Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 54, Ayat: 9-17)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - عز وجل - : { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ } يقول - والله أعلم - : كذبت قبل قومك قوم نوح نوحا - عليه السلام - وآذوه ، فصبر على التكذيب وأنواع الأذى ، ولم يدع عليهم بالهلاك ما لم يرد الإذن بالدعاء عليهم بالهلاك من الله - تعالى - فاصبر أنت على تكذيب القوم وأنواع الأذى ، وهو كقوله تعالى : { فَٱصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ ٱلْعَزْمِ مِنَ ٱلرُّسُلِ } [ الأحقاف : 35 ] . فإن قيل : ما الحكمة في تكرار هذه الأنباء في القرآن ، ولم يكرر ما فيه من الأحكام ؟ قيل : إن هذه الأنباء والقصص إنما جاءت لمحاجة أهل مكة وأمثالهم من الكفرة في إثبات الرسالة والتوحيد والبعث ؛ إذ هم المنكرون لهذه الأشياء ، وهم كانوا أهل عناد ومكابرة ، وفيهم - أيضاً - مسترشدون ، ومن حق المحاجة مع [ من ] ذكرنا وأمثالهم أن تعاد الحجة مرة بعد مرة ؛ لعلهم يقبلونها في وقت ، وتنجع في قلوبهم في وقت ، وإن لم تنجع في وقت ، ومن حق الموعظة للمسترشدين - أيضاً - أن تكرر ليتعظوا ؛ إذ يختلف ذلك باختلاف الأحوال ، وقد ذكرنا فوائد تكرارها واقتصار الأحكام فيما تقدم ، والله أعلم . فإن قيل : إن نوحا - عليه الصلاة والسلام - قد دعا على قومه بالهلاك . قيل : إنما دعا على قومه بالهلاك بعدما أيس من إيمانهم ؛ حيث قيل : { أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ } [ هود : 36 ] ، أما رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يؤيسه عن إيمان قومه جملة ؛ إنما يؤيسه عن بعض بطريق التعيين ، وهم قوم علم الله أنهم لا يؤمنون ، لا عن الكل ؛ فلذلك لم يؤذن بالدعاء عليهم ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا } يحتمل : كذبوه فيما ادعى لنفسه الرسالة . أو كذبوه فيما دعاهم إليه بالتوحيد وتوجيه الشكر إلى الواحد القهار . وقوله - عز وجل - : { وَقَالُواْ مَجْنُونٌ } ، أي : قالوا لأتباعهم : إنه مجنون . وقوله - عز وجل - : { وَٱزْدُجِرَ } ، أي : نوح - عليه السلام - حيث قالوا لقومهم : لا تتبعوه ، وزجروهم عنه بقولهم : إنه مجنون ؛ فهذا منهم زجر لأتباعهم عن اتباعه ؛ فصار لذلك نوح - عليه السلام - مزدجرا عن القوم ، وصار القوم مزدجرين عنه . وقال بعضهم : زجروا نوحا - عليه السلام - أي : منعوه عن إظهار ما أتاهم من الآيات على رسالته ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَٱنتَصِرْ } ، أي : مغلوب بالسفه والمكابرة وأنواع الأذى ؛ إذ لا يحتمل أن يكون مغلوبا بالحجج ، فانتصر لعبدك عليهم . وقوله - عز وجل - : { فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ ٱلسَّمَآءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ } يحتمل قوله - تعالى - : { فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ ٱلسَّمَآءِ } أي : من فوق ؛ لأن ما كان من فوقك فهو سماء ؛ فيحتمل أن يكون ذلك من البحر بفوق الذي ذكر أنه بين السماء والأرض . { وَفَجَّرْنَا ٱلأَرْضَ عُيُوناً } ، أي : أنبعنا الماء من الأرض ؛ كأنه قال : أنزلنا الماء من فوق ، وأنبعنا من أسفل . ويحتمل أن يكون قوله - تعالى - : { فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ ٱلسَّمَآءِ } هو حقيقة فتح السماء وإنزال الماء منها ، والله - تعالى - قادر أن يرسل الماء مما يشاء ، وكيف [ شاء ] ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ } قيل : منصب . وقال أبو عبيد : { مُّنْهَمِرٍ } ، أي : كثير سريع الانصباب ؛ يقال : همر الرجل : إذا أكثر في الكلام ، فأسرع . وقال أبو عوسجة : انهمرت السماء وهمرت ، أي : أمطرت ؛ فأكثرت . وقوله - عز وجل - : { فَالْتَقَى ٱلمَآءُ عَلَىٰ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ } يذكر أن الماءين جميعاً : ما أرسل من الفوق ، وما أخرج من التحت - على تقدير وتدبير ، لا جزافا ، وهو كقوله - تعالى - : { ثُمَّ جِئْتَ عَلَىٰ قَدَرٍ يٰمُوسَىٰ } [ طه : 40 ] أي : على تقدير وتدبير من الله تعالى جئت ، لا على غير تقدير منه . وفي حرف ابن مسعود - رضي الله عنه - : { فالتقى الماءان على أمر قد قدر } . وقال بعضهم : { عَلَىٰ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ } أي : قد قدر لهم أن يغرقوا بالماء إذ كفروا . وقال بعضهم : { قَدْ قُدِرَ } أي : استوى الماء نصفه من عيون الأرض ، ونصفه من السماء ، وأصله ما ذكرنا ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَحَمَلْنَاهُ عَلَىٰ ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ } ، وذكر في حرف حفصة - رضي الله عنها - { وحملناه وذريته على ذات ألواح ودسر } ، ذكر - هاهنا - ذات ألواح ، وذكر في آية أخرى السفينة بقوله - تعالى - : { أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي ٱلْفُلْكِ ٱلْمَشْحُونِ } [ يس : 41 ] ، ونحوه ؛ فيكون { ذَاتِ أَلْوَاحٍ } تفسير السفينة ، ولو لم يفهم من { ذَاتِ أَلْوَاحٍ } السفينة ؛ إذ ذات الألواح قد ترجع إلى الأشجار وغيرها ، لكن كان تفسير السفينة بما ذكرنا ، والله أعلم . ثم اختلف في قوله - تعالى - : { وَدُسُرٍ } : قال أهل التأويل : الدسر : المسامير التي تشد بها السفينة . وقيل : الدسر : أضلاع السفينة . وقيل : صدرها . وقال الحسن : هي السفينة ؛ لأنها تدسر الماء بجؤجئها . قال أبو معاذ : واحد الدسر : دسار ، وجمع الجؤجؤ : الجآجئ ، وهي الصدور . ثم في قوله : { وَحَمَلْنَاهُ } ، وتسميته هذه المصنوعة : سفينة - دليل على أن أفعال العباد مخلوقة لله - تعالى - لأنهم هم الذين ركبوا السفينة ، ثم أخبر أنه هو الذي حملهم ، وكذا الخُشُب المجتمعة لا تسمى : سفينة ، إنما سميت بهذا الاسم الخاص بعد الإيجاد والصنعة الموجودة من العباد ؛ دل أن لله في فعل العباد صنعا ، والله الموفق . وقوله - عز وجل - : { تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا } أي : بتقديرنا وبحفظنا . وقوله : { جَزَآءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ } أي : حمل نوحاً - عليه السلام - وأتباعه في السفينة ونجاهم من الغرق جزاء ما كفر به قومه ؛ كذا قال عامة أهل التأويل : إنه أخبر لنوح - عليه السلام - حين كفر به قومه فلم يؤمن به قومه . وقال مجاهد : جزاء لمن كان كفر بالله - تعالى - أي : الغرق جزاؤهم ؛ لما كفروا بالله تعالى . وقال أبو معاذ : وقرئ : { جزاء لمن كان كَفر } بنصب الكاف ، وتأويل هذه القراءة : أي : إهلاك من أهلك من قومه ؛ جزاء لما كفروا بالله - تعالى - أو بنوح ، - عليه السلام - . وقوله - عز وجل - : { وَلَقَدْ تَّرَكْنَاهَا آيَةً } يحتمل وجهين : أحدهما : تركنا سفينة نوح - عليه السلام - بعينها مدة طويلة حتى صارت آية لأواخرهم ولمن بعدهم ؛ وبه يقول قتادة ؛ قال : أبقى الله - تعالى - سفينة نوح - عليه السلام - بينة للمسافرين من أرض الجزيرة حتى نظرت إليها أوائل هذه الأمة ، وكم من سفينة كانت بعدها ، فصارت رماداً . والثاني : تركنا آية آثار تلك السفينة وأنباءها آية لمن بعدهم ؛ لأن أنباءها قد بقيت في المتأخرين حتى عرفوا أن من نجا لِمَ نجا ؟ ومن هلك لم هلك ؟ والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } عن الأسود قال : قلت لعبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - : { فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } أو { مُذَّكِر } ؟ فقال : أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم مدكر بالدال . قال أبو عبيد : وأصله في العربية : " مدتكر " ، فإنه من باب الافتعال على وزن مفتعل ، فثَقُل لاجتماع التاء والدال ، فأدغم الحرف الأول - وهو الدال - في التاء ؛ فانقلب دالا ، وهو كقوله : " ادخر " ، أصله : " ادتخر " ، من " الدخر " لما قلنا ، والله أعلم . ثم قوله - عز وجل - : { مُّدَّكِرٍ } أي : هل [ من ] متذكر متعظ ، يتعظ بما نزل بأولئك فينزجر عن مثل صنيعهم . [ و ] قال قتادة : فهل من طالب خير ؛ فيعان عليه . وقوله - عز وجل - : { فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ } يخرج على وجهين : أحدهما : أليس ما وعد لهم رسلي من العذاب بالتكذيب صدقا حقّاً ، وأريد بقوله : { وَنُذُرِ } أي : رسلي . والثاني : أليس وجدوا عذابي شديداً ونذري ما وقعت به النذارة ، وهو العذاب الذي أنذروا به ، والنذر على هذا التأويل المنذر به ؛ كقوله - تعالى - : { وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً } [ الإسراء : 5 ] أي : موعودا ، وإلا وعده لا يكون مفعولا ، إذ هو صفة أزلية . وقوله - عز وجل - : { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا ٱلْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } هذا يحتمل وجوها : أحدها : { يَسَّرْنَا ٱلْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ } أي : للحفظ ، أي : صيرناه بحيث يحفظه كل أحد من صغير وكبير ، وكافر ومؤمن وكل أحد يتكلف حفظه . والثاني : { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا ٱلْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ } أي : لذكر ما نسوا من نعم الله - تعالى - عليهم ، ولذكر ما أنبأهم فيه من أخبار الأوائل من مصدقيهم مذكر . والثالث : جائز أن يكون لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة ؛ أي : يسرناه عليه حتى حفظه كله عن ظهر قلب ؛ حتى إذا أراد أن يذكر شيئا منه يذكر في كل وقت وكل ساعة أراد ؛ كقوله - تعالى - : { لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ } [ القيامة : 16 - 17 ] ، وقوله - عز وجل - : { نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلأَمِينُ * عَلَىٰ قَلْبِكَ } [ الشعراء : 193 - 194 ] وقوله - تعالى - : { سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَىٰ * إِلاَّ مَا شَآءَ ٱللَّهُ } [ الأعلى : 6 - 7 ] ، أمنه عن أن ينساه ، ومنَّ عليه بالتيسير . وقوله : { فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } فعلى التأويل الأول - والله أعلم - : أنه وإن يسرنا القرآن للحفظ ، ولكن لم ينزل للحفظ ، ولكن إنما أنزل ليذكر ما فيه ، وللاتعاظ به ؛ أي : فهل من متعظ به . وعلى التأويل الآخر : { فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } خرج مخرج الأمر ؛ أي : اذكروا واتعظوا بما فيه من الأنباء ، والله أعلم .