Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 58, Ayat: 14-22)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - عز وجل - : { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ تَوَلَّوْاْ قَوْماً غَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلاَ مِنْهُمْ } . يذكر سفه المنافقين لرسول الله صلى الله عليه وسلم لتوليهم قوماً غضب عليهم ، على ما علم منهم أن الله - تعالى - قد غضب عليهم ؛ لكنهم تولوهم طمعا منهم في أموالهم وفيما كان عندهم من السعة وفضل الدنيا ، ثم أخبر أنهم ليسوا منكم ، أي : ليسوا على دينكم ، ولا أنتم منهم ، أي : على دينهم ، أي : أولئك اليهود ؛ لكنهم يتولونهم طمعاً فيما عندهم من فضل الدنيا . { وَيَحْلِفُونَ عَلَى ٱلْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } . كأنه قيل لهم : لم توليتم قوماً غضب الله عليهم ؟ ! فحلفوا أنهم لم يتولوهم ؛ فأخبر أنهم كاذبون في حلفهم . وفيه دلالة إثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم لأنهم تولوا اليهود سرّاً من المؤمنين ، وحلفوا كذباً ، فأخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوليهم وكذبهم في الحلف ؛ دل أنه - عليه الصلاة والسلام - عرف ذلك بالوحي ثم أخبر ما أعدّ لهم في الآخرة بتوليهم أولئك وحلفهم بالكذب ، فقال : { أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } . أي : قد أساءوا إلى أنفسهم بعملهم الذي عملوا في الدنيا . وقوله - عز وجل - : { ٱتَّخَذْوۤاْ أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً } . أي حلفهم الذي حلفوا : إنهم لم يتولوا أولئك اليهود جنة . { فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } . يحتمل : صدوا أنفسهم عن سبيل الله ، أو صدوا الناس عن سبيله بما ذكر . { فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ } . أي : يهانون في ذلك العذاب . وقوله - عز وجل - : { لَّن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ مِّنَ ٱللَّهِ شَيْئاً } . يخبر أن أموالهم التي لأجلها تولوا اليهود وعاندوا المؤمنين لا تغنيهم تلك الأموال من عذاب الله شيئاً إذا نزل بهم ، ثم أخبر عن شدة سفههم أنهم يحلفون في الآخرة كما يحلفون لكم في الدنيا بقوله : { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ ٱللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ } . ثم فيه أن الآية لا تضطر أحداً إلى الإيمان به والتوحيد ؛ لأن الآية [ ليست ] أعظم من قيام الساعة ، ثم لم يمنعهم ذلك عن الكذب والكفر به ، ولا اضطرهم إلى الإيمان به ، وكذلك قوله : { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَٱللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 23 ] في الدنيا ؛ فإذا كان ما ذكرنا ، كان تأويل قوله : { إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ } [ الشعراء : 4 ] ، وقوله - تعالى - : { وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ ٱلْمَلاۤئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ ٱلْمَوْتَىٰ وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُوۤاْ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ } [ الأنعام : 111 ] : أنهم يؤمنون إذا شاء الله ، ولا يؤمنون ، وإن نزل عليهم الآيات التي ذكر ، ولا آية أعظم مما ذكر من إنزال الملائكة ، وإحياء الموتى ، وتكليمهم أنهم على الباطل ، وأن الحق هو الذي دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه ؛ دل هذا كله أن الآية لا تضطر أهلها على الإيمان ، والله أعلم . وقوله : { ٱسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ ٱلشَّيْطَانُ } . قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : { ٱسْتَحْوَذَ } ، أي : غلبهم الشيطان . وقال مقاتل : أي أحاط بهم . وقال الزجاج والقتبي : أي : استولى عليهم . وذلك كله يرجع إلى معنى واحد ، وفيه أن الشيطان قد سلط عليهم حتى غلب عليهم بإجابتهم بما دعاهم إليه من معاداة الله ورسوله والمؤمنين ، ولكن سلطانه على ما ذكر ، وهو قوله : { إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَىٰ ٱلَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ } [ النحل : 100 ] فعليهم إذا عملوا بما أراد وأجابوه إلى ما دعا . وقوله - عز وجل - : { فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ ٱللَّهِ } . يحتمل : أي : أنساهم عظمة الله ، أو نعم الله وإحسانه ، أو شكر نعمه . وقوله - عز وجل - : { أُوْلَـٰئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ } . الحزب هو جمع الفرق ؛ تحزبوا ، أي : تفرقوا ، فحزبه هو جنده كما قال أهل التأويل ؛ لأنهم يصيرون فرقاً ، ثم يجتمعون ، فيكونون جندا له ، وجند الرجل هم الذين يستعملهم فيما شاء من القتال وغيره ، ويصدرون لرأيه ؛ فعلى ذلك أولئك الكفرة هم جنده . وقوله - عز وجل - : { أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ } . لأنه مناهم في الدنيا أمورا ، وأملهم تأميلا فيما اتبعوه ، فلم يصلوا إلى شيء من ذلك ، وفي الآخرة بقوله : أن لا بعث ولا جنة ولا نار ، ولهم فيها عذاب ؛ فخسروا الدارين جميعاً . وقوله - عز وجل - : { إِنَّ الَّذِينَ يُحَآدُّونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـٰئِكَ فِي ٱلأَذَلِّينَ } . قيل : في الأسفلين ، وقيل : في المهزومين ، وقيل : في الآخرين ، وقيل : هو في الآخرة ؛ كقوله - تعالى - : { وَٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } [ البقرة : 212 ] ، وأما في الدنيا فربما يكونون هم الغالبين . ومنهم من يقول : ذلك في الدارين جميعاً هم الأذلاء ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { كَتَبَ ٱللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِيۤ } . أي : قضاء الله لأغلبن ، ثم قال بعضهم : ليغلبن محمد صلى الله عليه وسلم كقوله - تعالى - : { هُوَ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِٱلْهُدَىٰ وَدِينِ ٱلْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِ } [ التوبة : 33 ] ، وفعل ذلك . وجائز أن يكون المراد منه جملة رسله ؛ كقوله - تعالى - : { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ٱلْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ ٱلْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلْغَالِبُونَ } [ الصافات : 171 - 173 ] ، وقوله - تعالى - : { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ } [ غافر : 51 ] ، ثم الغلبة قد تكون من وجهين : أحدهما : بالحجج والبراهين ، وما من رسول إلا وقد غلب على خصمائه بالحجة . والثاني : بالقتال والحرب ، وكانت العاقبة للرسل - عليهم السلام - لما لم يذكر أنه قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والله أعلم . وإضافة الغلبة إلى نفسه ؛ على إرادة الرسل [ و ] أوليائه ؛ على ما ذكرنا في غير موضع . وقوله - عز وجل - : { إِنَّ ٱللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } . قوي بذاته ؛ لأنه يكون قوة من دونه ، وكذلك كل من دونه بتكوينه . أو يكون فيه بشارة لأوليائه أنه قوي عزيز بذاته : أنه ينصرهم على أعدائهم ويقهرهم . وقوله - عز وجل - : { لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ ٱللَّهَ … } الآية . قال عامة أهل التأويل : " نزلت في حاطب بن أبي بلتعة ؛ لأنه كان كتب إلى أهل مكة : إن رسول الله يقصد إليكم ؛ فخذوا حذركم ، وكان له بمكة أهل ؛ فأراد أن يكون له عندهم يد ، فشعر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " ما حملك على هذا ؟ " فقال ما ذكرنا " ؛ فنزلت الآية فإن كان نزولها فيه على ما ذكروا فهي براءته من وجهين : أحدهما : أنه لم يرجع عن الإيمان والتصديق لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنه لا يعود إلى مثله بعد ذلك أبداً . والثاني : أنه لم يقصد بصنيعه مودتهم ؛ ولكن قصد إلقاء المودة إليهم ؛ ليقع عندهم أنه وادهم ، وهو في الحقيقة يلقي المودة ، وقد يكون ذلك كقوله - تعالى - : { تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِٱلْمَوَدَّةِ } [ الممتحنة : 1 ] ، والله أعلم . وإن كانت الآية في غير حاطب فهي للمؤمنين الذين حققوا الإيمان بالله - تعالى - وثبتوا عليه ؛ لأن أهل الإيمان كانوا أصنافاً ثلاثة : صنف محققون ، وصنف يظهرون القتال مع أعدائهم ، وصنف منهم لا يقدرون على إظهار ذلك والمناصبة معهم ، ولكن يتبعون الأقوياء منهم فأهل الصنف الثالث مترددون يوادون الكفرة في السر ، ويظهرون الموافقة للمؤمنين ؛ فجائز أن يكون قوله - تعالى - : { لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ } ، أي الذين يحققون الإيمان بالله - تعالى - واليوم الآخر [ لا ] { يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ ٱللَّهَ } ؛ ولكن إنما يوادهم من لم يحقق الإيمان ؛ فيكون فيه إخبار عن إثبات الإيمان في قلوبهم كقوله - تعالى - : { أُوْلَـٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلإِيمَانَ } ، أي : أثبت في قلوبهم الإيمان ؛ فلا يرجعون عنه ، وفيه أن الإيمان موضعه القلب . وفي حرف ابن مسعود - رضي الله عنه - : { ما كان لقوم يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يوادوا من حاد الله } وقوله - عز وجل - : { وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ } . قيل : أيدهم بنور الإيمان الذي أثبت في قلوبهم ، وأخبر - عز وجل - أنه أثبت المؤمنين على الإيمان { يُثَبِّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱلْقَوْلِ ٱلثَّابِتِ } [ إبراهيم : 27 ] ، وقال : { كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ } [ إبراهيم : 24 ] . وقيل : { وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ } ، أي : برحمة منه . ثم وصف ما أعد الله تعالى لهم في الآخرة فقال : { وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ أُوْلَـٰئِكَ حِزْبُ ٱللَّهِ } . أي : جند الله ، على ما ذكرنا : أنهم يأتمرون بأمره ، ويقاتلون أعداءه ، ويوالون أولياءه ؛ فهم جند الله تعالى . وقوله - عز وجل - : { أَلاَ إِنَّ حِزْبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } . قيل : هم الناجون ، وقيل : الباقون في نعم الله - تعالى - والله أعلم بالصواب .