Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 52, Ayat: 1-16)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - عز وجل - : { وَٱلطُّورِ * وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَّنْشُورٍ … } الآية . ثم اختلف بالقسم بالطور وما ذكر ؛ قال قائلون : القسم إنما هو بمنشئ هذه الأشياء التي ذكر ، لا بهذه الأشياء أنفسها ؛ إذ الله تعالى نهى الخلق أن يقسموا بغيره ، فكيف يقسم بنفسه . وقال قائلون : يجوز أن يقسم - جل وعلا - بما شاء وبمن شاء ، بالذي عظم قدره عندهم . وقد ذكرنا : أن الأقسام إنما تكون بالأشياء التي عظمت أقدارها ومحلها عند الخلق ، يقسم بها لدفع الشبه التي تمنع وقوع العلم لهم بذلك والمعرفة بالذي اشتبه عليهم والتبس ؛ ليعرفوا أن ذلك كائن لا محالة ، وأنه بالذي اشتبه عليهم والتبس ، وأنه حق ، بما لو تفكروا في تلك الأشياء وأمعنوا النظر فيها على غير قسم ، لوقع لهم العلم بذلك وتحقق ، والله أعلم . ثم الله تعالى أقسم بأشياء سواه ، وليس للخلق ذلك ؛ لأن قسم الخلق يخرج مخرج الفزع إليه والتضرع ، ولا يجوز الفزع إلا من سواه والاستعانة به ، فأما القسم من الله تعالى حقيقة فهو على التذكير والتنبيه للخلق ، وتأكيد ما وعد لهم من الجزاء ؛ فيجوز له القسم بكل ما يكون لهم التذكير والتنبيه والتأكيد ، وإن كان بغيره وسواه مما لذلك خطر ومحل عند الناس وعند الله تعالى ، والله أعلم . ولأن القسم المذكور في القرآن لإثبات صدق أخبار الرسل إليهم ، وأنهم رسله ، وأنهم إذا فعلوا كذا ينزل عليهم من العذاب كذا ؛ لأن أولئك الكفرة لم يكذبوا الله تعالى في خبر حتى يكون قسمه لإثبات صدق خبره ، وإنما يتحقق صدق خبرهم بما أقاموا من المعجزات والبراهين ، لكن يتأكد بالقسم فيحصل ذلك بذكر ما له خطر ومحل عندهم ، فأما قسم الخلق لإثبات أصل الصدق ؛ فيجب أن يقسموا بذكر ما هو النهاية في العظمة والقدر في القلوب ، وهو أسماء الله تعالى وصفاته ، والله أعلم . ويحتمل أن يكون القسم بهذه الأشياء من الرسل - عليهم السلام - فإن كان كذلك فهو على الإضمار ؛ كأنهم قالوا : بمنشئ الطور ، وكتاب مسطور وما ذكر إلى آخره ؛ إذ القسم من البشر يكون بالله - سبحانه وتعالى - وصفاته ، والله أعلم . ثم قوله - عز وجل - : { وَٱلطُّورِ } جائز أن يكون القسم واقعا بالجبال كلها ؛ لما أن الله تعالى أنشأ الأرض خلقاً تميد بأهلها ، وأرسى فيها هذه الجبال ووتدها حتى استقرت وسكنت ، حتى وصل الخلائق إلى الانتفاع بهذه الأرض والقرار عليها ، وصارت مهادا لهم ، وفراشا لهم ؛ على ما ذكر ؛ يتقلبون فيها ، ويتصرفون كيف شاءوا وإن أرادوا ذا ، أرادوا حيث أحبوا ، ثم إذا عرفوا ذلك ، لزمهم أن يعرفوا أن عليهم شكر ما أنعم عليهم ، فإذا تركوا ذلك لزمهم عقوبة الكفران وجزاؤه ، وأوعد لهم ذلك ؛ فيؤكد ما ذكر من القسم وقوع ما ذكر من العذاب بهم ؛ حيث قال : { إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَّا لَهُ مِن دَافِع } . ويحتمل أن يكون المراد بالطور : هو جبل خاص ، وهو الجبل الذي كلم الله - سبحانه وتعالى - موسى عليه ، وأنزل عليه التوراة ، وهو طور سيناء ، وذلك جبل مما عظم قدره عند بني إسرائيل حتى عرفوا قدره وفضله ، فأقسم بذلك الجبل { إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ } . ويحتمل أن يكون المراد بالطور : هو جبال خاصة ، وهي الجبال التي أوحى عليها إلى رسله - عليهم الصلاة والسلام - على ما روي في الخبر : " أوحى الله تعالى إلى موسى - عليه السلام - في جبل ساعور ، وإلى محمد صلى الله عليه وسلم في جبل فاران " ، قأقسم بها أن ما وعد من العذاب واقع بهم ، والله أعلم . وفي الآية دلالة إثبات الرسالة ؛ فإنه أخبر - عليه الصلاة والسلام - عن أمكنة الوحي ، وفضل تلك الجبال ومعرفة ذلك إنما هو من الكتب المتقدمة ، وهم قد أحاطوا العلم بأنه لم يكن اختلف إلى أحد ممن له معرفة بتلك الكتب حتى يعلم منه ؛ فدل أنه بالله - عز