Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 57, Ayat: 20-24)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله : { ٱعْلَمُوۤاْ أَنَّمَا ٱلْحَيَٰوةُ ٱلدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي ٱلأَمْوَٰلِ وَٱلأَوْلَٰدِ } . ففي ظاهر ما ذكر من هذه الآية ونحوها من الآيات لأهل الإلحاد طعن عظيم ؛ فإنهم يقولون : إن كانت الحياة الدنيا لعبا ولهوا ، فلم أنشأ الله تعالى لعبا ولهوا ولا منشئ سواه ؟ فلهم موضع الطعن على هذا الوجه ، ولهم دعوى التناقض - أيضا - فيه ؛ لما ذكر في بعض الآيات ، فقال : { وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَآءَ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَـٰعِبِينَ } [ الأنبياء : 16 ] ، وقال : { وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَآءَ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً } [ ص : 27 ] ، وقال في هذه الآية وغيرها : { أَنَّمَا ٱلْحَيَٰوةُ ٱلدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ } . فنقول : إن الآية تخرج على وجوه : أحدها : على التقديم والتأخير مع الإضمار : كأنه قال : اعلموا أن مثل الحياة الدنيا وزينتها وتفاخرها وتكاثرها ولعبها ولهوها ، أي : يتزينون بها ويتفاخرون بالأولاد والأموال ، ويتلهون بها ويلعبون - كمثل الغيث أعجب الكفار نباته ، ثم يصير ما ذكر حتى لا ينتفع به ؛ فعلى ذلك حياة الدنيا ، والله أعلم . والثاني : إنما الحياة الدنيا على ما هي عندكم ، وعلى ما اتخذتموها ، وعلى ما ظننتم : أنه لا بعث ولا حياة بعده - كان إنشاؤها عبثا ولهوا - إذ لو كان على ما ظنوا لم يكن إنشاؤها إلا للإفناء والإهلاك خاصة ، وبناء البناء المحكم للإفناء خاصة عبث وسفه ، ليس بحكمة ، وهو ما ذكر : { وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَآءَ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً } [ ص : 27 ] ، ذلك ظن الذين كفروا ، وكان ظنهم أن لا بعث ولا حياة بعده ؛ فعلى ما كان ظنهم ، كان إنشاؤها لعبا ولهوا ، فأما الحياة الدنيا على ما هي عند أهل التوحيد حكمة وحق وصواب ، وعلى ما كان عند أهل الإلحاد ، فهي سفه وباطل ، وقد رد الله عليهم بقوله : { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ } [ المؤمنون : 115 ] . وجائز أن يكون معنى قوله : { أَنَّمَا ٱلْحَيَٰوةُ ٱلدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ } ، أي : لو قوبلت بحياة الآخرة ، لكانت عبثا ولهوا ؛ لأن الدنيا بنيت على الفناء والانقطاع والزوال عن قريب ، والآخرة على الدوام والبقاء ، وهو ما ذكر : { قُلْ مَتَاعُ ٱلدُّنْيَا قَلِيلٌ وَٱلآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ ٱتَّقَىٰ } [ النساء : 77 ] ؛ لأنها باقية ، والدنيا فانية . أو يقول : إنما الحياة الدنيا للدنيا خاصة لعب ولهو ، أي : من جعل الحياة الدنيا للدنيا خاصة تكون لعبا ولهوا ، ومن جعل الحياة الدنيا زادا للآخرة وبلغة إليها ، فهي ليست بلعب ، وهو ما قال تعالى : { مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَـٰذِهِ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ } [ آل عمران : 117 ] ، أخبر أن الإنفاق للدنيا كمثل ريح فيها صر ، [ وقال ] في النفقة التي تكون في الدنيا لحياة الآخرة : { مَّثَلُ ٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ … } الآية [ البقرة : 261 ] ، والله أعلم . وقوله : { كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ ٱلْكُفَّارَ نَبَاتُهُ } . والإشكال : أنه كيف خص الكفار بعجبهم ظاهر ذلك النبات وقد يعجب النبات لأهل الإيمان ؟ فنقول : لأن الكفار يعجبهم ظاهر ذلك النبات وما يرون من النزهة ، لا يرون إلى ما ضمن في ذلك النبات وجعل فيه من المنفعة في العاقبة لكن ينظرون إلى ظاهره ، وأما المؤمنون إنما يعجبهم ما في ذلك النبات من المنفعة في العاقبة ، وإلى ذلك يكون نظرهم لا إلى ظاهره ، وهو كما شبه إنفاق الكفرة بالريح التي فيها صر يصيب حرث قوم ؛ لما لا يقصدون بإنفاقهم سوى نفس الإنفاق ، وشبه نفقة أهل الإيمان بالحبة التي تنبت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة ؛ لما كان مقصدهم في الإنفاق عاقبته ، لا عين الإنفاق . ويحتمل أن يكون المراد من الكفار الزراع ، وبه فسر بعض أهل الأدب ؛ وهو كقوله : { يُعْجِبُ ٱلزُّرَّاعَ … } [ الفتح : 29 ] فعلى هذا التأويل ، رجع إلى الكل ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَفِي ٱلآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ } ، أي : لهؤلاء الذين اتخذوا الدنيا لعبا ولهوا ، وصيروها تفاخرا وتكاثرا دون أن يتخذوها زادا وبلغة إلى الآخرة . وقوله : { وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَٰنٌ } ، فهو للمؤمنين [ الذين ] اتخذوا الحياة الدنيا للآخرة ، وعقلوا الآيات التي بينها لهم ؛ للنظر فيها والتفكر والتأمل فيها ، ووضعوها مواضعها ، والله أعلم . وقوله : { وَمَا ٱلْحَيَٰوةُ ٱلدُّنْيَآ إِلاَّ مَتَٰعُ ٱلْغُرُورِ } هو يخرج على الوجوه التي ذكرنا في قوله : { أَنَّمَا ٱلْحَيَٰوةُ ٱلدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ } . قال الإمام الهندي - رضي الله عنه - في قوله : { وَمَا ٱلْحَيَٰوةُ ٱلدُّنْيَآ إِلاَّ مَتَٰعُ ٱلْغُرُورِ } : إن الحياة الدنيا وحبها لنفسه وعلى ما أنشئت وجعلت له - حكمة وحق وسرور ليس بغرور ، وأما اختيارها وحبها لغيره واستعمالها لغير الذي أنشئت وجعلت - غرور ولعب ولهو ؛ لأن من أحب شيئا استكثر منه ، وحبسه لنفسه ، وحفظه من نقصه وضياعه ، واستبقاه لوقت حاجته ويوم فقره ؛ فعلى ذلك من جمع الدنيا لنفسه وأحبها واستعملها فيما أذن له ، وهو أن يجعلها زادا للآخرة وبلغة إليها ، فإذا علم ذلك استكثر منها عند الله ليوم فاقته ، فمن أحبها واختارها لهذا ، فليس بغرور ، ولا لعب ، بل سرور وبهجة ، ومن طلبها لغيره واستعملها في غير ما أنشئت ، كان غرورا ولعبا ، على ما ذكر في قوله : { وَمَا ٱلْحَيَٰوةُ ٱلدُّنْيَآ إِلاَّ مَتَٰعُ ٱلْغُرُورِ } على ما يختارون هم ويحبونها ؛ وذلك أن الله تعالى أنشأ لنا هذه النعم ؛ حيث قال : { هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً } [ البقرة : 29 ] ، وقال : { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ } [ الجاثية : 13 ] ، يجب أن ينظر إلى ذلك بالتعظيم لها والإجلال ، وليس الاستخفاف والهوان ؛ ألا ترى أن ملكا من ملوك الأرض لو أكرم أحداً بكرامة وأهداه بهدية ، ثم علم منه الاستخفاف بها ؛ فإنه يسلب منه هديته ويستحقره ؛ فعلى ذلك يجب أن نتلقى نعمة الله تعالى بالتعظيم والتبجيل والقبول الحسن ، لا على الاستخفاف بها والإهانة . ثم الناس بعد هذا رجلان : رجل يرغب في نعمة الدنيا وجمعها ، وجعلها عند الله ذخراً وزادا لوقت فقره وحاجته . ورجل : زهد فيها ؛ خوفا [ من ] التقصير في عبادة الله تعالى في حقوقه