Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 5, Ayat: 103-105)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - عز وجل - : { مَا جَعَلَ ٱللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ } : أي : ما جعل الله قربانا مما جعلوا هم ؛ لأنهم كانوا يجعلون ما ذكر من البحيرة والسائبة ؛ وما ذكر قربانا يتقربون بذلك إلى الأصنام والأوثان التي كانوا يعبدونها دون الله ، فقال : ما جعل الله من ذلك شيئاً مما جعلتم أنتم من البحيرة والسائبة ، فقوله : { مَا جَعَلَ ٱللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ … } وما ذكر ، أي : ما أمر بذلك ، ولا أذن له . قيل : حرم أهل الجاهلية هذه الأشياء ، منها : ما حرموه على نسائهم دون رجالهم ، ومنها : ما حرموه على الرجال والنساء ، ومنها : ما جعلوه لآلهتهم به . ثم قيل : البحيرة : ما كانوا يجدعون آذانها ويدعونها لآلهتهم . والسائبة : ما كانوا يسيبونها . والوصيلة : ما كانت الناقة إذا ولدت ذكرا وأنثى في بطن قالوا : وصلت أخاها ؛ فلم يذبحوها ، [ وتركوها ] لآلهتهم . قال أبو عبيد : البحيرة : إذا نتجت خمسة أبطن قطعت آذانها وتركت . والسائبة : إذا ولدت خمسة أبطن سيبت ؛ فلا ترد عن حوض ولا علف . والوصيلة من الغنم : إذا ولدت عناقين تركا ، وإذا ولدت عناقاً وجدياً ، قالوا : وصلت العناق الجدي وتركا ، وإذا نتجت [ جدياً ] ذبح . والحامي : إذا نظر إلى عشرة من ولده ، قيل : حمى ظهره ؛ فلا يركب ، ولا يحمل عليه شيء . وقال مجاهد : { وَلاَ حَامٍ } : إذا ضرب الجمل من ولد البحيرة فهو الحامي ، والحامي : اسم . والسائبة من الغنم على نحو ذلك ، إلا أنها ما ولدت من ولد بينها وبين ستة أولاد كانت على هيئتها ، فإذا ولدت السابع ذكراً أو ذكرين نحر ، فأكله رجالهم دون نسائهم ، وإن أتأمت بذكر وأنثى فهي وصيلة ؛ يترك ذبح الذكر بالأنثى ، وإن كانتا اثنتين تركتا . وقال القتبي : البحيرة : الناقة إذا نتجت خمسة أبطن والخامس ذكر نحر ، فأكله [ رجالهم ونساؤهم ] ، وإن كان الخامس أنثى شقوا أذنها ، وكان حراماً على النساء لحمها ولبنها ، فإذا ماتت حلت للنساء . والسائبة : البعير يسيب بنذر يكون على الرجل إن سلمه الله من مرضه ، أو بلغه منزله ، أن يفعل ذلك . والوصيلة من الغنم : كانوا إذا ولدت الشاة سبعة أبطن نظروا : فإن كان السابع ذكرا ذبح ، فأكل منه الرجال والنساء ، وإن كانت أنثى تركت في الغنم ، وإن كان ذكراً [ وأنثى ] ، قالوا : وصلت أخاها ؛ فلم يذبح لمكانها ، وكان لحومهما حراماً على النساء ، وليست الأنثى حراماً على النساء ، إلا أن يموت منهما شيء فيأكله الرجال والنساء . والحامي : الفحل إذا ركب ولد ولده . ويقال : إذا نتج من صلبه عشرة أبطن ، قالوا حمى ظهره ، ولا يركب ، ولا يمنع من كلأ ولا ماء . كانوا يحرمون الانتفاع بما ذكرنا ، ويقولون : إن الله حرم ذلك علينا ، وهو ما ذكر في آية أخرى قوله - تعالى - : { وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ ٱلْحَرْثِ وَٱلأَنْعَٰمِ نَصِيباً فَقَالُواْ هَـٰذَا للَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَـٰذَا لِشُرَكَآئِنَا } الآية [ الأنعام : 136 ] يحرمون أشياء على أنفسهم ، ويضيفون تحريمها إلى الله ، ثم سفه أحلامهم بقوله : { ثَمَٰنِيَةَ أَزْوَٰجٍ مَّنَ ٱلضَّأْنِ ٱثْنَيْنِ وَمِنَ ٱلْمَعْزِ ٱثْنَيْنِ قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ ٱلأُنثَيَيْنِ أَمَّا ٱشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ ٱلأُنثَيَيْنِ } [ الأنعام : 143 ] لم يكن تحريمهم هذه الأشياء بالسمع ، ولكن رأياً منهم وتبحثاً ؛ فاحتج الله عليهم على ذلك الوجه ؛ ليظهر فساد قولهم من الوجه الذي ادعوا ، فقال : { قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ ٱلأُنثَيَيْنِ } [ الأنعام : 143 ] فإن قالوا : الذكرين ، فقد كان من الذكر ما لم يحرم ، وإن قالوا : أنثى ، فقد كان من الأنثى ولم يكن فيها تحريم ؛ ففيه دليل أن الحكم إذا كان بعلة يجب وجوب ذلك الحكم ما كانت تلك العلة قائمة ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَإِلَى ٱلرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ … } الآية ، كأنها نزلت في مشركي العرب ، وكانوا أهل تقليد ، لا يؤمنون بالرسل ، ولا يقرون بهم ، إنما يقلدون آباءهم في عبادة الأوثان والأصنام ، فإذا ما دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ما أنزل اليه إليه ، أو دعاهم أحد إلى ذلك ، قالوا : { حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ } ، [ كقوله ] : { إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ ءَاثَارِهِم مُّقْتَدُونَ } [ الزخرف : 23 ] ، ونحو ذلك : يقلدون آباءهم في ذلك ؛ فقال الله عز - وجل - : { أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ } ، أي : تتبعون آباءكم وتقتدون بهم ، وإن كنتم تعلمون أن آباءكم لا يعلمون شيئاً في أمر الدين ولا يهتدون ، وكذلك قوله : { قَٰلَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَىٰ مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَآءَكُمْ } [ الزخرف : 24 ] تتبعون أباءكم وتقتدون بهم ، وإن جئتكم بأهدى مما كان عليه آباؤكم ؛ يسفههم في أحلامهم في تقليدهم آباءهم ، وإن ظهر عندهم أنهم على ضلال وباطل . وقوله - عز وجل - : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا ٱهْتَدَيْتُمْ } : ظن بعض الناس أن الآية رفعت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والسعة في ترك ذلك ، وليس فيه رفع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - ولكن فيه إنباء أن ليس علينا فيما يرد ولا يقبل من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - شيء ، وهو كقوله - تعالى - : { مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِّن شَيْءٍ } [ الأنعام : 52 ] ، وكقوله - تعالى - : { فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ … } الآية [ النور : 54 ] ليس فيه رخصة ترك تبليغ الرسالة إليهم ، ورفعه عنه ، ولكن إخبار أن ليس عليه فيما يرد وترك القبول شيء ، كقوله : { إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ } [ الشورى : 48 ] ؛ فعلى ذلك الأول ، والله أعلم . ويحتمل : أن يكون في الآية دليل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ لأنه قال : { لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ } بترك قبول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر { إِذَا ٱهْتَدَيْتُمْ } أنتم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، بل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب ، وبذلك وصف الله هذه الأمة بقوله : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ } [ آل عمران : 110 ] . وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا ، وَلَمْ يُوَقِّرْ كَبِيرَنَأ ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ ، وَلَمْ يَنْهَ عِنِ الْمُنْكَرِ فَلَيْسَ مِنَّا " . وعن عائشة - رضي الله عنها - " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليَّ - وقد حفزه - النفس ، فتوضأ ، ثم خرج إلى المسجد ، فقمت من وراء الحجاب ، فصعد المنبر ، ثم قال : " أَيُّهَا النَّاسُ ، إِنَّ اللهَ يَقُولُ : مُرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَانْهوا عَنِ الْمُنْكَرِ قَبْلَ أَنْ تَدْعُونِي فَلاَ أُجِيبَكُمْ ، وَتَسْأَلُونِي فَلاَ أُعْطِيكُمْ ، وَتَسْتَغِيثُونِي فَلاَ أُغِيثَكُمْ ، وَتَسْتَنْصِرُونِي فَلاَ أَنْصُرَكُمْ " " . وعن أبي بكر [ الصديق ] - رضي الله عنه - قال : " يأيها الناس ، إنكم تقرءون هذه الآية ، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا مُنْكَراً فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ يُوشِكُ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللهُ بِعِقَابٍ " " ، وبقوله : { لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ ٱلرَّبَّانِيُّونَ وَٱلأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ ٱلإِثْمَ } [ المائدة : 63 ] الآية . ثم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على مراتب : مع الكفرة : بالقتال والحرب ، ومع المؤمنين : باليد واللسان . [ و ] الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب فرض ، ما لم يدخل في ذلك فساد ، ويصير الأمر به والنهي عنه منكراً ، فإذا خشوا ذلك يرخص لهم الترك ، وإلا روي عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال : " قولوها ما لم يكن دونها السيف والسوط ، فإذا كان دونها السيف والسوط فعليكم أنفسكم " . وقوله - عز وجل - : { إِلَى ٱللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً } . الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، والذي يرد عليه المعروف والنهي عن المنكر . { فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } . خرج على الوعيد والتحذير .