Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 55, Ayat: 26-36)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - عز وجل - : { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو ٱلْجَلاَلِ وَٱلإِكْرَامِ } يحتمل وجوها : أحدها : أي : مُلْكُ كُلِّ من في الأرض فانٍ ، ويبقى ملك ربك أبدا دائما . والثاني : يحتمل سلطان كل من عليها أو قوة كل من عليها وقدرته فان ، ويبقى سلطان ربك وقدرته وربوبيته ؛ ليعلم أن ملكه وسلطانه بذاته ، لا كالخلق ؛ حتى يكون فناؤهم وذهابهم يُدْخِل نقصا أو وهنا في ملكه ، خلاف ملك ملوك الأرض وسلطانهم . وجائز أن يكون قال هذا على الإياس للكفرة ، وقطع الرجاء عن عبادة من عبدوا دونه من الأصنام والملوك والرؤساء ، ومن قدموهم ، كأنه يقول : كل من عبد دونه أو خدم ، أو عمل لا لوجه الله ، فكله فان ، ذاهب ، إلا ما عمل لوجه الله ؛ فإنه باق ، والله أعلم . والباطنية يقولون : { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ } أي : النفس الجسدانية ، وتبقى النفس الروحانية أبدا ؛ لأنهم يقولون : إذا فنيت هذه الأجساد ينشئ الله تعالى من أعمالهم الصالحات أنفسا روحانية تبقى أبدا . ويحتمل { وَجْهُ رَبِّكَ } أي : كل ما يطلب من العمل وغيره رضاء الله تعالى ، فكنى بالوجه عن الرضاء . وقوله - عز وجل - : { ذُو ٱلْجَلاَلِ } يخرج على وجهين : أحدهما : على خلق إجلال حق الله وأمره وتعظيم ذلك . والثاني : أن يجل الله تعالى من شاء من خلقه ؛ أي : منه إجلال من جل في الدنيا ، وإكرام من أكرم في الآخرة ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { يَسْأَلُهُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } يخبر الله - عز وجل - عن فزع أهل السماء وأهل الأرض إليه عند الإياس من الخلق وانقطاع الرجاء عنهم ، وهو يذكر أنه المفزع في الأحوال كلها ، وللخلائق كلهم ، ومنه يسألون الرزق والنجاة ، وهو ما ذكر : { قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ مِّن ظُلُمَاتِ ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ … } الآية [ الأنعام : 63 ] ، وقوله : عز وجل - : { قُلِ ٱللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ } [ الأنعام : 64 ] وقوله : { وَإِذَا مَسَّ ٱلإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ } [ الزمر : 8 ] ، وقوله تعالى : { إِذَا مَسَّكُمُ ٱلضُّرُّ } [ النحل : 53 ] هنا صلة قوله : { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ } يقول - والله أعلم - : شأنه وأمره باق دائم أبدا ، وذهاب الخلق لا يدخل نقصا في شأنه وأمره ، ولا وهنا في سلطانه وملكه ؛ بل هو في شأنه وأمره عند فنائهم كهو في حال بقائهم . وجائز أن يكون ما قال بعض أهل التأويل : إن اليهود قالت : إن الله تعالى استراح يوم السبت لا يقضي بشيء ، ولا يحكم ولا يأمر ، ولا يفعل فعلا ؛ فنزلت الآية عند ذلك { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } من إحداث وإفناء ، وإحياء وإماتة . وأصله : أن الله تعالى إذا وصف بشيء يوصف بالأزل ، يقال : عالم لم يزل ، قادر لم يزل ، رازق بذاته لم يزل ، وإذا ذكر بأمر وتدبير مضاف إلى الخلق يوصف على ذكر الوقت ؛ فيكون الوقت للخلق لا له ، نحو أن يقال : إن الله تعالى لم يزل عالما بجلوسك هاهنا ، أو في هذا الوقت ؛ أي : لم يزل عالما أنه يجلس الآن ، أو يجيء الآن ، أو في هذا الوقت ، وإذا وصفته بالماضي ، قلت : لم يزل عالما بما كان ، وبالمستقبل : لم يزل عالما بما يكون أنه يكون في وقت كذا ، وللحال : لم يزل عالما بكونه كائنا للحال ، ونحو ذلك ، نفيا لوهم الخلق : أن المخلوق كيف يكون في الأزل ؟ ! فعلى ذلك قوله - عز وجل - : { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } ذكر اليوم والوقت ؛ لئلا يتوهم بكون الخلق قديما ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ ٱلثَّقَلاَنِ … } الآية ، قرئ : { سَنَفْرُغُ } بالنون والياء ، [ و ] برفع الراء في الحالين . قال أبو عبيد : بالياء يقرؤها كقوله تعالى : { يَسْأَلُهُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } ذكر على المغايبة ، فكذلك هذا الذي قرئ عليه . قال الزجاج : قوله تعالى : { سَنَفْرُغُ لَكُمْ } ليس هو الفراغ عن الشغل ، لكن كما يقول الرجل لآخر : سأفرغ لك كذا ، أي : سأجعل لك ، أو كلام نحوه . ومنهم من يقول : هذا على الوعيد في كلام العرب ، يقول الرجل : سأفرغ لك ، وإني لفارغ ، على الوعيد . وقال أبو بكر الكيساني : إن الفراغ ليس يستعمل عند الفراغ عن الشغل خاصة ، لكن يستعمل له ولغيره من نحو : إنجاز ما وعد ، وأوعد ؛ كأنه قال : سننجز لكم ما أوعدتكم أيها الثقلان . وعندنا أن الفراغ : هو اسم لانقضاء الفعل وتمامه ، لا للفراغ عن الشغل ، يقال : فلان فرغ من شغله : إذا فرغ [ ، وفرغ ] من بناء داره ، إذا أتمه وانقضى ذلك ؛ ألا ترى أنه وإن فرغ من شغل تلك الدار وذلك العمل ، فهو مشغول بغيره ، دل أنه ليس باسم للفراغ من الشغل ؛ إذ لو كان اسماً للفراغ من الشغل لا يوصف به وهو مشغول بغيره ؛ دل أنه اسم التمام والانقضاء ، لكن فهم الخلق بعضهم من بعض الفراغ من الشغل ؛ لما أن فعلهم للشيء لا يلتئم إلا بالشغل في ذلك ؛ فيفهم ذلك من فعلهم ، فأما الله - سبحانه وتعالى - حيث لا يشغله فعل عن فعل ، ولا شيء عن شيء ، لم يجز أن يفهم من فراغه من الشغل فراغه ، فبالله العصمة والتوفيق . وقوله - عز وجل - : { يٰمَعْشَرَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنسِ إِنِ ٱسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ فَٱنفُذُواْ لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ } ، له تأويلان : أحدهما : كأنه يقول : لو مكن لكم النفاذ من أقطار السماوات والأرض ونواصيها ، فتنفذون فتجدون هنالك ، وترون من آيات من كذب بالرسل وما حل بهم بالتكذيب . ثم قال : { لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ } أي : لا تنفذون لو مكن لكم من النفاذ إلا وتجدون حجج من أهلك منهم ظاهرة أنه بم أهلكهم ؟ وهو كقوله تعالى : { قُلْ سِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ ثُمَّ ٱنْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلْمُكَذِّبِينَ } [ الأنعام : 11 ] أمرهم بالسير في الأرض والتدبر في آثار من أهلك بماذا أهلك من أهلك منهم ؟ وبماذا نجا من نجا ؟ والله أعلم . والثاني : على الإعجاز ، أي : لا تستطيعون أن تخرجوا أو تنفذوا من أقطار السماوات والأرض ، ولو مكن لكم من النفاذ والخروج منها لوجدتم ثَمَّ سلطاني وحجتي وملكي هنالك قائما ، أي : لا تقدرون [ على ] الخروج من سلطاني وملكي حيثما كنتم ؛ بل حيثما سرتم كنتم في سلطاني وملكي ؛ فلا تتخلصون من الموت والهلاك ، وهو كقوله تعالى : { فَإِن ٱسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي ٱلأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي ٱلسَّمَآءِ … } الآية [ الأنعام : 35 ] . وقال الضحاك : في حرف ابن مسعود - رضي الله عنه - : { يا معشر الجن والإنس قد جاء أجلكم فانفذوا من أقطارهما لا تنفذوا إلا بسلطان } ، يعني : أنه لا يجيركم أحد من الموت وأنتم ميتون ؛ أي : لا تأتون قطرا من أقطار السماوات والأرض إلا وجدوا هنالك سلطان الله وملائكته ؛ يقول : لا تستطيعون فرارا من الموت ولا محيصا ، وإن نفذتم من أقطار السماوات والأرض فلم تخرجوا من سلطاني وأنا آخذكم بالموت حيث كنتم ، وهو كقوله : { يُدْرِككُّمُ ٱلْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ } [ النساء : 78 ] . وقال بعضهم : يبعث الله تعالى ملائكة عند الحشر ، فيحيطون بالدنيا يكونون في أقطارها ؛ فلا يستطيع شيطان ولا إنس ولا جان أن يخرج من الأقطار ، ولو خرجوا كانوا في سلطان الله . وقيل : { إِلاَّ بِسُلْطَانٍ } أي : الحجة . وقال قتادة : إلا بملك . وقال : إلا بقدرة الله تعالى والله أعلم . ثم أوعدهم فقال : { يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ } . قرئ { شُوَاظٌ } بضم الشين وكسرها ؛ روي عن الحسن بالكسر ، وكذا عن مجاهد . وقرئ { نحاسٍ } بكسر السين وضمه ، فمن رفع { وَنُحَاسٌ } عطفه على قوله : { شُوَاظٌ } ومن كسره ، عطفه على قوله : { مِّن نَّارٍ } . ثم اختلف في تأويل الشواظ والنحاس : عن ابن عباس - رضي الله عنه - : النحاس : الدخان . وقيل : الشواظ : هو لهب النار ، الذي لا دخان فيه ، والنحاس : هو الدخان . وعن الكلبي : الشواظ : لهب النار ، والنحاس : الصفر الذي يذاب ، فيعذبون به . وقيل : الشواظ : هو الذي فيه الدخان ، والنحاس : هو النحاس المعروف ، يذاب ويصب على رءوسهم . وقال الضحاك : الشواظ : الدخان الذي يخرج من اللهب ، ليس بدخان الحطب ، والنحاس : الصفر : فمن قرأ بالخفض يقول : لهب من نار ومن دخان ، ومن قرأ بالرفع أراد به الصفر ؛ يقول : يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس ذيب في النار . وقيل : النحاس في القراءتين يحتمل الدخان ، ويحتمل الصفر ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { فَلاَ تَنتَصِرَانِ } قيل : لا تمتنعان من ذلك . ويحتمل : أي : لا ناصر لكما كما يكون في الدنيا . فإن قيل : إنه قد ذكر في أول الآيات : الآلاء والنعم ، فقرن بآخرها : { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } ، وقد انقطع ذكر الآلاء هاهنا ، ونذكر المواعيد في هذه الآيات ، فما فائدة قران قوله : { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } بآخرها . قيل : إن في الوعد ترغيبا ، وفي الوعيد ترهيبا ؛ فيرغب في الوعد ، ويخاف ويرهب من الوعيد ؛ فيرتدع ويمتنع عما يوعد ؛ فيكون في ذلك نعمة عظيمة ؛ إذ بالوعد والوعيد تتم المحنة ، وبالمحنة تتم النعمة ؛ لذلك ذكر على إثر الوعيد : { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } .