Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 51, Ayat: 56-60)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - عز وجل - : { وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } . إن كان المراد من ذكر العبادة : حقيقة العبادة فيخرج تأويله على وجهين : أحدهما : جوابا لمن لا يرى الجن والإنس يؤمرون بالعبادة ويمتحنون بها ، فقال : { وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } ، أي : خلقهم على معرفة المحاسن والمساوئ ، والتمييز بين ما يؤتى وما يتقى بما ركب فيهم من أسباب التمييز والمعرفة ، لا يتركهم سدى مهملين ؛ بل لامتحانهم بالعبادة ، والقيام بشكر ما أنعمت عليهم من أنواع النعم ؛ إذ الحكمة توجب ذلك ، وتدفع تركهم سدى هملا ، والله أعلم . والثاني : خرج جوابا لمن يرى العبادة دونه جائزا ؛ لقولهم : { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ } [ الزمر : 3 ] فقال : { وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } ، لم أخلقهم لعبادة غيري ، أو لآمرهم بعبادتي ، لا لآمرهم بعبادة غيري ؛ كما قاله بعض الكفرة بقولهم : { وَٱللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا } [ الأعراف : 28 ] ؛ ردّاً ونقضا لاعتقادهم ، والله أعلم . ثم قوله - عز وجل - : { إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } على حقيقة العبادة ؛ لوجهين : أحدهما : على حقيقة فعل العبادة ، وعلى هذا الوجه لم تكن الآية معمولا بها على العموم ، بل على الخصوص ، وهم المؤمنون من الجن والإنس دون الكفرة منهم ؛ فإنه لا يجوز أن يخلق الكفرة الذين علم منهم : أنهم لا يؤمنون للعبادة ؛ إذ خلقه عن اختيار وإرادة ، فإذا خلقهم وأراد منهم العبادة لا بد أن توجد منهم ، وقد علم منهم أنه لا توجد ؛ فيصير كأنه أراد تجهيل نفسه ، وهذا محال ؛ فدل أن المراد منه الخصوص ، وقد خص منه البعض بلا خلاف ؛ فإن الصغار والمجانين قد خصوا ، بأنه لا يتحقق منهم العبادة ؛ فجائز أن يخص منه الكفرة الذين علم منهم أنهم لا يؤمنون ، والله أعلم . ويحتمل أن المراد منه الأمر بالعبادة ، أي : ما خلقتهم إلا لآمرهم بالعبادة والتوحيد . وهذا التأويل أقرب إلى العمل بالعموم ؛ فإنه يدخل فيه العقلاء من الجن والإنس دون الصغار والمجانين . ويجوز أن يأمر بشيء ولا يريد تحصيل المأمور به ، وصيرورة المأمور مطيعاً له ؛ بل يريد أن يصير عاصيا فيدخل النار ، بخلاف إذا خلقه للعبادة وأرادها منه لا يجوز ألا توجد ، وحقيقة هذا تعرف في كتاب التوحيد : أنه خلق الإيمان والعبادة ؛ إن علم منه أنه يعبد ويختار العبادة له ، فأما من علم منه اختيار الضلال والغواية ، وصرف العبادة إلى غيره ، فإنه خلقه على ما علم منه أنه يختار ويفعل ؛ لقوله تعالى : { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ … } الآية [ الأعراف : 179 ] . وقال قائلون : لم يرد بقوله تعالى : { لِيَعْبُدُونِ } حقيقة العبادة التي هي فعل العبد على وجه الاختيار ، ولكن معناه : وما خلقت الجن والإنس إلا وقد جعلت في كل أحد منهم دلالة وحدانيتي ودلالة صرف العبادة إليَّ ، والقيام بالشكر لي فيما أنعمت عليهم من أنواع النعم ما لو تأملوا فيها ونظروا ، تدلهم على ما ذكرنا من العلم بالوحدانية لي ، والقيام بالعبادة والشكر ، والله أعلم . وعلى هذا التأويل تكون الآية عامة ، لا خصوص فيها ؛ لأن خلقة كل أحد منهم على أي وصف كان دلالة ما ذكرنا ، والله الموفق . ويحتمل أيضاً : وما خلقت الجن والإنس إلا على خلقة تصلح للمحنة بالأمر والنهي ، والوعد والوعيد ، ولتحقيق فعل ذلك بما ركب فيهم العقل ، وجعل مفاصلهم لينة ، قابلة الأفعال ، تصلح للخدمة : من الركوع ، والسجود ، والقيام ، والقعود ، ونحوها ، على خلاف