أن يشتغل بها ، ويمنعه ذلك عن أداء حقوقه والاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما أمره ، وله أسوة حسنة بنبيه صلى الله عليه وسلم . وأما من ترك الدنيا وما أنشأ الله تعالى فيها من النعم ؛ استخفافا بها وهوانا ، فهو الجاهل المستخف بنعم الله تعالى الغافل عما أنشئت له الدنيا [ وما ] فيها ، فهذا والذي طلب الدنيا للدنيا مذمومان ، والذي طلبها لنفسه زادا للآخرة والذي زهد فيها محمودان ، والله أعلم . وعلى ذلك يخرج " إن حب الدنيا رأس كل خطيئة " : أن من أحبها لغيره ولغير الذي جعلت له تكون رأس كل خطيئة ، ومن أحبها لنفسه ، واتخذها زادا للآخرة ، فهي رأس كل حسنة وطاعة ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { سَابِقُوۤاْ إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ } يقول : اجعلوا المسابقة فيما بينكم في مغفرة ربكم إلى الجنة ، لا إلى جمع الأموال والأولاد ، وكان أهل الكفر جعلوا المسابقة في الدنيا في جمع الأموال والتفاخر والتكاثر بها ، فيقول لأهل الإيمان : اجعلوا أنتم المسابقة في طلب مغفرة الله وجنته ، والله أعلم . ويحتمل تسبقون آجالكم بأعمالكم التي توجب لكم المغفرة والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ … } الآية ، ذكر سعة الجنة ؛ لأن العرض إنما يذكر لسعة تكون للشيء ، وقد ذكر سعتها فيها ؛ حيث قال : { وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ } [ الواقعة : 32 - 33 ] وقال - تعالى - : { وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ ٱلأَنْفُسُ وَتَلَذُّ ٱلأَعْيُنُ } [ الزخرف : 71 ] ، ونحو ذلك ؛ ذكر ما فيها من السعة وسعتها ، والله أعلم . ثم ذكر عرضها كعرض السماء والأرض ، وهو يخرج على التحديد والتقدير : أن عرضها مثل عرض السماوات والأرض ، لكن لما لا شيء أوسع في أوهام الخلق مما ذكر ، وهو كقوله : { خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلأَرْضُ } [ هود : 107 ] ، ذكر دوامهما ؛ [ لما ] لا شيء أبقى وأدوم منهما في الأذهان ، وإلا كانتا تفنيان . ويحتمل أن يقول : { عَرْضُهَا كَعَرْضِ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ } ، أي : تصير السماوات والأرض جميعا جنة لهم . ثم وصف الجنة بالسعة ، ووصف النار بالضيق ، حيث قال : { وَإَذَآ أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُّقَرَّنِينَ دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً } [ الفرقان : 13 ] ، وذلك أنه ليس في فضل النار على قدر المجعول الذي يصل إلى المعذب بها فائدة [ فلذلك ] تضيقت ، ولفضل الجنة على قدر الحاجة لذة وسرور ومنفعة ؛ فوسعت لذلك ، والله أعلم . ثم أخبر أنها أعدت للذين آمنوا بالله ورسوله ، والإيمان بالله - تعالى - : هو أن يصدق كل شيء يشهد على وحدانيته وألوهيته ، والإيمان برسله : هو أن يصدقهم فيما أخبروا عن الله تعالى ، وكل صاحب كبيرة مصدق بالذي ذكرنا ، فهو مؤمن ؛ وذلك على المعتزلة ؛ لقوله - عز وجل - : { ذَلِكَ فَضْلُ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ } ؛ دلت الآية [ على ] أن ما يعطي من الثواب لعبيده فضل منه وإن سماه : جزاء ، وأجرا ؛ لأنه قد سبق منه إليهم من الإحسان والنعم ما يصير تلك الأفعال - وإن كثرت - شكرا لأدنى نعمه ، وإن طال عمره ، فأنى يستوجب الشكر والثواب على تلك الأعمال ثوابا وجزاء ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِيۤ أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَٰبٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ } ، أي : ذكرها في كتاب ، كان ذلك الكتاب قبل أن نبرأ المصائب ، أي : نخلقها ؛ إذ لا يحتمل كون أنفس تلك المصائب في الكتاب قبل خلقها ؛ فدل على كون ذكر المصائب فيه ، وهو كقوله : { وَٱلشَّجَرَةَ ٱلْمَلْعُونَةَ فِي ٱلقُرْآنِ } [ الإسراء : 60 ] ، [ وليست الشجرة في القرآن ] ولكن ذكرها فيه من ذلك ما روي في الخبر أنه " نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو " ، أي : نهى أن يسافر الذي كتب فيه القرآن ، وإلا لم يكن عين القرآن في ذلك المصحف ؛ فعلى ذلك ما ذكر من المصائب ، وذلك يخرج على المجاز دون الحقيقة ، والله أعلم . ثم اختلف في قوله : { مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ } : منهم من قال : من قبل أن نخلق تلك المصائب . ومنهم من قال : من قبل أن نبرأ تلك الأنفس والأرض ؛ والأول [ أصح ] . وقوله : { إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ } يخرج على وجهين : أي : كثرة ما يصيب الخلق في أنفسهم وأموالهم يسير على الله ، غير شديد عليه ، ليس كملوك الأرض ؛ لأن ما يصيب حشمهم وخدمهم من المصائب يشتد عليهم ؛ لما أن قوامهم بحشمهم وخدمهم ، ولهم منافع فيهم ، والله يتعالى بذاته ، ليس له في بقاء الخلق منفعة ، ولا في ذهابهم وفنائهم ضرر ، فذلك يكون عليه يسير . والثاني : أن كتابه لم يكن بعد ولم يخلق ، وعلمه قبل كونه على الله يسير هين ، يخبر أنه عالم في الأزل بكون الأشياء في أوقاتها ، لا يصعب عليه ، ولا يشتد العلم بها قبل كونها وقبل ظهورها كما يشتد على الخلق ويصعب عليهم ، والله أعلم . وفي الآية دلالة خلق أفعال العباد ؛ لأن اسم المصائب يقع على ما للخلق فيه صنع كما يقع على ما لا صنع لهم فيه ، ثم أضاف الله تعالى خلقها إلى نفسه مطلقا بقوله : { مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ } ، دل أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى ؛ ألا ترى أن الله تعالى سمى ما يصيب بأيدي الخلق : مصيبة ، فقال { هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَّ إِحْدَى ٱلْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ ٱللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا } [ التوبة : 52 ] ، وقال في آية أخرى : { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ ٱللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ … } [ التوبة : 14 ] الآية . قالت المعتزلة : يقال : أصابنا كذا فيما لا صنع للخلق في ذلك ، فأما ما [ فيه ] صنع للخلق يقال : " أصبنا " . لكن هذا فاسد ؛ فإنه جائز أن يقال في كل ما أصابك : أصبته ، وما أصبته أصابك ؛ لأنه إذا أصابك شيء فقد أصبته ، وذلك جائز في اللغة ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ } ، جعل الله تعالى في طباع الخلق الحزن والأسى على ما فاتهم من النعمة وما ينزل بهم من البلاء والشدة ، والسعة والفرح والسرور بما ينالون من النعمة ، هذا هو المنشأ والمجعول في طباعهم . ثم يخرج تأويل الآية بالنهي عن الأسى والحزن بفوت النعمة ، وعن الفرح والسرور عند إصابتها على وجوه : أحدها : يقول - والله أعلم - لكيلا تستكثروا من الأسى والحزن على ما فاتكم ، فيحملكم ذلك على الشكوى من الله تعالى ، { وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ } أي : لا تستكثروا [ من ] الفرح والسرور