Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 5, Ayat: 1-2)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - عز وجل - : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ } . أجمع أهل التأويل على أن العقود - هاهنا - هي العهود ، ثم العهود على قسمين : عهود فيما بين الخلق ، أمر الله - عز وجل - بوفائها . وعهود فيما بينهم وبين ربهم ، وهي المواثيق التي أخذ عليهم ، من نحو : الفرائض التي فرض الله عليهم ، والنذور التي يتولون هم إيجابها ، وغير ذلك ، أمر عز وجل بوفائها . وأما العهود التي فيما بينهم من نحو : الأيمان وغيرها ، أمر بوفاء ذلك إذَا لم يكن فيها معصيَة الرب ؛ كقوله تعالى : { وَلاَ تَنقُضُواْ ٱلأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا … } الآية [ النحل : 91 ] أمر هاهنا بوفاء الأيمان ، ونهى عن تركها ونقضها ، ثم جاء في الخبر أنه قال : " مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ ، فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْراً مِنْهَا ، فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ ، وَلْيُكَفِّرْ [ عن ] يَمِيْنَهُ " أمر فيما فيه معصية بفسخها ، وأمر بوفاء ما لم يكن فيه معصية ، ونهى عن نقضها بقوله تعالى : { وَلاَ تَنقُضُواْ … } الآية [ النحل : 91 ] . وعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال : { أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ } : وهي العهود ، وهو ما أحل وما حرم ، وما فرض وما حدَّ ، في القرآن كله ، وهو ما ذكرنا . وقيل : إن العقود التي أمر الله - تعالى - بوفائها هي العهود التي أخذ الله - تعالى - على أهل الكتاب : أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، ويأخذوا بشرائعه ، ويعملوا بما جاء به ، وهو كقوله : { وَإِذْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَاقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ } [ آل عمران : 187 ] ، وكقوله : { وَلَقَدْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَاقَ بَنِيۤ إِسْرَآئِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ ٱثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ ٱللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ ٱلصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ ٱلزَّكَاةَ وَآمَنتُمْ بِرُسُلِي } [ الآية ] [ المائدة : 12 ] . فالخطاب لهم على هذا التأويل ؛ لأنهم كانوا آمنوا به قبل أن يبعث ، فلما بعث كفروا به . وقوله - عز وجل - : { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ ٱلأَنْعَامِ } . قال بعضهم : هي الوحوش ، وهو قول الفراء ؛ ألا ترى أنه قال : { غَيْرَ مُحِلِّي ٱلصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } ؟ ! . وقال الحسن : هي الإبل والبقر والغنم . وقال آخرون : البهيمة : كل مركوب . لكن عندنا : كل مأكول من الغنم ، والوحش ، والصيد ، وغيره ، وإن لم يذكر . دليله ، ما استثنى : { إِلاَّ مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي ٱلصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } ؛ كأنه قال : أحلت لكم بهيمة الأنعام والصيد إلا ما يتلى عليكم من { ٱلْمَيْتَةُ وَٱلْدَّمُ وَلَحْمُ ٱلْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِ وَٱلْمُنْخَنِقَةُ وَٱلْمَوْقُوذَةُ } الآية [ المائدة : 3 ] { غَيْرَ مُحِلِّي ٱلصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } . دل قوله : { غَيْرَ مُحِلِّي ٱلصَّيْدِ } على أن الصيد فيه كالمذكور ، وإن لم يذكر ؛ لأنه استثنى الصيد منه ، وأبداً : إنما يستثنى الشيء من الشيء إذا كان فيه ذلك ، وأما إذا لم يكن ؛ فلا معنى للاستثناء ، فإذا استثنى الصيد دل الاستثناء على أن الصيد فيه ، وإن لم يذكر . ودل قوله - تعالى - : { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَٱصْطَادُواْ } [ المائدة : 2 ] على أن النهي كان عن الاصطياد في حال الإحرام لا عن أكله ؛ لأن للمحرم أن يأكل صيداً صاده حلالٌ . ودل قوله : { غَيْرَ مُحِلِّي ٱلصَّيْدِ } على أن الصيد قد دخل في قوله : { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ ٱلأَنْعَامِ } على ما ذكرنا فيما تقدم : أن البيان في الجواب يدل على كونه في السؤال ، وإن لم يكن مذكوراً في السؤال ؛ فعلى ذلك تدل الثنيا من الصيد على كونه فيه ، والله أعلم . ويحتمل : { بَهِيمَةُ ٱلأَنْعَامِ } الثمانية الأزواج التي ذكرها في سورة الأنعام : { مَّنَ ٱلضَّأْنِ ٱثْنَيْنِ وَمِنَ ٱلْمَعْزِ ٱثْنَيْنِ … } إلى آخر ما ذكر [ الأنعام : 143 ] . والآية تدل على أن الذي أحل من البهائم - الأنعام منها - ثمانية ؛ دل عليه قوله : { وَٱلأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } [ النحل : 5 ] ثم قال : { وَٱلْخَيْلَ وَٱلْبِغَالَ وَٱلْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً } [ النحل : 8 ] ؛ ففصل بين الأنعام وبين الخيل والبغال والحمير ؛ [ فالخير والبغال والحمير ] خلقها للركوب ، والأنعام للأكل . وقوله : { إِلاَّ مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي ٱلصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } . كأنه قال : أحلت لكم بهيمة الأنعام والصيد ، { إِلاَّ مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ } : يحتمل : يتلى على الوعد ، أي : يتلى عليكم من بعد ما ذكر على أثره : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةُ وَٱلْدَّمُ … } إلى آخر [ المائدة : 3 ] ، ويحتمل : { إِلاَّ مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ } وهو ما ذكر . وفي حرف ابن مسعود - رضي الله عنه - : " إلا ما يتلى عليكم فيها " ، في سورة الأنعام : { قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً … } إلى آخره [ الأنعام : 145 ] . وقوله - عز وجل - : { إِنَّ ٱللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ } . هذا - والله أعلم - أي : إلى الله الحكم ، يحكم بما شاء من التحريم والتحليل ، فيما شاء ، على ما شاء ، ليس إليكم التحكم عليه ، وهذا ينقض قول المعتزلة ؛ لأنهم يقولون : يريد طاعة كل أحد ، ولو أراد ذلك لحكم ؛ لأنه أخبر أنه يحكم ما يريد ، ولا جائز أن يريد ولا يحكم ؛ فدل أنه : لم يرد ؛ لأنه لو أراد لحكم ، وبالله العصمة . وقوله - عز وجل - : { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ ٱللَّهِ } . عن ابن عباس : - رضي الله عنه - قال : كان المشركون يحجون البيت الحرام ، ويهدون الهدايا ، ويعظمون حرمة المشاعر ، وينحرون في حجهم ، فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم ؛ فأنزل الله - تعالى - : { لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ ٱللَّهِ وَلاَ ٱلشَّهْرَ ٱلْحَرَامَ } ، يعني : لا تستحلوا قتالاً فيه ، { وَلاَ ٱلْهَدْيَ وَلاَ ٱلْقَلاۤئِدَ … } الآية . وقال غيره : قوله : { لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ ٱللَّهِ } ، يعني : المناسك ، لا تستحلوا ترك شعائر الله ، والشعائر هي المناسك ؛ ألا ترى أن الله - تعالى - سمى كل منسك من الحج شعائر الله ؟ ! كقوله تعالى : { إِنَّ ٱلصَّفَا وَٱلْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ ٱللَّهِ } [ البقرة : 158 ] ، وقال : { وَٱلْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِّن شَعَائِرِ ٱللَّهِ } [ الحج : 36 ] ، كل هذا من شعائر الله ، وهن معالم الله في الحج . وقيل : شعائر الله : فرائض الله ؛ كأنه قال : لا تستحلوا ترك ما فرض الله عليكم . وقال الحسن : { شَعَآئِرِ ٱللَّهِ } قال : دين الله ، وهو واحد . وقيل في قوله : { جَعَلَ ٱللَّهُ ٱلْكَعْبَةَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ … } [ المائدة : 97 ] حتى بلغ { وَٱلْهَدْيَ وَٱلْقَلاَئِدَ } [ المائدة : 97 ] ، فقال : حواجز أبقاها الله بين الناس في الجاهلية ؛ فكان الرجل لو جر جريرة وارتكب كبيرة ، ثم لجأ إلى حرم الله - تعالى - لم يُتَنَاول ولم يُطْلب ، ولو لقي قاتلَ أبيه في الأشهر الحرم لم يَتَعَرَّضْ له ، وكان الرجل لو لقي الهدى مقلداً - وهو يأكل العصب من الجوع - لم يعرض له ، ولم يقربه ؛ فإذا أراد البيت يقلَّد قلادة من شعر ؛ فحرمته ومنعته من الناس حتى يأتي أهله . ويحتمل قوله - تعالى - : { لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ ٱللَّهِ } ، أي : لا تستحلوا ما أشعركم الله حرمته ، وهو من الأعلام ، ويحتمل أن يكون أراد به مشاعر الحرام الذي ذكرنا . وقال : لا تحلُّوا الحرام ولا الشهر الحرام ، ولا الهدي ولا القلائد . وهذه أمور كانت من قبل فَنُسِخَتْ بقوله - تعالى - : { فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ … } الآية [ التوبة : 5 ] . وعن الشعبي [ أنه ] قال : لم ينسخ من المائدة غير هذه الآية ؛ نسخها : { إِنَّمَا ٱلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـٰذَا } [ التوبة : 28 ] ، وقوله : { فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلأَشْهُرُ ٱلْحُرُمُ فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ … } الآية [ التوبة : 5 ] . وقالت عائشة - رضي الله عنها - : " إنها آخر ما أنزل ؛ فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه ، وما وجدتم فيها من حرام فحرموه " . وقوله - عز وجل - : { وَلاَ ٱلشَّهْرَ ٱلْحَرَامَ } فهو هو كقوله - تعالى - : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } [ البقرة : 217 ] . وقد ذكرنا أن الله - عز وجل - أطلق الحرم في الشهر الحرام بعد ما كان محظوراً بقوله - تعالى - : { فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [ التوبة : 5 ] . وأما قوله : { وَلاَ ٱلْهَدْيَ وَلاَ ٱلْقَلاۤئِدَ } . فهو ما ذكرنا من صنيعهم في الجاهلية فيما ذكرنا ، وفيه دليل لقول أصحابنا - رحمهم الله - حيث قالوا : إن الغنم لا تقلد ، والإبل والبقر تقلد ؛ لأنه ذكر الهدي والقلائد ؛ فدل أن من الهدي ما يقلد ، ومنه ما لا يقلد . { وَلاۤ آمِّينَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ } . أي : قاصدين البيت الحرام . { يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً } . قيل : إن المشركين كانوا يقصدون البيت الحرام يلتمسون فضل الله ورضوانه ؛ بما يصلح لهم دنياهم ؛ كقوله - تعالى - : { فَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي ٱلدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ } [ البقرة : 200 ] . وقد يجوز أن يكونوا لما التمسوا عند أنفسهم رضوان الله - أمر الله المؤمنين بالكف عنهم ، وإن كانوا قد غلطوا في توجيه العبادة ؛ فجعلوها لغير الله ؛ كقوله تعالى : { مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا } [ هود : 15 ] . وقوله - عز وجل - : { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَٱصْطَادُواْ } . [ دل ] هذا على أن النهي في قوله : { غَيْرَ مُحِلِّي ٱلصَّيْدِ } [ المائدة : 1 ] أي : أخذ الصيد واصطياده في الإحرام ، لا أكله ، وهو إباحة ما حُظر عليهم بالإحرام ، وإن كان ظاهره أمراً ، ومعناه : فإذا حللتم لكم أن تصطادوا . وأصله : أن كل أمر خرج على أثر محظور فهو أمر إباحة وإطلاق ذلك المحظور المحرم ، لا أمر إلزام وإيجاب ؛ من نحو قوله - تعالى - : { إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ ٱلْجُمُعَةِ فَٱسْعَوْاْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ وَذَرُواْ ٱلْبَيْعَ } [ الجمعة : 9 ] ، ثم قال : { فَإِذَا قُضِيَتِ ٱلصَّلاَةُ فَٱنتَشِرُواْ فِي ٱلأَرْضِ وَٱبْتَغُواْ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ } [ الجمعة : 10 ] ، وهو المحظور المتقدم ، وقوله - تعالى - : { لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ ٱلنَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ } [ الأحزاب : 53 ] ، ثم قال - عز وجل - : { وَلَـكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَٱدْخُلُواْ فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَٱنْتَشِرُواْ } [ الأحزاب : 53 ] أمر إطلاق وإباحة ما حُظر عليهم ، ومثله كثير في القرآن مما يكثر ذكره . وفي حرف ابن مسعود - رضي الله عنه - في قوله : { وَلاۤ آمِّينَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ } : " ولا تأموا " ، وكذلك في حرفه ؛ " فأموا صعيداً طيباً " . وقيل في قوله - تعالى - : { يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً } : حجهم ؛ فلا يقبل عنهم حتى يسلموا ؛ فنهى الله - تعالى - رسوله عن قتالهم . وقال بعضهم : " إن الآية نزلت في رجل من أهل اليمامة يقال له : شريح ، وذلك أنه أتى المدينة ، فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أنت محمد النبي ؟ فقال : " نَعَمْ " ، فقال : إلام تدعو ؟ قال : " أَدْعُوا إِلَى أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاّ اللهُ ، وَأَنَّي [ مُحَمَّدٌ ] رَسُولُ الله " ، فقال شريح : يا محمد ، هذا شرط شديد ، وإن لي أمراء خلفي أرجع إليهم ؛ فأعرض عليهم ما اشترطت عليَّ ، وأستأمرهم في ذلك ، فإن أقبلوا أقبلت ، وإن أدبروا أدبرت فكنت معهم ، ثم انصرف خارجاً من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما خرج ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لَقَدْ خَرَجَ مِنْ عِنْدِي بِعَقِبَىْ غَادِرٍ ، وَلَقَدْ دَخَلَ عَلَيَّ بِوَجْهٍ كَافِرٍ ، وَمَا الرَّجُلُ بِمُسْلِمٍ " فمرَّ شريح بسرح لأهل المدينة فساقها منهم . فلما كان من العام الثاني قدم شريح إلى مكة ، ومعه تجارة عظيمة في حجاج ، وكانت العرب في الجاهلية يُغِير بعضهم على بعض ، فإذا كان أشهر الحرم ، أمن الناس كلهم بعضهم بعضاً ، فمن أراد أن يسافر قلد بعيره من الشعر أو الوبر ؛ فيأمن بذلك الهدي حيثما ذهب ، فلما سمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بحج شريح ، وقدومه إلى مكة ، أرادوا أن يغيروا على شريح ؛ فيأخذوا ما معه ، ويقتلوهم ؛ كما أغار شريح على سريح أهل المدينة قبل ذلك ؛ فاستأمروا رسول الله صلى الله عليه وسلم [ في ذلك ] ؛ فنزلت الآية فيهم : { لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ ٱللَّهِ … } " إلى آخره ؛ فلا ندري كيف كانت القصة ؟ وليس بنا إلى معرفة القصة حاجة ، إلا القدر الذي ذكر الله في ذلك . وقوله : { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ } ، وقال تعالى في موضع آخر : { يَا أَيُّهَآ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَآءَ بِٱلْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىۤ أَلاَّ تَعْدِلُواْ } الآية [ المائدة : 8 ] ، وقال في آية أخرى : { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ بِٱلْقِسْطِ شُهَدَآءَ للَّهِ وَلَوْ عَلَىۤ أَنْفُسِكُمْ أَوِ ٱلْوَٰلِدَيْنِ وَٱلأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً } الآية [ النساء : 135 ] . ذكر في بعضها الاعتداء ونهى عنه ، وهو المجاوزة عن الحد الذي حُد لهم . وذكر في بعضها العدل ، وأمر به ، ونهى عن الظلم والجور . ثم الأسبابُ التي تحملهم وتبعثهم على الاعتداء والظلم ، وتمنع القيام بالشهادة والعدل - ثلاثة : أحدها : ما ذكر - عز وجل - البغض والعداوة ، بقوله : { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ [ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ ] أَن تَعْتَدُواْ } [ المائدة : 2 ] ، وقال : { عَلَىۤ أَلاَّ تَعْدِلُواْ } [ المائدة : 8 ] ، وقال : { كُونُواْ قَوَّٰمِينَ بِٱلْقِسْطِ شُهَدَآءَ للَّهِ وَلَوْ عَلَىۤ أَنْفُسِكُمْ أَوِ ٱلْوَٰلِدَيْنِ وَٱلأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً } [ النساء : 135 ] أمرهم بالقيام بالشهادة ، وأخبر