غير هؤلاء من المخلوقات ؛ فإنها خلقت على خلقة تصلح لمنافع الممتحنين ، لا على وجه يصلح للمحنة ، والله أعلم . ثم في العبادة خصوصية معنى ، ليس ذلك في الطاعة والخدمة ، وغير ذلك من الأفعال ؛ كقوله تعالى : { مَّنْ يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ٱللَّهَ } [ النساء : 80 ] ؛ حيث لم يجز العبادة لغيره ، وأجاز الطاعة والخدمة ، والتعظيم ، وغير ذلك من الأفعال ؛ كقوله : { مَّنْ يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ٱللَّهَ } [ النساء : 80 ] دل أن في العبادة معنى ليس ذلك المعنى في غيره ؛ لذلك وقعت الخصوصية له ؛ ولذلك خص نفسه بتسمية : الإله ، لم يجز التسمية به لغيره ؛ إذ الإله عندهم : معبود ، فكل معبود عندهم يسمونه : إلها ، وذلك كما خص نفسه بتسمية : الرحمن ، لم يجعل ذلك لغيره ، وجاز تسمية غيره : رحيما ؛ لما أن في اسم الرحمن زيادة معنى ليس في الرحيم ، وكذا خص نفسه بتسميته : خالقا ، ولم يجز هذا الاسم لغيره ؛ لما أن في الخالق معنى ، ليس ذلك المعنى في الفاعل وغيره ، فكذلك هذا ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ } . قال عامة أهل التأويل : ما أريد منهم أن يرزقوا أنفسهم ، ولا أن يطعموا أحدا من خلقي ، إنما عليَّ رزقهم وإطعامهم ؛ كقوله تعالى : { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ رِزْقُهَا } [ هود : 6 ] . ويحتمل : ما أريد منهم أن يرزقوا من لا يقوم بأسباب الرزق وأن يطعموهم ؛ إذ ذلك عليَّ ، وإنما أريد منهم العبادة . أو الأمر بالعبادة على الوجه الذي ذكرنا ؛ لأنهم لم ينشئوا لأولئك الذين لم يجعل لهم المكاسب وأسباب الرزق من الدواب ؛ بل هن أنشئن لأجلهم رزقاً ومتعة ، والله أعلم . ويحتمل أن يكون على الإضمار ؛ على ما قال بعضهم ، أي : قل يا محمد : ما أريد منكم فيما أدعوكم إليه من أجر ، وما أريد أن تطعمون ؛ فيثقل عليكم الإيمان . ويحتمل : { مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ } ؛ أخبار أنه لم يخلقهم لحاجة له في خلقهم من الرزق والإطعام منهم ؛ لما أقام من دلالات تبرئه عن الحوائج ، وعن الرزق والطعام ، وإنما خلقهم للأمر ، والنهي ، والامتحان - رجعت منافع ذلك إليهم ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلرَّزَّاقُ ذُو ٱلْقُوَّةِ ٱلْمَتِينُ } ، هذا يخرج على وجهين : أحدهما : أن الأسباب والمكاسب التي بها يرزقون ، ويصلون إلى الانتفاع بها ، هي فعل الله تعالى وله فيها صنع ، صار بذلك رازقاً ، لولا ذلك لم يصلوا إلى ذلك ، وإن كان الخلق هم الذين يكسبون ويعملون تلك الأسباب والمكاسب ، فلما أضيف إليه الرزق ؛ لما أنشأ فعل تلك الأسباب والمكاسب منهم ، والله أعلم ؛ فيكون في هذا دليل على أن لله تعالى صنعا في أفعال العبد وهو الخلق والإنشاء ؛ حيث سمى نفسه : رازقا ، وهم يرزقون بتلك المكاسب والأسباب ، وأكثر أرزاقهم بأفعالهم ، دل أن له فيها صنعا ؛ حتى تصح إضافة ذلك إليه وتسميته : رازقاً ، ولا يجوز هذا الاسم لغيره ، والله أعلم . والثاني : يحتمل الإضافة إليه ؛ لأنه يرزقهم بما جعل في تلك الأسباب والمكاسب من اللطف لا بأنفس الأسباب ؛ لأنهم يزرعون ويطرحون البذر فيها ، فيهلك ذلك [ البذر ] فيها ، وكذلك يسقون الأرض ، ويهلك ذلك الماء فيها . ثم إن الله تعالى جعل بلطفه ورحمته في ذلك من اللطف ما يصير ذلك رزقا لهم بعد ذهاب عينه والقوة التي جعلت فيه ، وكذلك ما جعل ذلك من الصلاح ، والنضج ، والطبخ ، وما يرجع إلى الإصلاح لذلك ، والأكل ، والمضغ ، والابتلاع ، ونحو ذلك ، ليس في ذلك إلا امتلاء البطن ، وفي ذلك فساد ، فجعل فيه من القوة ما ينشر في البدن والأطراف قوة ؛ فيبقون بتلك القوة فيهم الحياة والبقاء ، لا بنفس الرزق ، وهو ما وصف الله تعالى : { إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلرَّزَّاقُ ذُو ٱلْقُوَّةِ ٱلْمَتِينُ } بتلك القوة يحيون ، وبها يبقون . ثم قوله تعالى : { ٱلْمَتِينُ } قيل : المتين هو وصف ونعت لتلك القوة ، فيجوز وصف تلك القوة بالمتانة ، فأما الله - سبحانه وتعالى - لا يوصف أنه متين ، وهو كقوله تعالى : { ذُو ٱلْعَرْشِ ٱلْمَجِيدُ } [ البروج : 15 ] ، وصف العرش بالمجيد ، والعرش غيره ؛ فعلى ذلك القوة التي جعل فيها ما ذكرنا غيره يجوز أن توصف بما ذكرنا من المتانة ، وهي القوة التي لا يملكها الخلق ، ولا يدركون ذلك اللطف الذي جعل في ذلك ، والله أعلم . وقال بعضهم : { ذُو ٱلْقُوَّةِ ٱلْمَتِينُ } أي : ذو البطش الشديد فيما أهلك الأمم الخالية ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذَنُوباً مِّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلاَ يَسْتَعْجِلُونِ } ، كأنهم استعجلوا نزول العذاب ، فنزلت هذه الآية على أثر سؤال العذاب ؛ كقوله تعالى : { سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ } [ المعارج : 1 ] ، وقوله تعالى : { فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ } [ الأنفال : 32 ] ، فقال عند ذلك : { فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذَنُوباً مِّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ } ، أي : لهم نصيب من ذلك العذاب مثل نصيب أوائلهم من العذاب ؛ فيكون على التمثيل ، كما يقال : حذو النعل بالنعل ، وحذو القذة بالقذة ، ويقال : صاع بصاع ، وكيل بكيل ؛ أي : يكال عليه مثل ما كيل لغيره ، ونحو ذلك من الأمثال التي تضرب ؛ فعلى ذلك ما ذكرنا من الذنوب ، والله أعلم . وكذلك ذكر عن الأصم قال : ذكر الذنوب ، وهو الدلو العظيم الذي كانوا يقتسمون به المياه ، وكان من عادة العرب : أنهم يجمعون فيرسلون دلاءهم في البئر ، فكان كل واحد منهم يأخذ حظه ونصيبه من الماء ، فيقول لأهل مكة : لا تستعجلوا ، ؛ فإن لكم نصيبا من ذلك العذاب كما كان لأولئك ؛ كالدلاء التي تكون في البئر ، فيأخذ كل واحد منهم نصيبه . وكذلك قال القتبي وأبو عوسجة : الذنوب - الحظ والنصيب . وعن ابن عباس - رضي الله عنه - : سمي ذلك العذاب : ذنوبا ؛ لما يتبع بعضهم بعضا ، والله أعلم . فيقول : يتبع العذاب لهؤلاء كما يتبع لأولئك ؛ كالدلاء يتبع بعضها بعضا ، والله أعلم . وقوله : { فَلاَ يَسْتَعْجِلُونِ } أي : قد يبلغون وقته فلا يستعجلون العذاب ، وهو الوقت الذي يسألون الرجوع كما أخبر - عز وجل - : { رَبِّ ٱرْجِعُونِ } [ المؤمنون : 99 ] . وقوله : { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن يَوْمِهِمُ ٱلَّذِي يُوعَدُونَ } يوم القيامة ، ولكن لم يبين ذلك اليوم ما هو ؟ فيحتمل ما قالوا ، ويحتمل غيره ، والويل قد ذكرنا تأويله فيما تقدم . فإن قيل : كيف خوف الله تعالى هذه الأمة بما أنزل على الأمم الخالية من الاستئصال والإهلاك ، وقد عافى هذه الأمة عن هذا وأمنهم منه ؟ قيل : إنما خوفهم بما ذكر ؛ لأن المعنى الذي استوجب أولئك الاستئصال والإهلاك به يحتمل أن يتحقق ذلك في هؤلاء . وقد يحتمل ألا يكون ، فالتخويف صحيح لهؤلاء بهم ، وإنما يكون مثل هذا التخويف في أول الأمر ، ثم إن الله بفضله ورحمته عفا عنهم بفضل النبي صلى الله عليه وسلم ورحمته ؛ كقوله : { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } [ الأنبياء : 107 ] . ويحتمل أن يكون العفو لهم عن ذلك بالتأخير عنهم إلى وقت ، وهو وقت قبض أرواحهم وخروجهم من الدنيا ، وفي ذلك الوقت يعاقبون بأنواع العذاب ، وينزل بهم ما نزل بأولئك ، لا أنهم عفوا عن ذلك أصلا . ويحتمل أن يكون ينزل بهم ذلك في الآخرة ، وذلك كله فضل منه ورحمة ، والله أعلم بالصواب .