز وجل - : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوۤاْ } جميع أهل التأويل أو عامتهم على أن الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط ، بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني المصطلق ، وإلى قوم سواهم ؛ لجباية الصدقات ، وكان بينه وبين أولئك القوم عداوة في الجاهلية ، فخرجوا يتلقونه ، فخافهم ، فرجع ، فقال : إن القوم قد منعوا الصدقات ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم بعد ذلك خالد بن الوليد لجباية الصدقات ، فوجدهم يصلون ويعملون الطاعات ، واجتمعوا وجمعوا له الصدقات وجبوها وسلموها إليه ، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بها ، فنزل قوله - تعالى - : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوۤاْ } لكن إن كان ما ذكروا فلم يكن في ذلك النبأ التثبت ؛ لأن الآية نزلت بعد نبأ الرجل . وفي الآية الأمر بالتثبت في نبأ الفاسق فيما يحدث من الأمور من بعد ؛ فدل أن الآية نزلت لبيان الحكم في نبأ الفاسق ابتداء ، والله أعلم . ولأنه يحتمل أن يكون ذلك الرجل منافقاً ولم يأمر الله - تعالى - بالتثبت في خبر المنافق ، ولم يشرع ذلك ؛ لأن النفاق يكون في الضمير فلا يظهر ذلك ؛ فأما الفسق فإنه يظهر فأمر لنا بالتثبت فيه ؛ فدل أن الآية لم تنزل في ذلك الرجل ؛ إذ لا يحتمل عن المنافق أن يزور على المسلمين مثل ما ذكر منه دل أن ما قاله أهل التأويل فيه وهم . ثم في الآية دلالة قبول خبر الواحد إذا كان عدلا ؛ لأنه لو لم يقبل خبره إذا كان عدلا لم يكن لذكر الفسق فائدة سوى الشتم ، والشتم سفه ؛ فلا يجوز أن يوصف الله - تعالى - [ به ] فدل ذكر الفسق على أن هذا الحكم وهو رد الشهادة مختص باسم الفسق ، وأن العدل لا يشاركه فيه حتى [ لا يكون ] ذكر الفسق سفهاً لما تعلق به بيان حكم شرعي يختص بالفاسق ، ولا يعرف ذلك دون ذكره ، فأما متى كان الحكم عامّاً في الفاسق والعدل عند الانفراد ، فكان ذكر الفاسق مع شتمه لا يليق بالحكمة ؛ فدل ما ذكرنا ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { أَن تُصِيبُواْ قَوْمًا بِجَهَالَةٍ } أي : تصيبوا قوماً بجهالة في الظاهر بسبب تهمة الفسق ، فأمّا في الحقيقة فإنه يجوز أن تصيب ذلك بخبر الواحد ، لكن الأحكام وقبول الأخبار فيما بين الخلق لم توضع على الحقائق ، وإنما وضعت على الظواهر ، وكذلك قبول الشهادات ، والحكم بها ، وجميع الشرائع التي جعلت في الناس إنما هو على الظواهر من الأحوال والأمور ، فأما على إصابة حقيقة ذلك فلا ؛ إذ قد يجوز أن يحكم الحاكم ويقضي بقتل إنسان ويقطع يده بشهود عنده ؛ لما ظهرت عنده عدالتهم ، ولم يكن - في الحقيقة - كذلك ، وعلى ذلك قول يعقوب - عليه السلام - لبنيه : { قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَآ أَمِنتُكُمْ عَلَىٰ أَخِيهِ مِن قَبْلُ } [ يوسف : 64 ] لم يأمن عليهم بما ظهر له منهم زلة وجناية حين طلبوا منه إرساله ولده يوسف - عليه السلام - في الرعي ؛ بل قال هنالك : { إِنِّي لَيَحْزُنُنِيۤ أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ ٱلذِّئْبُ } [ يوسف : 13 ] إنما اعتل عليهم واحتج بأكل الذئب ولم يتهمهم فيه بما لم يكن ظهر له منهم زلة وجناية ، فلما ظهر ذلك منهم اتهمهم ، وأخبر أنه لا يأمن عليهم بما ظهر له من زلتهم ؛ فدل أن التهمة سبب الردّ ، وأنه يجب التثبت بدفع الجهالة من