ألا يمنعكم الولاية والقرب القيام بالشهادة ، أو طَمَعُ غِنًى أو خَوْفُ فَقْرٍ . هذه الوجوه التي ذكرنا تمنع الناس القيام بالشهادة ، وتبعثهم على الجور والاعتداء ؛ فنهاهم الله - عز وجل - أن يحملهم بغض قوم ، أو عداوة أحد على الجور والاعتداء . أو تمنعهم الشفقة ، أو القرب ، أو طمع غنى أحد ، أو خوف فقر - القيامَ بالشهادة وما عليهم من الحق . وأمر أن يجعلوه كله لله بقوله : { كُونُواْ قَوَّٰمِينَ بِٱلْقِسْطِ شُهَدَآءَ للَّهِ } [ النساء : 135 ] ، فإذا كان كله لله ، قدر أن يعدل في الحكم ، وترك مجاوزة الحد الذي حد له ، وقدر على القيام بالشهادة ، وما ذكر ، وما يمنع شيء من ذلك القيام به ، من نحو ما ذكر : من البغض والعداوة ، والقرب والشفقة ، أو طمع الغنى وخوف الفقر ؛ إذا جعل الحكم لله عدل فيه ، ومنعه عن الجور فيه والاعتداء ، وكذلك الشهادة إذا جعلها لله قام بأدائها ، ولو على نفسه ، أو ما ذكر ، لم يمنعه شيء عن القيام بها . وقوله - عز وجل - : { وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلْبرِّ وَٱلتَّقْوَىٰ } : كأن البر هو اسم كل خير ، والتقوى : هي ترك كل شرٍّ . { وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ } . ألا ترى أنه ذكر بإزاء البر : الإثمَ ، وبإزاء التقوى : العدوانَ ؛ فهذا يبين أن البرَّ : اسم لكل خير ، والتقوى : هي الانتهاء عن كل شرٍّ . ويجوز أن يكون ما ذكر في الآية الأولى وأمر به ، وهو قوله : { لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ ٱللَّهِ } إلى قوله : { ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ } يقول : عاونوهم على ما يأتون به من ذلك ؛ فإنهم إلى البر يقصدون عند أنفسهم ، وإن لم يكن فعلهم برًّا ؛ لعبادتهم غير الله تعالى . وإنما أمروا بمعاونتهم ، وترك التعرض لهم - إن ثبت ما ذكر في القصة - : إذا أحرموا ، أو قلدوا ، أو قصدوا البيت الحرام في الوقت الذي جاز أن يعاهدوا فيه ؛ كما يجوز لنا معاهدة أهل الكتاب على ألا نعرض لكنائسهم وبَيعِهِم ، وإن كانوا يعصون الله فيها ؛ لأنهم يدينون بذلك ، ويقصدون به البرّ عند أنفسهم . فلما أمر بنقض عهود مشركي العرب ، أمر بمنعهم من دخول المسجد ، وأن يقتلوا حيث وجدوا ، وإلى هذا المعنى ذهب أصحابنا - رحمهم الله ، والله أعلم - في فَرْقهم بين شهادة أهل الذمة على أمثالهم ، وشهادة فُسَّاق المسلمين ؛ لأن أهل الذمة متدينون بكفرهم ، والفساق غير متدينين بفسقهم . وكذلك فرقهم بين ما يغلب عليه المشركون من أموال المسلمين ، وبين ما يغلب عليه الفساق من أموال المسلمين . وكذلك سبيل الدماء التي يصيبها المحاربون من أهل البغي من أهل العدل ، لا تشبه ما يصيبه الفساق منها ؛ لأن أمر المتدين بدين خطأ مخالف في الحكم أمر المقر بالذنب فيه ؛ ألا ترى أنه يجوز أن يُطْلَقَ لمن يعاقدونه من أهل الكتاب الصلاة في كنائسهم ، وإن كان ذلك عندنا معصية حراما ، ولا يجوز أن يُطْلَقَ المعصية لفساق المسلمين بحال . وقوله - عز وجل - : { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } : أي : نقمة الله وعذابه : في ترك ما أمركم به ، وارتكاب ما نهاكم عنه . { إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ } . قال ابن عباس : رضي الله عنه - في قوله : { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } : أي : لا يحملنكم بغض قوم ؛ لصدهم إياكم عن البيت الحرام ؛ فتأثموا فيهم : أن تعتدوا ؛ فتقتلوهم ، وتأخذوا أموالهم . وقال : { وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلْبرِّ وَٱلتَّقْوَىٰ } البر : ما أمرت به ، والتقوى : الكف عما نهيت عنه . وقال : والعدوان : هو المجاوزة عن حد الله الذي حده لعباده . وقوله : { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ } : قال بعضهم : لا يؤثمنكم بغض قوم أن تعتدوا . وقال آخرون : لا يحملنكم . وفيه لغتان : { يَجْرِمَنَّكُمْ } برفع الياء ، وبنصبها : { يَجْرِمَنَّكُمْ } ، وهو ما ذكرنا .