Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 57, Ayat: 16-19)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - عز وجل - : { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ ٱللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ ٱلْحَقِّ } . { وَمَا نَزَلَ } قرئ مخففا ومثقلا ، فمن شدد شدد لما سبق من ذكر الله تعالى ، ومن خفف ، جعل الفعل للحق . ثم الآية تحتمل وجوها : أحدها : ما قال بعض أهل التأويل : إنها نزلت في المنافقين الذين أظهروا الإيمان ، وأضمروا الكفر ، { أَلَمْ يَأْنِ } ، أي : قد أنى للذين آمنوا ظاهراً وأظهروا الموافقة للمؤمنين { أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ ٱللَّهِ } ، أي : إذا ذكر الله { وَمَا نَزَلَ مِنَ ٱلْحَقِّ } ، أي : القرآن إذا يتلى عليهم ، أي : يرق قلوبهم وتؤمن به ؛ لأنهم كانوا يتربصون برسول الله صلى الله عليه وسلم الدوائر ، ويطمعون هلاكه ، أمّن الله تعالى المؤمنين من ذلك الخوف وآيس أولئك عما تربصوا فيه من نزول الدوائر ، فقال : { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوۤاْ } ظاهراً { أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ ٱللَّهِ } والقرآن ، وترق لذلك ، وتؤمن به ، والله أعلم . ثم قوله - عز وجل - : { وَلاَ يَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ ٱلأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ } . [ على ] هذا التأويل : أي : لا تكونوا كأولئك الذين تمادوا في الضلال وقساوة القلوب ؛ لما طال عليهم الوقت ، وتركوا النظر في الكتب . ويحتمل أن يكون الآية في أهل الكتاب الذين كانوا مؤمنين برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث فيقول : { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوۤاْ } به من قبل أن يبعث { أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ } أي كتابهم { وَمَا نَزَلَ مِنَ ٱلْحَقِّ } وهو القرآن أن يؤمنوا به ، كما كانوا آمنوا به لما وجدوا نعته في كتابهم . ثم قوله - عز وجل - : { وَلاَ يَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلُ … } الآية . أي : لا تكونوا كالذين كانوا من قبلكم من أهل الكتاب ، { فَطَالَ عَلَيْهِمُ ٱلأَمَدُ } أي : طال عليهم أن ينظروا في كتبهم ؛ { فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ } بطول ترك نظرهم فيها ، والله أعلم . ويحتمل أن تكون الآية في المؤمنين الذين حققوا الإيمان بالله ورسوله ، وهو يخرج على وجهين : أحدهما : { أَلَمْ يَأْنِ } ، أي : قد أنى للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم عند ذكر الله بالنظر والتأمل في ذلك ؛ فيحملهم ذلك على خشوع قلوبهم عند ذكر الله ، ويزداد لهم الإيمان واليقين ؛ للنظر فيه والتفكر ، وفهم ما فيه ، والله أعلم . والثاني : { أَلَمْ يَأْنِ } ، أي : قد أنى للذين آمنوا أن تقطع شهواتهم وأمانيهم في الدنيا ، وتخشع قلوبهم لذكر الله ، { وَلاَ يَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ } ، أي : لا تغفلوا عن كتاب الله وذكره ولا تتركوا النظر فيه والتفكر ، [ كالذين ] غفلوا عما فيه ؛ فقست قلوبهم فلا تكونوا أنتم كهم ؛ فتقسوا قلوبكم كما قست قلوبهم . وقوله - عز وجل - : { وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } ، أي : كثير من أولئك الذين أوتوا الكتاب فاسقون ؛ لتركهم النظر في الكتاب . وجائز { وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } أي : المعاندون ، والقليل منهم المقلدون ؛ وهو كقوله : { وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ } [ المؤمنون : 70 ] ، أي : معاندون ، وهم الرؤساء والقادة الذين كابروا الرسل وعاندوهم إلا قليل منهم اتبعوهم وقلدوهم . وقوله - عز وجل - : { ٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ يُحْيِـي ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } . ذكر هذا ليس على أنهم لم يكونوا علموا أن الله هو يحيي الأرض بعد موتها ، بل كانوا عالمين بذلك ، لكنه ذكر كما ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال : { فَٱعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ ٱللَّهُ } [ محمد : 19 ] ، أي : أشعر قلبك في كل وقت وساعة الربوبية لله تعالى والوحدانية له ؛ فعلى هذا يحتمل قوله : { ٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ يُحْيِـي ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } ، أي : أشعروا قلوبكم في كل وقت جعل الألوهية والربوبية لله تعالى ، وصرف العبادة إليه ، والتنزيه والتبرئة له عما لا يليق به مما يوصف به الخلق ؛ إذ علمتم أنه يحيي الأرض بعد موتها ، فاعلموا ، [ أنه ] يمتحنكم بأنواع المحن ؛ إذ لا يحتمل إحياء ما ذكر بغير فائدة وتركهم سدى . أو يقول : قد علمتم أن الله تعالى هو يحيي الأرض بعد موتها ، وأنتم ترغبون فيما أحياه ، وتصيبون منه ، وتجتهدون في نيل ذلك وإصابته ، فاجتهدوا في إصابة البركات الدائمة في الحياة الباقية . أو يقول : كما علمتم : أنه قادر على إحياء الأرض بعد موتها ، فاعلموا أنه قادر على البعث ، والله أعلم . وقوله : { قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ ٱلآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } قد ذكرنا فيما تقدم أن حرف " لعل " من الله تعالى يخرج على الإيجاب ، لكن يخرج هاهنا على الترجي وإطماع العقل للآيات والفهم لها إذا نظروا فيها وتأملوا أنها آيات من الله تعالى . أو أن يرجع ذلك إلى خاص من الناس لو خرج حرف " لعل " للإيجاب دون الترجي ، وهم الذين علم الله تعالى أنهم يعقلون أنها آيات ويؤمنون بها ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { إِنَّ ٱلْمُصَّدِّقِينَ وَٱلْمُصَّدِّقَاتِ } قرئ مشدد الصاد والدال ، ومخفف الصاد ، فمن شدده جعله من التصدق ، أي : المتصدقين والمتصدقات ، فأدغم التاء في الصاد ، فيصير المصَّدِّقين ، مثل : المزمل والمدثر ؛ يؤيد ذلك ما ذكر في حرف أبي بن كعب - رضي الله عنه - أنه قرأ بالتاء : { إن المتصدقين والمتصدقات } . ومن خففه ، جعلهما من التصديق والإيمان . وقوله : { وَأَقْرَضُواْ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ } . قد ذكرنا تأويله فيما تقدم . وقوله - عز وجل - : { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصِّدِّيقُونَ } ، سمى المؤمنين : صديقين ، والصديق لا يقال إلا لمن يكثر منه التصديق ، وقد يكثر من كل مؤمن التصديق وإن كان ما يأتي به إنما هو شيء واحد نحو إذا صدق الله - صدق رسله فيما أخبروا عن الله تعالى وفيما دعوهم إلى ما دعوا ، وبلغوا عن الله إلى الناس ، وصدق الخلائق جميعا فيما شهدوا على وحدانية الله تعالى وألوهيته من حيث شهادة الخلقة وشهادة الأخبار في حق المؤمنين ، فتصديقه يكثر ، وإن كان الكلام في نفسه يقل ، وهو كما قلنا لأبي حنيفة - رحمه الله - في جواز الخطبة بتسبيحة أو تهليلة : إنها كلمة وجيزة ، لو فسرت وبسطت ، صارت خطبة طويلة ، والله أعلم . فإن قيل : إن أبا بكر - رضي الله عنه - فضل باسم الصديق على غيره من الأمة ، فإذا استحق غيره من المؤمنين هذا الاسم لم يختص هو بتلك الفضيلة ؟ قيل : إن أبا بكر - رضي الله عنه - سمي : صديقا وخص به من بين سائر الصحابة والمؤمنين ؛ لمعنى اختص به من بينهم ، وغيره من المؤمنين سموا : صديقين من بين سائر أهل الأرض جميعا إلا في مقابلته ، كهو اختص بهذا الاسم من بين سائرهم إلا في مقابلة النبي وسائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، هذا هو معنى تفضيله ، والفضل عند المقابلة يكون . ويحتمل أن يكون ذلك الاختصاص له للاعتقاد والمعاملة جميعا وسائر المؤمنين سموا : صديقين ؛ للاعتقاد خاصة ، ومن وفى الأمرين جميعا كان أفضل من ممن وفى أمرا واحدا . وقوله : { وَٱلشُّهَدَآءُ عِندَ رَبِّهِمْ } من الناس . من جعل قوله : { وَٱلشُّهَدَآءُ عِندَ رَبِّهِمْ } على الابتداء مقطوعا من قوله : { أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصِّدِّيقُونَ } ، ومنهم من وصله به : فمن قطع عنه ؛ فإنه يقول : الشهداء هم الرسل ؛ لقوله تعالى : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَـٰؤُلاۤءِ شَهِيداً } [ النساء : 41 ] ، ثم أخبر أن لهم أجرهم . ومن قال إنه موصول ذهب إلى أن المؤمنين شهداء على الناس ؛ كقوله : { لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ … } الآية [ البقرة : 143 ] ، سماهم : شهداء على غيرهم من الأمم ، والله أعلم . ولأهل الاعتزال أدنى تعلق بظاهر هذه الآية ؛ وذلك لأنهم يقولون : إن الله تعالى إذا ذكر المؤمنين على الإطلاق ، ذكر على أثر ذلك ما وعد لهم من الكرامات والثواب الجزيل ، وإذا ذكرهم مع جريمتهم ذكر الوعيد لهم ، يستدلون بذكر الوعيد على أثر ذلك على أنه قد خرج من الإيمان ، لكن ليس لهم بذلك دليل وإنما ذكر مقابل ما ذكر للمؤمنين من الكرامات للكفار الجحيم ، والله أعلم .