وجل - عرف أمكنة الوحي ، وفضل تلك الجبال ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ … } الآية . يحتمل القسم بجميع الكتب المنزلة على الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - إذ بها يوصل إلى معرفة آيات الرسل - عليهم السلام - وإلى معرفة ما يؤتى ويتقى ، وإلى أخبار السماء ، ومعرفة الأحكام والحدود ، وغير ذلك من أحكام من وجوه الحكمة ، أقسم بها أن العذاب واقع بهم ، والله أعلم . ويحتمل أن القسم يرجع إلى عدد من الكتب : كالتوراة ، والإنجيل ، والزبور - المعروفة التي عرف أهل الإيمان بها حقها ونزولها من السماء . ويحتمل أنه راجع إلى خاص من الكتب ، وهو القرآن بما عظم قدره عندهم ؛ لما يعجز البشر عن إتيان مثله ؛ على ما ذكرنا في الطور ، والله أعلم . ويحتمل ما ذكره أهل التأويل : أنها الكتب التي يكتب فيها أعمال بني آدم ، ولم يذكروا جهة القسم بها ، ولست أعرف وجهه . وقوله - عز وجل - : { فِي رَقٍّ مَّنْشُورٍ } أي : غير مطوي . وقال أبو عبيدة : الرق : الورق . وقال أبو عوسجة : الرق : الكتاب . وقوله - عز وجل - : { وَٱلْبَيْتِ ٱلْمَعْمُورِ } . يحتمل البيوت كلها جملة ، وهي البيوت التي جعل الله تعالى للخلق ، يسكنون فيها ، ويتقون بها من الحر والبرد ، ويأمنون فيها ، وهو ما قال الله تعالى : { وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِّن جُلُودِ ٱلأَنْعَامِ بُيُوتاً … } الآية [ النحل : 80 ] . ما عرف كل منافعها ، وعظم نعمة الله تعالى عليهم في ذلك ؛ ليستأدي بذلك شكرا ، فأقسم بما ذكر أن [ من ] لم يقم بوفاء الشكر ، استوجب العذاب والعقوبة ، والله أعلم . ويحتمل أن يكون القسم بالبيت المعمور هو الكعبة ، وهو معمور ، قد عظم الله شأنه وأمره في قلوب الناس كافة ، في قلوب الكفار والمؤمنين جميعاً ، حتى كانت قريش وسائر العرب يحجونه ويزورونه ، ويعظمونه ، فأقسم به ؛ على ما ذكر ، والله أعلم . وقال أبو عبيدة : البيت المعمور : الكثير الأهل . وأهل التأويل يقولون : البيت المعمور هو في السماء ، يزوره أهل السماء ، ويطوفونه ، لكن القسم به يبعد ؛ لما لم يسبق لهم المعرفة والمشاهدة به ، فكيف أقسم بشيء لم يعرفوه ، ولا وقع لهم العلم بالمشاهدة ؛ إلا أن يقال : إن القسم به لأهل الكتاب ، وذلك في كتبهم يعرفونه ، فأما من لم يسبق له الخبر والمعرفة بذلك مشاهدة فبعيد ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَٱلسَّقْفِ ٱلْمَرْفُوعِ } هو السماء التي رفعها بلا عمد يرونها من أسفل ، ولا تعليق من الأعلى ، على بعدها من الأرض ، وسعتها وعرضها وشدتها وغلظها ؛ ليعلم أن من فعل هذا ، لا يفعله لغير شيء ؛ بل ليمتحن ، ويأمر ، وينهى ، وليستأدي شكره ، فمن خالف أمره ونهيه ، وكفر نعمه ، وانتهك محارمه ، استوجب ما ذكر ، والله أعلم . وليعلم أن من قدر على ما ذكرنا قادر على كل شيء ، لا يعجزه شيء ، يذكر سلطانه وقدرته وعظمته ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَٱلْبَحْرِ ٱلْمَسْجُورِ } . قال أهل الأدب : هو البحر الملآن الحار ؛ لأنه - جل وعلا - منذ أنشأه ، أنشأه حارّاً ممتلئاً ، عميقا ، لم يتغير في وقت من الأوقات ، ولا في حال من الأحوال ، بل كان على حالة واحدة حارّاً ، مالحاً ممتلئاً عميقا عريضا ، ليس كسائر الأنهار التي ربما تتغير عن جهتها من قلة الماء وسكونه وغورها في الأرض وامتلائها من الطين ، وحاجتها إلى الحفر ، وغير ذلك من التغير الذي يكون بها ، فأما البحر على حالة واحدة في الأحوال كلها ، فأقسم به : { إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ } ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { يَوْمَ تَمُورُ ٱلسَّمَآءُ مَوْراً * وَتَسِيرُ ٱلْجِبَالُ سَيْراً } . بين الوقت الذي ينزل بهم العذاب الموعود حين قال : { إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ } ، ودل أن وقت تعذيب هذه الأمة يوم القيامة ، وهو ما قال - عز وجل - : { وَٱلسَّاعَةُ أَدْهَىٰ وَأَمَرُّ } [ القمر : 46 ] . وفيه وصف ذلك اليوم بالأهوال والشدة ؛ لأنه تعالى ذكر أن السماء تمور موراً ، أي : تستدير استدارة ، وتتحرك تحركاً ، وذكر سير الجبال وما ذكر ، وهذه الأشياء من أشد الخلائق وأصلبها ، فهول ذلك اليوم وشدته عمل فيها ما ذكر من التحرك والسير والتغير وغير ذلك . وفيه أن هذا العالم كله أنشأه بحيث يفنيه وينشئ عالماً آخر ؛ ؛ لأنه ذكر فيه التغير من حال إلى حال ؛ لأنه ذكر مرة سيرها وتحركها حيث قال : { وَيَوْمَ نُسَيِّرُ ٱلْجِبَالَ } [ الكهف : 47 ] ، وذكر السماء وتحركها ومورها ، وذكر للأرض انشقاقها ، حيث قال : { وَتَنشَقُّ ٱلأَرْضُ } [ مريم : 90 ] ، وقال في آية أخرى : { وَتَكُونُ ٱلْجِبَالُ كَٱلْعِهْنِ ٱلْمَنفُوشِ } [ القارعة : 5 ] ، وقال : { يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً } [ طه : 105 ] ، وقال هاهنا : { وَتَسِيرُ ٱلْجِبَالُ سَيْراً } ، وكذلك قال في السماء والأرض اختلاف الأحوال ، فقال : { يَوْمَ نَطْوِي ٱلسَّمَآءَ كَطَيِّ ٱلسِّجِلِّ لِلْكُتُبِ } [ الأنبياء : 104 ] ؛ فدل إثبات التغير في هذه الأشياء على هلاكها ، كما دل أنواع الأمراض والتغير من حال إلى حال في أهلها على هلاكها ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ … } الآية ، أي : المكذبين لرسلهم ، عليهم السلام . ويحتمل : لتوحيده ، أو لحججه ، أو للبعث . وقوله - عز وجل - : { ٱلَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ } . نعتهم ووصف أمرهم ، حيث قال : { ٱلَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ } ، والخوض : هو البحث عن الشيء ، إلا أن الخوض المطلق ذكروه واستعملوه في الباطل خاصة . وقوله - عز وجل - : { يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَىٰ نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا } . أي : يدفعون في النار على وجوههم . وقال أبو عبيدة : يدفعون دفعاً في القفا خاصة . وقوله - عز وجل - : { هَـٰذِهِ ٱلنَّارُ ٱلَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ } . هو على الإضمار ؛ كأنه يقال لهم : هذه النار التي كنتم بها تكذبون في الدنيا ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { أَفَسِحْرٌ هَـٰذَا أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ } . يقال لهم في الآخرة لما ألقوا في النار : أفسحر هذا ؟ ! مقابل ما قالوا هم للحجج والبراهين في الدنيا إنها سحر . { أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ } هذا يخرج على وجهين : أحدهما : يقال لهم لما أدخلوا النار : لعل ما أنتم فيه ليس بعذاب ، وأنها ليست بنار ، وأنتم لا تبصرون لذلك ؛ كما أخبر عنهم في الدنيا : أنهم يقولون لحججه ؛ حيث قال : { وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ ٱلسَّمَاءِ فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا … } الآية [ الحجر : 14 - 15 ] ، فقال مقابل ذلك { أَفَسِحْرٌ هَـٰذَا أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ } أي : لعلكم لا تبصرون . والثاني : يقول : { أَفَسِحْرٌ هَـٰذَا أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ } في الدنيا : أن هذا ينزل بكم في الآخرة ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { ٱصْلَوْهَا فَٱصْبِرُوۤاْ أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ } هذا كما قال إبليس : { سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ } [ إبراهيم : 21 ] ؛ فعلى ذلك قوله - عز وجل - : { ٱصْلَوْهَا فَٱصْبِرُوۤاْ أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ } أصبرتم أو جزعتم ؛ فلا ينفعكم ذلك . وقوله - عز وجل - : { إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } . أي : ذلك استوجبتم بأعمالكم ، لا أن أوجبت عليكم شيئاً لم تستوجبوه .