حيث الظاهر ، لا للحقيقة ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { فَتُصْبِحُواْ عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } أي : نادمين بما فعلوا على خلاف ما كان في الظاهر ، ويندمون لما تركوا التثبت في الخبر . وقوله - عز وجل - : { وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ ٱللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ ٱلأَمْرِ لَعَنِتُّمْ } أي : لأثمتم . من الناس من احتج بهذه الآية على أن الإجماع ليس بحجة ، وقالوا : لو كان لإجماعهم [ حجة ] لكان لا يأثمون لو أطاعهم في كثير من الأمر ؛ لأن الحق والصواب مما لا يوجب الإثم لصاحبه فيمن تبعه في ذلك الصواب ، ولكن إن كان لا يوجب الثواب دل أنه ليس بحجة يجب اتباعه . ولكن هذا فاسد ؛ لأن الحجج والبراهين لم تكن انتهت يومئذ غايتها ، ولا أتت على نهايتها ، فالإجماع الذي هو إجماع حجة عندنا ويجب اتباعه والانقياد له هو إجماع من استوعب الحجج والبراهين ، وأتى على عامتها ، أو على الجميع ، وكان الوقت وقت نزول الوحي ، وإنما تستقر الأحكام بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ينقطع الوحي ؛ فيستدل على استيعاب الحجج ونزول جميع ما يحتاج الناس إليه من حيث الإيداع في النصوص ، فمتى اجتمعوا على ذلك يكون حجة ، ولأنه لا إجماع يتحقق دون رأي رسول الله صلى الله عليه سلم وإذا وجد رأيه استغنى عن رأي الغير ؛ لما كان ينطق عن الوحي ، فإذا لم يكن وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم زمان انعقاد الإجماع حجة فبطل استدلالهم بالآية . ثم قوله - عز وجل - : { وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ ٱللَّهِ } أرسل إليكم ليزيل عنكم إشكالكم وشبهاتكم ، فلا عذر لكم في الكفر واعتراض الشبه لكم بما تقدرون أن تسألوه ما أشكل عليكم واشتبه ، فيخبركم بذلك فيزيل الشبه عنكم . والثاني : يحتمل : { وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ ٱللَّهِ } يطلع الله - تعالى - إياه على ما تضمرون في أنفسكم ، وما تولدون من الأخبار التي لا أصل لها ولا أثر ما [ لو ] أظهر ذلك لافتضحهم ، وهو صلة ما ذكر من قوله : { إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوۤاْ } ، والله أعلم . ويحتمل : أي : فيكم رسول الله تسألونه ما أشكل عليكم ، فيخبركم بالحق والأمر على الحقيقة كي لا تصيبوا قوماً بجهالة ، والله أعلم . ويحتمل أن يكون قوله : { وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ ٱللَّهِ } فإليه الرأي والتدبير في الأمور ، ومن رأيه وتدبيره يجب أن يصدر ، لا عن رأي أنفسكم وتدبيركم ، وعلى ذلك يخرج قوله : { وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ آيَاتُ ٱللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ } [ آل عمران : 101 ] على الوجوه التي ذكرنا ، والله أعلم . ثم قوله - عز وجل - : { لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ ٱلأَمْرِ لَعَنِتُّمْ } أي : لو يطيعكم فيما تدعو إليه أنفسكم من التمويهات والشبهات وهواها . أو يقول : لو يطيعكم في الصدور عن آرائكم وتدبيركم في الأمور لعنتم ، ثم قال : { وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ ٱلإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ ٱلْكُفْرَ وَٱلْفُسُوقَ وَٱلْعِصْيَانَ } هذا في الظاهر كناية