Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 51, Ayat: 47-55)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - عز وجل - : { وَٱلسَّمَآءَ بَنَيْنَٰهَا بِأَييْدٍ } . أي : خلقناها بقوة ، { وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ } أي : لقادرون . وجائز أن يكون الموسع : الواجد ؛ كقوله تعالى - : { عَلَى ٱلْمُوسِعِ قَدَرُهُ } [ البقرة : 236 ] ، أي : على الواجد الموسر قدره . وقال بعضهم : { وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ } في التدبير ، تدبير جميع الخلق عليهم أرزاقهم . وقوله - عز وجل - : { وَٱلأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ ٱلْمَاهِدُونَ } . أي : بسطناها ومهدناها { فَنِعْمَ ٱلْمَاهِدُونَ } لكم الأرض ؛ حيث مهدها لكم مبسوطة مفترشة تجدونها كذلك ما كانوا وأينما كانوا ، من غير تكلف ، ويستعملونها كيف شاءوا في أي منفعة شاءوا ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ } . قال بعضهم : صنفين من الحيوان ؛ فإنه خلقهم ذكراً وأنثى . وقال بعضهم : { زَوْجَيْنِ } ، أي : لونين ، نحو أبيض وأسود ، وأحمر وأصفر . والأول قول الزجاج ، والثاني قول القتبي . وأصله : أنه يخرج على وجهين : أحدهما : { زَوْجَيْنِ } ، أي : شكلين ، فيعلمون ببعضه بعضاً ، أو ضدين فيناقض بعضه بعضا ، والله - سبحانه وتعالى - ليس بذي شكل ، ولا ذي ضد ؛ فيدل ما أنشأ من الأضداد والأشكال على وحدانيته وألوهيته . والثاني : خلق الأشياء مختلفين متضادين ؛ ليدل على إيجاب المحن عليهم من نحو عسر ويسر ، وغناء وحاجة ، وخير وشر ؛ ليمتحنهم على اختلاف الأحوال وتضادها ؛ فيرغبهم في كل مرغوب ، ويحذرهم عن كل مرهوب ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } . أي : تذكرون آيات وحدانيته وألوهيته . أو تذكرون - باختلاف الامتحان - البعث ، والثواب ، والعقاب ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { فَفِرُّوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ } ، يحتمل وجوها : قال بعضهم : ففروا إلى توحيد الله من الشرك به ؛ دليله قوله على إثره : { وَلاَ تَجْعَلُواْ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ } وهو [ قول ] أبي بكر الأصم . ويحتمل { فَفِرُّوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ } أي : ففروا إلى ما دعاكم الله تعالى إليه عما نهاكم عنه ؛ كقوله سبحانه : { وَٱللَّهُ يَدْعُوۤاْ إِلَىٰ دَارِ ٱلسَّلاَمِ } [ يونس : 25 ] ، أي : ففروا إلى الأعمال الصالحة من الأعمال القبيحة . ويحتمل : ففروا إلى ما وعد لكم من الثواب عما أوعد لكم من العقاب ؛ أي : فروا إلى ثواب الله عن نقمته وعقابه . ويحتمل : ففروا إليه في جميع حوائجكم ، ولا تطلبوا شيئاً من ذلك من غيره ؛ فإنه هو القادر عليها حقيقة ؛ فيكون في الآية ترغيب في الرجوع إليه في الحوائج ، وقطع الطمع عن غيره ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { إِنِّي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } يحتمل وجوها : يحتمل : إني نذير لمن عبد دونه ، أو سمى دونه إلها ، { مُّبِينٌ } آيات ألوهيته ووحدانيته . ويحتمل : إني لكم منه نذير مبين ؛ لما يقع لكم به النذارة والبشارة . وقال أبو بكر الأصم : إني لكم منه نذير مبين بما نزل بمكذبي الرسل بتكذيبهم . وقوله - عز وجل - : { وَلاَ تَجْعَلُواْ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ } . أي : لا تسموا مع ألوهية الله تعالى لأحد دون الله : ألوهية ، ولا تسموا دون الله : إلها . أو يقول : لا تعبدوا دون الله إلها آخر ؛ أي : معبودا آخر ؛ فإنه لا يستحق دون الله أحد للعبادة ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { إِنِّي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } قد ذكرناه . وقوله - عز وجل - : { كَذَلِكَ مَآ أَتَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُواْ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ } لم يذكر في هذا الموضع القول منهم : إنهم قالوا للرسول : إنك ساحر أو مجنون ، ولكن إن لم يكن مذكورا في ظاهره ، لكن ما ذكر أن أوائلهم كانوا يقولون لرسلهم ذلك - دلالة أنهم قد قالوا : إنه ساحر ، وإنه مجنون ؛ حيث قال : { كَذَلِكَ مَآ أَتَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُواْ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ } يصبر