Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 51, Ayat: 15-23)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - عز وجل - : { إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ } ، والإشكال : كيف ذكر أن المتقين في جنات وعيون ، وهم يكونون في جنات ، ويكونون في العيون بحيث يرونها ، وتقع عليها أبصارهم ، وينتفعون بها ؟ وهو كقوله تعالى : { يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ } [ الدخان : 53 ] ، وإنما هم يلبسون السندس ، فأما الإستبرق فهو البسط ، وغير ذلك من الانتفاع به ؛ فعلى ذلك ما ذكر من كون المتقين في جنات وعيون ، يكونون في الجنة ، وينتفعون بالعيون ، والله أعلم . ثم قوله - عز وجل - : { إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ } ، أي : الذين اتقوا الشرك والكفر . ويحتمل : الذين اتقوا مخالفة الله على الإطلاق : عملا ، وقولا ، وفعلا ، واعتقادا . ويحتمل : أي : الذين اتقوا المهالك . وقوله - عز وجل - : { آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ } يحتمل وجهين : أحدهما : أي : قابلين ما آتاهم ربهم في الدنيا من القدرة والقوة والمال بحق الله تعالى ، والقيام بشكره ، والعبادة له ، والاستعمال في طاعته ؛ لذلك قال : { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ } أي : قبلوا ذلك بحق الإحسان ، فاستعملوها في حق الله تعالى والقيام بطاعته . وعلى هذا التأويل كأنه على التقديم والتأخير : إن المتقين في جنات وعيون ؛ إنهم كانوا قبل ذلك محسنين ، آخذين ما آتاهم ربهم ، أي : إنما نالوا الجنة ؛ لما أنهم كانوا في الدنيا كذلك . والثاني : ما قاله أهل التأويل : آخذين ما آتاهم ربهم في الآخرة ، أي : راضين بما أعطاهم الله من النعيم في الجنة ، وهو كقوله تعالى : { رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } [ المائدة : 119 ] ، وعلى هذا يخرج تأويلهم . وقوله - عز وجل - : { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ } في الدنيا . ثم نعت إحسانهم فقال - عز وجل - : { كَانُواْ قَلِيلاً مِّن ٱللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِٱلأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } . قال أهل التأويل جميعا : أي : يصلون . وإنما حملوه عليها ؛ لأن الاستغفار طلب المغفرة ، وذلك مرة بالصلاة ، ومرة باللسان ، ومرة بدفع المال . ويحتمل حقيقة الاستغفار أيضا ، وإنما مدحهم بذلك ؛ لأن أرجى وقت الاستغفار وقت السحر ؛ لما روي عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه قال لنافع : " إذا كان وقت السحر فأعلمني به " . فكان هو يصلي إلى وقت السحر ، ثم يدعو ويستغفر في ذلك الوقت . وقوله - عز وجل - : { وَفِيۤ أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ وَٱلْمَحْرُومِ } قال بعضهم : إن الآية في الزكاة ، لكن هذا لا يحتمل ؛ لأن السورة مكية ، ولم يكن بمكة الصدقة المفروضة ؛ إلا أن يقال : إن السورة مكية إلا هذه الآيات إن ثبت . وجائز أن يكون ذلك الحق ليس هو المفروض ، ولكن حق سوى الفرض . وقيل : إن الآية نزلت في قوم خاص جعلوا على أنفسهم ألا يردوا سائلا ولا محروماً ولا يمنعوا أموالهم من أحد ؛ فمدحهم بذلك ؛ ألا ترى أن ذكر الحق للسائل والمحروم ؛ وقد بين مصارف الزكاة للأصناف الثمانية بقوله تعالى : { إِنَّمَا ٱلصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَآءِ وَٱلْمَسَاكِينِ … } [ التوبة : 60 ] إلى قوله تعالى : { فَرِيضَةً مِّنَ ٱللَّهِ } [ التوبة : 60 ] . ثم اختلف في تأويل المحروم والسائل : قال عامة أهل التأويل : المحروم : هو الذي لا سهم له في الغنيمة والفيء بألا يحضر وقت قسمة الغنيمة ؛ فلا ينال شيئاً منها ويحرم عن ذلك . وقال بعضهم : المحروم : الذي هلك زرعه وكرمه ببلاء أصابه ، يحرم عن ذلك ، كما وصفهم في سورة الواقعة : { إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ } [ الواقعة : 66 - 67 ] فلما حرموا زرعهم وصفوا بذلك . وقيل : المحروم : الذي لا يعلم حرفة ، وهو [ لا يملك ] كسبا ، وهو محارف أيضا . وقيل : المحروم : المتعفف الذي به فقر ، لكنه لا يسأل الناس شيئا ، والسائل : الطواف . وعندنا : الفقراء ثلاثة : السائل الذي يطوف ، ويسأل الناس . والمعتر : الذي يعتر الناس ، ويظهر حاجته للناس ، ويتعرض للسؤال ، ولا يسأل صريحا . والمحروم : هو الذي يستر فقره وحاجته عن الناس ، لا يسألهم ، ولا يعتر لذلك . ثم جائز أن يكون سماه : محروما ، أي : حرم المكاسب وأسباب العيش من التجارة والحرفة وغيرهما . وجائز أن تكون [ له ] المكاسب والأسباب ، لكنه محروم عن إنزال المكاسب والأرباح في التجارة ، يكتسب ، ويعمل بتلك الأسباب ، لكنه محارف ، لا يرزق منها شيء ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَفِي ٱلأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ } ، هذا يخرج على وجهين : أحدهما : أي : في الأرض آيات ينتفع بها الموقنون ، وهم المؤمنون الذين علموا الآيات بطريق الإيقان . ويحتمل : في الأرض آيات يعلم الموقنون حقيقة أنها آيات ، فأما غيرهم فلا ، والله أعلم . ثم يحتمل آيات الأرض : آيات التوحيد ، وآيات البعث ، وآيات القدرة ، وغير ذلك ؛ على ما ذكرنا : أنه خلق على وجه الأرض من الدواب ، والأشجار ، ومن النبات ، وأنواع الثمار من غير أن عرف الخلق كيفية وجودها وماهيتها ، وأنه لم يخلق مثلها للفناء خاصة ؛ فتكون آيات ؛ لما ذكرنا . وقيل : أي : في خلق الأرض آيات ، وهو أن خلقها ، وكانت تميد بأهلها ، ثم أرساها بالجبال ؛ حتى استقرت ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَفِيۤ أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } . صلة قوله : { وَفِي ٱلأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ } أي : وفي أنفسكم - أيضاً - آيات { أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } أي : آيات الوحدانية والربوبية وآيات البعث وآية وجوب الشكر والعبادة والامتحان . أما آيات الربوبية ، فهي أن الله تعالى أنشأ هذا البشر من نطفة ، ثم قلب تلك النطفة علقة ، ثم العلقة مضغة ثم المضغة عظاما ولحما ، ثم ركب فيها الجوارح في ظلمات ثلاث ، ما رأى المصالح له في الاستواء والصحة ، سليمة عن الآفات ، غير متفاوتة ، فدل أنه فعل واحد ، لا عدد ، وأن له القدرة الذاتية والعلم الذاتي لا المستفاد ، وأن ما قلبهم من حال إلى حال ، وما ركب فيهم [ من ] الجوارح التي بها يقبضون ، وبها يأخذون ، وبها يدفعون ويسلمون ، وبها يبصرون ويسمعون ، وبها يمشون ، لم يفعل بهم ؛ ليتركهم سدى ويهملهم ولا يمتحنهم ، ولا يأمرهم ، ولا ينهاهم ، وأنه حيث سخر جميع الخلائق من السماء والأرض وما بينهما ما سخر إلا ليمتحنهم ، وليستأدي منهم شكر ذلك كله . وفيه آية البعث ؛ لأنه لا يحتمل أن يكون منهم ما ذكرنا ثم لا يبعثهم ؛ ليثاب المحسن منهم ويعاقب المسيء ، ويجازي كلا بقدر عمله ؛ إذ لو لم يكن ، لكان خلقه إياهم عبثا باطلا ؛ على ما ذكرنا في غير موضع . وقيل : { وَفِيۤ أَنفُسِكُمْ } أي : في خلق أنفسكم ، { أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } أنه كيف سوى أنفسكم على أحسن الصور ، وأحسن التقويم بعد أن كان أصلها وجوهرها من ماء ، وكذلك أصل جواهر الأنعام والبهائم من نطفة أيضاً ، ثم ركبكم على صور صالحة لمنافعكم ، وركبكم على أحسن الصور ، ثم جعل فيكم من العقل والسمع والبصر ما يدرك بها حقائق الأشياء المحسوسة والمعاني الحكيمة ؛ لتتأملوا في ذلك كله ؛ فتكون آية الوحدانية آية إلزام الشكر والعبادة له ، والله الموفق . وقوله - عز وجل - : { وَفِي ٱلسَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ } . قال أبو بكر الأصم : { وَفِي ٱلسَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ } أي : في السماء رزقكم وما توعدون من الخير والشر . وقال الحسن وغيره : { وَفِي ٱلسَّمَآءِ رِزْقُكُمْ } أي : المطر الذي ينزل منها في الأرض ، فنبت فيها بذلك المطر من أنواع الأرزاق من الحبوب ، والثمار ، والفواكه ، وغيرها ؛ كل ذلك سببه من السماء ؛ لذلك أضيف إليها ، والله أعلم . وجائز أن يكون ما ذكر من أرزاقنا أنها في السماء : المطر وجميع ما سخر لنا فيها من الشمس والقمر والملائكة ؛ حيث جعل صلاح ما في الأرض جميعاً من الأرزاق والأغذية بتلك الأشياء التي في السماء من الإنضاج بالشمس والقمر ، وحفظ الأرزاق والأمطار بالملائكة ؛ فإنهم جعلوا موكلين ممتحنين بذلك ؛ حيث قال - تعالى - : { فَٱلْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً } [ الذاريات : 4 ] هي الملائكة ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَمَا تُوعَدُونَ } كل موعود : مرغوب أو مرهوب من السماء ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { فَوَرَبِّ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ } . يحتمل قوله : { إِنَّهُ لَحَقٌّ } أي : الساعة والقيامة . ويحتمل { إِنَّهُ لَحَقٌّ } أي : جميع ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم . وقوله - عز وجل - : { مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ } . يحتمل أن يقول - والله أعلم - : كما أنكم لا تشكون فيما تنطقون ؛ فعلى ذلك لا تشكون في أمر الساعة وقيامها وكونها ؛ كما يقال : هذا ظاهر بين كالنهار . وقال الزجاج : { إِنَّهُ لَحَقٌّ } ، أي : لحق مثل حضوركم ونطقكم ومثل النهار ، أو كلام نحوه . ويحتمل أن يقول : إن من قدر على إنطاق هذه الألسن وتكليمها حتى يفهم منها حاجتهم ، وهي قطعة ، وليس فيها شيء من آثار النطق والكلام ؛ إذ يكون مثله للبهائم ثم لا يفهم منه ذلك ، ولا يكون منه النطق - قدر على البعث والإعادة ؛ إذ هذا في الأعجوبة أكثر وأعظم من ذاك ، والله الموفق .