غير موصولة بقوله : { لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ ٱلأَمْرِ لَعَنِتُّمْ } ؛ لأنه لا يليق ذلك إلا على الإضمار ، كأنه يقول : لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ، وإن الله قد أرسله إليكم رسولا ، وحبب إليكم الإيمان به وزينه في قلوبكم حتى صار هو في قلوبكم أحب من أنفسكم ومن كل شيء ، فالواجب عليكم أن تصرفوا الأمر إلى رأيه وتدبيره ، وأن تصدروا عن رأيه ، ولا تعتمدوا على رأي أنفسكم وتدبيركم ، والله أعلم . ويحتمل : أي : لا تدعوه إلى أن يطيعكم فيما تهوى به أنفسكم ، واشتهت بعدما حبب الإيمان إليكم وزينه في قلوبكم ، وكره إليكم الكفر وما ذكر ، والله أعلم بحقيقة جهة وصل هذا بالأول . ثم يحتمل وجهين أيضاً : أحدهما : لو يطيعكم الرسول في كثير من الأمر لعنتم ، و [ لكن ] الله - تعالى - ألزمكم طاعته في كل أمر ، فأطيعوه ولا تطلبوا منه طاعته إياكم في الأمور ، ولكن أطيعوه أنتم في الأمور كلها ، وقد حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم ، وكره إليكم الكفر والفسوق - وهو الخروج عن أمره - والعصيان . والثاني : يشبه أن يكون موصولا بقوله - تعالى - : { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱمْتَحَنَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَىٰ } [ الحجرات : 3 ] ، و { حَبَّبَ إِلَيْكُمُ ٱلإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ ٱلْكُفْرَ وَٱلْفُسُوقَ وَٱلْعِصْيَانَ } ، ثم قال الله - عز وجل - : { أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلرَّاشِدُونَ } كأنه يقول : أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى ، وحبب إليهم [ الإيمان ] وزينه في قلوبهم ، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان { أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلرَّاشِدُونَ } ، أخبر وشهد لهم بالرشاد ، وأخبر أن ذلك فضل منه إليهم ونعمة ، لا شيء كان منهم استوجبوا بذلك ؛ فذلك قوله : { فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ وَنِعْمَةً وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } . ثم قالت المعتزلة في قوله - تعالى - : { حَبَّبَ إِلَيْكُمُ ٱلإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ ٱلْكُفْرَ } وما ذكر ، يقولون : لم يحبب الإيمان إلى هؤلاء إلا وقد حبب مثله إلى جميع الكفار ، وكذلك لم يكره الكفر إلى هؤلاء إلا وقد كره [ مثله ] إلى جميع الناس ، لكن المراد تخصيص هؤلاء بما ذكر من التحبيب إليهم الإيمان ، وتكريه الكفر هو اختصاصهم بما وعد من الثواب والجزاء الجزيل على الإيمان والمواعيد الشديدة ، فحببه وزينه في قلوبهم بما وعد لهم من الثواب ، وكره الكفر والعصيان إليهم بما أوعد على ذلك من العذاب العظيم . لكن هذا فاسد ؛ لأنه ليس مؤمن به صار حب الإيمان في قلبه لما ذكروا من الثواب والجزاء ، ولا كافر أسلم حين أسلم يخطر ثواب الإيمان في قلبه حتى يكون إسلامه لذلك ؛ بل كان في قلبه بغض الإيمان قبل الإسلام ، فإذا أسلم وجد حبه في قلبه ، وكراهة الكفر ؛ ليعلم أن ذلك يكون بلطف من الله - تعالى - كان عنده ، فإذا أعطاه صار ما ذكر ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا } . قال بعضهم : كان بين رجلين مدارة - أي : منازعة - في شيء ، فغضب قوم كل رجل حتى كان بينهم خفق بالنعال والأيدي ، فنزلت الآية . وقال بعضهم : كان بين الأوس والخزرج قتال بالعِصِي ؛ فنزلت عنده الآية بالأمر بالصلح بينهم . وقال بعضهم : قتالهم بالعِصِي ، والتناجي ، ونحوهما . وقال الحسن : إن قوماً من المسلمين كان بينهم تنازع حتى اضطربوا بالنعال والأيدي ، فأنزل الله - تعالى - هذه الآية في ذلك . وقال قتادة : كان بين رجلين حق فتدارا فيه ، فقال أحدهما : لأخذته عنوة - لكثرة عشيرته - وقال الآخر : بيني وبينك رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنازعا حتى كان بينهما ضرب بالنعال والأيدي . وجائز أن تكون الآية فيما كان بين عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - وبين الحرورية وأهل النهروان ؛ ذكر أن عليّاً - رضي الله عنه - لما قتلهم فقال الناس : هم مشركون ، فقال - عليه السلام - : من الشرك فروا ، فقالوا : فمنافقون هم ؟ قال علي - رضي الله عنه - : إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا ، قالوا : فما هم ؟ قال : هم ناس بغوا علينا فقاتلونا فقاتلناهم . ويحتمل أنه كان فيما كان بين علي - رضي الله عنه - ومعاوية يوم الجمل ويوم صفين ؛ ذكر عن جعفر بن محمد عن أبيه أن عليّاً - رضي الله عنه - سمع رجلا يقول يوم الجمل : هم كفروا ، فقال : لا تقل ذلك ، ولكن هؤلاء قوم بغوا علينا ، وزعموا أنا بغينا عليهم ، فقاتلناهم على ذلك . لكن في الآية الأمر بالصلح إذا كان بينهم - أعني : المؤمنين - اقتتال بأي شيء كان بقوله - تعالى - : { فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا } وكذلك أمر في غير آي بالصلح والإصلاح ، قال : يقال : وأصلحوا ذات بينكم ، أي : بين المؤمنين . وهذه الآية حجة على المعتزلة والخوارج ، فإنه أبقى اسم الإيمان بعد ما كان منهم الاقتتال والبغي ، والقتال والبغي مع أهل الإسلام من الكبائر دل أن الكبيرة لا تخرج عن الإيمان ، ولا توجب الكفر ، والله الموفق . وقوله - عز وجل - : { فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَىٰ ٱلأُخْرَىٰ فَقَاتِلُواْ ٱلَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيۤءَ إِلَىٰ أَمْرِ ٱللَّهِ } أي : فإن ظلمت إحدى الطائفتين وطلبت غير الحق { فَقَاتِلُواْ ٱلَّتِي تَبْغِي } أي : تظلم وتجور { حَتَّىٰ تَفِيۤءَ إِلَىٰ أَمْرِ ٱللَّهِ } حتى ترجع إلى أمر الله ، وإلى الحق ، أمر بمعونة الطائفة التي لم تبغ والانتصار لها من الباغية ، وهو ما ذكر في آية أخرى : { وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ ٱللَّهُ } [ الحج : 60 ] وعد - عز وجل - النصر لهم ، فيحتمل أن يكون ذلك النصر الموعود في الدنيا ، ويحتمل في الآخرة . وفي الآية الأمر بقتال أهل البغي من غير قيد بين السيف وغيره بقوله : { فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَىٰ ٱلأُخْرَىٰ فَقَاتِلُواْ ٱلَّتِي تَبْغِي } لكن متى أمكن دفع البغي وكسر منعتهم بغير السلاح فهو الحق ، وهو الواجب ، لكن إذا لم ينقلعوا عن البغي إلا بالقتال مع السيف فلا بأس به ، فإن عليّاً - رضي الله عنه - قاتل الفئة الباغية بالسيف ومعه كبراء الصحابة - رضي الله عنهم - وأهل بدر ، وكان هو محقّاً في قتاله إياهم دل أنه لا بأس بقتالهم بالسيف . وبعضهم قالوا : إن قتال البغاة لا يجوز بالسيف ، وقالوا : إن سبب نزول الآية في القتال بالعِصِي والنعال ، ولكن لا حجة لهم فيها ؛ لأن القتال بين الفئتين