رسوله صلى الله عليه وسلم على أذاهم بنسبتهم إياه إلى السحر والجنون ؛ كقوله تعالى : { فَٱصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ ٱلْعَزْمِ مِنَ ٱلرُّسُلِ } [ الأحقاف : 35 ] وغير ذلك من الآيات التي فيها الأمر بالصبر على أذاهم ، والله أعلم . ثم قوله - عز وجل - : { سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ } . قال أبو بكر الأصم : إنما قالوا : ساحر أو مجنون ؛ لأن السحر والجنون عندهم واحد ؛ كقول فرعون لموسى - عليه السلام - لما أتى به من الآيات : { إِنِّي لأَظُنُّكَ يٰمُوسَىٰ مَسْحُوراً } [ الإسراء : 101 ] ؛ فلذلك قالوا مرة : ساحر ، ومجنون مرة . ولكن هذا فاسد ؛ فإنه لا يحتمل أن يكون الجنون والسحر عندهم واحداً ؛ لأن الساحر هو الذي بلغ في العلم في كل شيء غايته ، والمجنون هو الذي بلغ في الجهل غايته ، ونسبوهم إلى السحر ؛ لما أتى لهم من الآيات ما عجز الناس عن إتيان مثلها ، وقد عرفوا هم أنها آيات - أعني : رؤساءهم وأئمتهم - لكن قالوا : إنها سحر ؛ على إرادة التلبيس على الأتباع والعامة ؛ لما عند الناس أن لا كل أحد يقدر على إتيان السحر ، فقالوا : إنهم سحرة للرسل لهذا ؛ وإنما نسبوهم إلى الجنون لما أنهم خالفوا الفراعنة والأكابر الذين كانت همتهم القتل وإهلاك من خالفهم في المذهب والأمر ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { أَتَوَاصَوْاْ بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ } . أي : أوصى أوائلهم أواخرهم في تسميتهم الرسل - عليهم السلام - : سحرة ومجانين ؛ وأن يوافق بعضهم بعضا في نسبتهم الرسل إلى السحر والجنون ، أي : لم يزل الكفرة يقولون لرسلهم ذلك . ويحتمل أن يكون ذلك على التمثيل ، لا على حقيقة القول منهم ؛ لما كان اجتماعهم لأجل هذا القول في كل وقت ؛ فصار ذلك الاجتماع منهم كالتواصي من بعضهم لبعض ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ } . يخبر أنهم لا عن جهل وشبهة قالوا : إنهم سحرة ، ولكن عن طغيان ، وتعدي حد لله - عز وجل - والمجاوزة له ؛ لأن الطاغي هو المجاوز عن الحد الذي جعل له ، والمتعدي عنه . وقوله تعالى - : { فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَآ أَنتَ بِمَلُومٍ } . قال بعض أهل التأويل : لما نزل هذا خاف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه - رضي الله عنهم - أنه ينزل بهم العذاب حتى نزل قوله تعالى : { وَذَكِّرْ فَإِنَّ ٱلذِّكْرَىٰ تَنفَعُ ٱلْمُؤْمِنِينَ } . لكن عندنا يخرج قوله - تعالى - : { فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَآ أَنتَ بِمَلُومٍ } على وجهين : أحدهما : أي : تولَّ عنهم ، فأعرض ولا تكافئهم بإساءتهم إليك بقولهم : إنه ساحر ، وإنه مجنون ؛ فإن الله تعالى سيكفيهم عنك ، ويجازيهم مجازاة إساءتهم . والثاني : يأمره بالإعراض والتولي عن قوم علم الله تعالى أنهم لا يؤمنون ؛ يؤيسه عن إيمانهم ، ويقول : لا تشتغل بهم ؛ فإنهم لا يؤمنون لك ولا يصدقونك ، ولكن اشتغل بمن ترجو منه الإيمان ، والله أعلم . وجائز أن يكون لا على حقيقة الأمر ، ولكن على التخيير ؛ أي : لك أن تتولى عنهم وتعرض ؛ فإنك قد بلغت ، وأعذرت في التبليغ والدعاء غايته ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { فَمَآ أَنتَ بِمَلُومٍ } . جائز أن يكون المراد من نفي الشيء إثبات مقابل ذلك الشيء وضده ؛ كقوله تعالى : { فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ } [ البقرة : 16 ] [ ذكر ] الربح ، والمراد : إثبات الخسران ؛ كأنه قال : فما ربحت تجارتهم ؛ بل خسرت ؛ فعلى ذلك جائز قوله : { فَمَآ أَنتَ بِمَلُومٍ } بل بمحمود ، والله أعلم . وقال أبو بكر الأصم : { فَمَآ أَنتَ بِمَلُومٍ } ؛ لأنه قد بلغ الرسالة ، وما أمر بتبليغه إلى الخلق ، وقام بأمره ونصح خلقه ، وخفض جناحه لهم ، فكيف يلام ؟ ! أي : ما أنت بالذي تلام على صنيعك وعلى فعلك ، وإن كان بعض الناس يلومك ، وهم الكفار . وفيه دلالة الحفظ والعصمة له عن الزيغ والزلات ؛ إذ لو كان بالذي يحتمل الزيغ والزلة ، لكان يحتمل الملامة ؛ فدل أنه لا يحتمل الزيغ والعدول عن الحق . وقوله - عز وجل - : { وَذَكِّرْ فَإِنَّ ٱلذِّكْرَىٰ تَنفَعُ ٱلْمُؤْمِنِينَ } . جائز أن يكون الأمر بالتذكير للكل ؛ ثم أخبر أن الذكرى تنفع المؤمنين ، لا الكل . وجائز : فذكر المؤمنين ؛ فإن منفعة الذكرى لهم ، ولمن أنصف ، دون المكابرين المعاندين ، والله أعلم .