حتى يحملكم ذلك على الطغيان والعدوان ، كما ذكر في الخبر : " أعوذ بالله من الفقر المنسي والغناء المطغي " ، والله أعلم . والثاني : يقول : لكيلا يشغلكم الأسى والحزن على ما فاتكم من النعمة حتى يفوتكم أضعاف ذلك ، وهو ما وعد لهم من الثواب إذا صبروا ؛ كقوله تعالى : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ ٱلْخَوْفِ وَٱلْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ ٱلأَمَوَالِ وَٱلأَنفُسِ وَٱلثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ ٱلصَّابِرِينَ } [ البقرة : 155 ] ، ثم قال : { أُولَـٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُهْتَدُونَ } [ البقرة : 157 ] ، يقول : لا يشغلكم الجزع وترك الصبر عمَّا وعد لكم من الصلاة والرحمة والاهتداء ؛ ولذلك الجزع في المصيبة أعظم المصيبتين ، ويقول - أيضا - : ولا يشغلكم شدة الفرح والسرور بما آتاكم عن الشكر حتى تفوتكم الزيادة على ذلك ؛ لأن الله تعالى وعد الزيادة على النعمة إذا شكر بقوله : { لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ } [ إبراهيم : 7 ] ، والله أعلم . والثالث : يقول : لا تأسوا على ما فاتكم ، ولكن انظروا إلى ما كان منكم من الجريمة حتى فاتكم ذلك ؛ حيث قال : { وَمَآ أَصَـٰبَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } [ الشورى : 30 ] يقول : لا تأسوا على ما فاتكم ، ولكن انظروا إلى تفريطكم في جنب الله ، وارجعوا عن ذلك ؛ وكذلك يقول : لا تفرحوا بما آتاكم ، ولكن انظرو إلى إحسان الله الذي كان إليكم ، والله أعلم . ويحتمل : أن يقول : { لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ } ، ولكن انظروا إلى ما امتحنكم به وابتلاكم ؛ إذ هو امتحن بعضا بالشدائد والبلايا ، وأمرهم بالصبر على ذلك ، وبعضا بالسعة والرخاء ، وأمرهم بالشكر على ذلك ، فاصبروا ولا تجزعوا إن فاتكم النعم وأصابتكم المصائب ، واشكروا له ، ولا تفرحوا عند النعم فرحا يكون بطرا وأشرا . أو يقول : لا تأسوا على ما فاتكم ؛ فإن الذي أخذ من النعم لم يكن في الحقيقة لكم ، إنما هو لغيركم ، ومن كان عنده مال لآخر فأخذه لا يجب أن يحزن على ذلك ، ولا تفرحوا بما آتاكم ، فإن النعم التي آتاكم يجوز أن تكون لغيركم لا لكم ، والله أعلم . وقوله : { وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ } قرئ ممدوداً ومقصورا ، فمن مده ، رد الفعل إلى الله تعالى ، ومن قصره جعل الفعل لذلك الشيء ؛ لموافقة قوله : { عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ } ، ولم يقل : أفاتكم . وقوله : { وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } ، ولكن يحب ضد ذلك وخلاف المختال المتكبر ، فيحب المتواضع الخاضع . والفخور هو الذي يفتخر بما أنعم الله عليه على الناس ، فيحب الذي يشكره على نعمه بالتوسيع على عباده . وجائز أن يكون هذا كله وصف الكفار ؛ كأنه يقول : لا يحب كل كفار ؛ كقوله : { صَبَّارٍ شَكُورٍ } [ إبراهيم : 5 ] ، أي : يحب المؤمن ؛ لأن المؤمن يكون صبارا على المصائب ، شكورا لنعمائه ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبُخْلِ } جائز أن يكون هذا صلة قوله : { لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } تفسيرا له . وجائز أن يكون على الابتداء ، وهو كقوله : { وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ * ٱلَّذِينَ يَحْمِلُونَ ٱلْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ } [ غافر : 6 - 7 ] كأن قوله تعالى : { ٱلَّذِينَ يَحْمِلُونَ ٱلْعَرْشَ } [ غافر : 7 ] مفصول من الأول ، وكذلك هذا . ثم قوله : { يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبُخْلِ } يحتمل ما ذكر من بخلهم في آية أخرى ، فقال : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱلله قَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَآءُ ٱللَّهُ أَطْعَمَهُ } [ يس : 47 ] بخلوا بالإنفاق على المؤمنين ، أو بخلوا بالإنفاق على أتباعهم ؛ ليبقى الكرم والرياسة عليهم . وجائز أن يكون ما ذكره بعض أهل التأويل أن ذلك نزل في الرؤساء من أهل الكتاب ؛ بخلوا ببيان صفة محمد صلى الله عليه وسلم التي كانت في كتبهم ، وأمروا أمثالهم وأشكالهم بكتمان ذلك ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْغَنِيُّ ٱلْحَمِيدُ } ، أي : ومن يعرض عن ذلك فالله هو الغني الحميد ؛ الغني عن عبادتكم وعما دعاكم إليه ؛ إذ لم يدعكم إلى ما دعاكم لحاجة نفسه ؛ إذ هو الغني بذاته ، الحميد بفعاله ؛ أي : بما علم منكم من الرد لرسالته لا يخرج فعله من أن يكون محمودا ، ولا يصير لفعله إلى أعدائه بما صنع غير حميد ، والله أعلم . ثم في قوله : { لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ } وجوه أيضا : أحدها : أن المصائب ربما تجري على أيدي الناس وتصيبهم منهم ، فقال : { لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ } ما جرى ذلك على أيدي الناس ؛ لأنه لا يزول منهم ؛ فيحملهم ذلك على العداوة والبغضاء ، ولكن يرون ذلك مكتوبا عليهم من الله تعالى ، وكذلك ما ذكر فيما يؤتيهم من النعم على أيدي الخلق ، فلا يزال ذلك منهم ؛ فيشغلهم عن القيام بشكر الرب - جل وعلا - ولكن يرونه من فضل الله تعالى ومنه فيشكرونه . والثاني : يحتمل : أن يكون النهي عن الحزن أمرا بالفرح ؛ أي : لا تأسوا على ما فاتكم ، ولكن افرحوا بالعمل الذي يأتيكم ؛ فإنهم لو لم يفتهم لكان يشغلهم عن القيام بحقوق الله تعالى وأداء ما عليهم من الفرائض ، والله أعلم . وفي قوله - تعالى - : { وَلاَ تَفْرَحُوا } أمر بالحزن ، وقد يذكر الشيء ويراد به إثبات ضده ؛ كقوله تعالى : { فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ } [ البقرة : ِ 16 ] ، أي : خسرت تجارتهم ، وينبغي أن تتلقى نعم الله تعالى على وجهين : أحدهما : بحسن القبول لها والتعظيم والشكر للمنعم ؛ إذ أغناه بذلك عن النظر لما في أيدي الناس ورفع الحاجة ، وذلك من أعظم [ النعم ] . والثاني : يخاف ؛ لما لعله فعل ذلك به استدراجا وامتحانا ؛ إذ الأموال ربما تكون فتنة وبلاء أو تشغله عن أداء ما عليه إن كان ذلك سبب استدراجه وبلائه ، فأخذ منه . أو لما يصل بذهابه إلى أداء الفرائض من العبادات ، وكان ذلك يمنعه . ويحزن من وجهين أيضا : أحدهما : لما لعل قوته يحوجه إلى ما في أيدي الناس ، وكان غنيا عنهم . أو لما لعل ذلك عقوبة لتفريط كان منه ؛ كقوله : { وَمَآ أَصَـٰبَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } [ الشورى : 30 ] ، والله أعلم . ثم أضاف ما نالوا من النعم إلى نفسه حيث قال : { وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ } ، ولم يضف ما فاتهم إلى نفسه ، وهو كما قال في آية أخرى : { مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ } [ النساء : 79 ] ، وهو ما ذكرنا أنه جائز أن يكون ما يفوتهم من النعم باكتساب وسبب كان منهم ، والله أعلم .