وإن كان بالنعال والعصي ولكن لم يصيروا بغاة في تلك الحال ، وهو القتال الذي أمر الله تعالى فيه أن يصلح بينهم ، وإنما يصيرون بغاة بأن لم يجيبوا إلى الصلح ولم يقبل أحد من الطائفتين الصلح ، وحينئذ أمر بالقتال معهم مطلقاً من غير قيد ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { فَإِن فَآءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِٱلْعَدْلِ وَأَقْسِطُوۤاْ } ذكر أنها وإن فاءت ورجعت إلى ما أمر الله - تعالى - به لا يتركوهما كذلك بغير صلح ، ولكن أصلحوا بينهما وألفوا حتى يتآلفوا ؛ لأن أهل الإسلام ندبوا إلى التآلف بينهم والجمع ، وشرط فيه الصلح بالعدل ، فهو - والله أعلم - يقول : إنكم وإن رأيتم صلاحهم في الصلح فلا يحملنكم ذلك على الصلح الذي ليس فيه عدل ، ولكن أصلحوا بينهم بالعدل ، ولا تجاوزوا الحدّ ، وأكد ذلك قوله : { وَأَقْسِطُوۤاْ } أي : اعدلوا في الصلح { إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ } أي : العادلين . وقوله - عز وجل - : { إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } أمر الله - عز وجل - بإصلاح ذات البين بين المؤمنين بقوله : { وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ } [ الأنفال : 1 ] وأمر بالإصلاح بين الطائفتين من المؤمنين إذا اقتتلوا وتنازعوا بقوله - عز وجل - : { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا } وأمر بالإصلاح بين الآحاد والأفراد بقوله : { فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } ؛ لأن الإيمان يوجب التآلف ، وبالتآلف ندبوا ، وإليه دعوا ، وبه منّ الله - تعالى - علينا ؛ حيث قال : { مَّآ أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ } [ الأنفال : 63 ] ، وقال في آية أخرى : { وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً } [ آل عمران : 103 ] أمر بالتأليف والاجتماع ، ونهاهم عن التفرق والاختلاف ، وأمر المؤمنين جملة أن يصلحوا ذات بينهم إذا وقع بينهم تنازع واختلاف واقتتال على ما ذكر ، والله أعلم . ثم من الناس من استدل بقوله - تعالى - : { فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } على أن اسم الطائفة يقع على الواحد فصاعداً ، فقال : إنه ذكر في أول الآية : { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا } ، [ و ] قال في آخره : { فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } فدل أن اسم الطائفة يقع على الواحد فصاعداً ، فقال : فيستدل بهذا على أن في قوله - عز وجل - : { فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي ٱلدِّينِ } [ التوبة : 122 ] يراد به الواحد ؛ فيدل على لزوم خبر الواحد العدل . لكن عندنا ما ذكر أنه أمر بإصلاح ذات البين بين جملتهم ، وأمر بالصلاح بين فريقين ، وأمر بذلك بين الآحاد والأفراد ، وليس في قوله : { فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } دلالة أنه أراد به الأخوين ، أو ذكر { بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } ، وأراد به الاثنين اللذين كان الاقتتال بينهما ، وفيهما هاج القتال بينهم ، فأما أن يكون اسم الطائفة يقع على الواحد فلا ؛ بل هو في اللغة وعرف اللسان على الجماعة ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } أي : اتقوا مخالفة أمر الله لكي تقع بكم الرحمة ، أو لكي يلزمكم الرحمة .