Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 59, Ayat: 1-6)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - عز وجل - : { سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ } . قد سبق تأويل التسبيح وبيان وجوهه . وقوله : { وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } . العزيز : هو الغالب القاهر ، وقيل : هو العزيز ؛ حيث جعل في كل شيء من خلقه أثر الذل والحاجة ، وقوله : { ٱلْحَكِيمُ } له أحد معنيين : معنى الإحكام ومعنى الحكمة : فأما معنى الإحكام فهو أنه أحكم الأشياء على اختلافها وتضادها ؛ حيث تشهد له بالوحدانية فهو حكيم ؛ حيث وضع الأشياء مواضعها ، وخلق الأشياء مواضع . ثم الأصول التي يتولد منها هذه الأشياء والأفعال ثلاثة : الكيانات والطبائع والعقول : أما الكيانات : فنحو النطفة أنها بحيث تصلح أن يكون منها البشر إذا اتصلت بها موادها ، ونحو الماء فإنه بحيث يحيا به كل شيء ، وبحيث يصلح به كل شيء . والطبائع : حيث خلق في البشر ، وهي ما يميلون بها إلى المحاسن والمنافع ويحترزون من المساوي والمضار . والعقول : ليدركوا بها العواقب ، ثم إنه علمهم الوجوه التي تتولد من هذه الأشياء ؛ فهو حكيم حيث خلق الأصول التي وصفنا ، وعلم عباده الأسباب التي بها يولدون ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { هُوَ ٱلَّذِيۤ أَخْرَجَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ ٱلْحَشْرِ } هم بنو قريظة ، وقال غيره من المفسرين : هم بنو النضير وهو أقرب . ثم المعنى في إضافة الإخراج إليه يخرج على وجهين : أحدهما : أنه اضطرهم إلى الخروج فنسب الإخراج إليه ؛ كما قال الله - عز وجل - : { إِذْ أَخْرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ … } الآية [ التوبة : 40 ] . والثاني : أنه خلق الخروج من ديارهم منهم ؛ فأضيف إليه بحكم الخلق ، ثم الأصل في إضافة الفعل إلى الله تعالى أنه يجوز أن يضاف إليه على التحقيق وعلى التسبيب ، وأما الخلق قلما يضاف الفعل إليهم على جهة التسبيب لا على التمكين ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { لأَوَّلِ ٱلْحَشْرِ } . اختلفوا فيه : قال بعضهم : أول الحشر الجلاء إلى الشام ، والحشر الثاني : حشر القيامة . وقال بعضهم : أول الحشر حشر أهل الكتاب وجلاؤهم من جزيرة العرب ، والحشر الثاني : حين أجلاهم عمر - رضي الله عنه - إلى الشام . وقوله - عز وجل - : { مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ } أي : ما ظننتم أيها المؤمنون أن تنتصروا منهم ، فضلا عن أن يخرجوا من ديارهم ، ولكن ذلك من لطف الله ومنته عليكم . وقوله - عز وجل - : { وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ ٱللَّهِ } . لا يحتمل أن يتوهم أحد هذا ، والمعنى في ذلك عندنا وجهان - والله أعلم - : أحدهما : أنهم ظنوا أن الله - تعالى - حيث آتاهم القوة والحصون لا يبلغ بهم حكمه المبلغ الذي يخرجون من ديارهم ؛ لأنهم كانوا أهل كتاب وكانوا يزعمون أنهم أولى بالله من غيرهم كقوله : { نَحْنُ أَبْنَٰؤُاْ ٱللَّهِ وَأَحِبَّٰؤُهُ } [ المائدة : 18 ] ، ويكون قوله : { مِّنَ ٱللَّهِ } ، أي : بالله وبأمره ؛ كقوله - تعالى - : { لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ } [ الرعد : 11 ] ، أي : بأمر الله ؛ فعلى ذلك ، الأول . والثاني : أي : ظنوا أن حصونهم وقوتهم تمنعهم من أولياء الله أن يظهروا عليهم ، أو من دين الله أن يظهر فيهم ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { فَأَتَاهُمُ ٱللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ } . يعني : أنه قذف في قلوبهم الرعب من حيث لم يحتسب المؤمن ولا الكافر ؛ لأن المسلمين لم يظنوا أن يقهروهم ويغلبوهم ؛ مع قلة عددهم وكثرة عدد أولئك ، وكذا لم يحتسب الكفرة أنهم مع قوتهم وقوة حصونهم يقهرون ويغلبون ، حتى منّ الله - تعالى - على المؤمنين بأن قذف الرعب في قلوب الكفرة ، ذلك لطف عظيم من الله - تعالى - إلى المؤمنين ، والله أعلم . ثم الأصل فيما خرج هذا المخرج من نحو قوله - عز وجل - : { فَأَتَى ٱللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِّنَ ٱلْقَوَاعِدِ } [ النحل : 26 ] ، ومن نحو قوله تعالى : { وَجَآءَ رَبُّكَ وَٱلْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً } [ الفجر : 22 ] ، ومن نحو قوله - عز وجل - : { إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ ٱللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ ٱلْغَمَامِ } [ البقرة : 210 ] ، وما يشاكله أن نحمله على أحد معان ثلاث : أحدها : أن نقول : المراد إتيان آثار فعل الله - تعالى - ويجوز أن يضاف إليه سبيل إضافة حقيقة العمل ؛ كما يقال : الصلاة أمر الله ، ونحن نعلم أنها ليست بعين أمر الله ؛ لكنها أثر أمر الله - تعالى - وكذلك يقال : المطر رحمة الله - تعالى - يعني : أثر رحمته ؛ فكذلك إذا نزل بهم آثار حكم الله - تعالى - وتدبيره وفعله : وهو العذاب جاز أن يضاف إليه إضافة حقيقة الفعل ، والله أعلم . والثاني : أن يقال بأن ما كان من هذه الأفعال موصولا بصلة فإنه يجوز أن يراد منه تلك الصلة ، وإنما نتكلم بإضافة هذا الفعل إليه مجازا ؛ على ما اعتاد الناس من أفعالهم إذا أرادوها أن يأتوها بأنفسهم ، وشرح ذلك وبيانه أنه قال : { فَأَتَى ٱللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِّنَ ٱلْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ ٱلسَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ } [ النحل : 26 ] ، فكان المقصود من هذا تلك الصلة ، وهو قوله - عز وجل - : { فَخَرَّ عَلَيْهِمُ ٱلسَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ } [ النحل : 26 ] . وكذلك قوله - تعالى - : { فَأَتَاهُمُ ٱللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعْبَ } ، وكذلك ما أشبهه من نحو قوله - عز وجل - : { وَجَآءَ رَبُّكَ وَٱلْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً } [ الفجر : 22 ] ، ومن قوله - تعالى - : { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ } [ البقرة : 29 ] ، أي : استوى تدبيره من حيث وصل منافع الأرض بمنافع السماء ، وكذلك ما أشبه ، هذا ، والله أعلم . والثالث : نقول بأن هذه أسماء مشتركة المعنى ، وما كان سبيله هذا السبيل جاز أن يضاف إلى الله - تعالى - على معنى ليس يقع فيه الاشتراك بالمخلوقين ؛ ألا ترى أنه يقال : جاء الليل وذهب النهار ، ونحو ذلك على معنى الظهور ونحوه . وقوله - عز وجل - : { يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي ٱلْمُؤْمِنِينَ } . هذا يدل على أن الملك للمسلمين في أموال أهل الحرب ليس يقع بمجرد الغلبة ما لم يكن ثم أسر ؛ لأنه أخبر أن المؤمنين كانوا يخربون بيوتهم : أضاف الملك إلى الكفرة ، مع أن الغلبة للمسلمين ؛ فإنكم إذا اعتبرتم علمتم أن الله - تعالى - من عليكم ؛ حيث أخرج الكفار من ديارهم ؛ فإنه لم يكن ذلك بقوتكم . ويحتمل أن يكون المعنى فيه : فاعتبروا يا أولي الأبصار من أهل الكفار ؛ فإن ذلك يدلكم ويعرفكم أن اتفاقكم على النصرة على النبي صلى الله عليه وسلم لا يغنيكم ، كما لم يغن هؤلاء الذين خرجوا إلى مكة واتفقوا مع المشركين ، ثم لم يغنهم ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمُ ٱلْجَلاَءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا } . يعني : لولا أن كتب الله عليهم الجلاء في اللوح المحفوظ ، لعذبهم في الدنيا بالقتل . وقوله : { وَلَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ عَذَابُ ٱلنَّارِ } . قال هذا في قوم علم أنهم يموتون على الكفر ، وما روي أن أحداً منهم مات على الإسلام ؛ فيكون فيه دلالة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخبر ذلك بالوحي والتنزيل ، لا من تلقاء نفسه ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } . يحتمل أوجهاً ثلاثة : أحدها : أن يقول : { ذَلِكَ } ، يعني : ذلك العذاب في الآخرة بسبب أنهم شاقوا الله ورسوله ، ثم المشاقة والمعاداة والمحادة والمضادة بمنزلة واحدة ، وذلك كله : بمعنى المعاداة . وقوله : { وَمَن يُشَآقِّ ٱللَّهَ فَإِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ } . يحتمل أن يكون على التقديم والتأخير ؛ ووجهه أن يقول : إن الله شديد العقاب لمن يشاقق الله ورسوله ، أو يكون فيه إضمار كأنه يقول : إن عقوبته لمن يشاق الله ورسوله شديدة . وقوله - عز وجل - : { مَا قَطَعْتُمْ مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَآئِمَةً عَلَىٰ أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ ٱللَّهِ } . وما ذكر أن اليهود نادوا المسلمين : إنكم تزعمون أن الله لا يحب الفساد ، وأنتم تفسدون بقطع النخيل لا يحتمل هذا ؛ قال الله - تعالى - قبل : { يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي ٱلْمُؤْمِنِينَ } ، فإذا كانت أنفسهم تسخو بتخريب البيوت ؛ فما بالها لا تسخو بقطع الأشجار ؟ ! ومعلوم أنه لا يؤمل في البيوت منفعة بعد تخريبها ، وقد يؤمل في النخيل منافع بعد قطعها ، ولكن إن كان يصح ذلك الخبر فتأويله عندنا أنه يجوز أن يكون المسلمون خوفوهم بالقتل ؛ فقالوا على أثر ذلك : إنكم إذا قتلتمونا صارت هذه النخيل لكم ؛ فكيف تفسدون أملاككم ؟ ! ثم في إذن الله بقطع النخيل أوجه من التأويل : أحدها : أن يكون فيه بيان أن مقاتلة المسلمين إياهم لم تكن لرغبة في أموالهم ؛ بل ليستسلموا لله ولرسوله ، ويخضعوا لدينه . والوجه الثاني : أن حرمة هذه الأموال إنما هي لحرمة أربابها ، وأبيح قتلهم وإتلافهم ؛ فما ظنك بأموالهم ؟ ! والوجه الثالث : أن الله - عز وجل - كتب عليهم الجلاء ، ومعلوم أن أنفسهم بالجلاء إذا خربت بيوتهم وقطعت أشجارهم أسخى منه إذا بقيت ليقطع طمع من أجلي عن المقام ؛ فأذن الله - تعالى - في قطع النخيل إتماماً لما كتب عليهم من الجلاء ، والله أعلم . والرابع : أن هؤلاء كانوا أئمة اليهود ، والتحريف والتبديل للتوراة إنما وقع منهم ؛ رغبة في الدنيا وسعتها ؛ فأذن الله - تعالى - في قطع النخيل عقوبة لهم ، وحزناً من الوجه الذي وقع له التبديل منهم ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { فَبِإِذْنِ ٱللَّهِ } . إن كان المراد منه العلم فوجهه أن الله - تعالى - علم منهم ذلك ، ولو كان فسادا فيه لنهاهم عن ذلك . وإن كان المراد منه الأمر فهو أن الله - تعالى - أمر بالقطع والترك جميعاً . وإن كان المراد منه المشيئة فهو أن الله - تعالى - قد شاء الأمرين جميعاً ، والله أعلم . واللينة : اللون من النخيل ؛ كما تقول : فوت وفيتة . وقوله - عز وجل - : { وَلِيُخْزِيَ ٱلْفَاسِقِينَ } . أي : ليكون كبتاً وغيظاً للفاسقين ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَمَآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ } . قال : حق هذه الآية أن تكون مؤخرة ، وأن يكون قوله - عز وجل - : { مَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰ } [ الحشر : 7 ] متقدمة ؛ لوجهين : أحدهما : أنه ذكر فيه الواو ، والواو لا يبتدأ بها إلا في القسم . والثاني : أن قوله : { وَمَآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْهُمْ } حرف كناية ، والكناية لا بد لها من معرفة تعطف عليها فترجع إليها ؛ فلذلك قلنا : إن حقه التأخير وحق الثانية التقديم ، وعلى ذلك قراءة عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - وإذا كان كذلك فوجهه : أن الذي وجب صرفه إلى الأصناف التي ذكرنا إنما هو الخمس ، وأوجب - هاهنا - من كل الغنيمة ، فأبان بقوله : { وَمَآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْهُمْ } أنه إنما يصرف هذه الأربعة الأخماس إلى النبي صلى الله عليه وسلم دونهم ؛ لهذا المعنى : أنهم لم يوجفوا عليه من خيل ولا ركاب ، أشار إلى أن استحقاقهم الأربعة الأخماس بسبب إيجاف الخيل والركاب ، والله أعلم . وإن كانت القراءة على ما يتلى للحال ، ليس على التقديم والتأخير ، فإنه يحتمل أن يكون قوله - تعالى - : { وَمَآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْهُمْ } صلة قوله : { يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي ٱلْمُؤْمِنِينَ … وَمَآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ } ، وإذا كان بناؤه على ذلك ، استقام أن يذكر بحرف الواو وحرف الكناية . قال - رضي الله عنه - : إن المنافقين وأهل الضعف من المؤمنين الذي آمنوا بالتقليد يظنون في هذا الموضع أن كيف خص هذه الغنيمة قرابته والمهاجرين الذين هاجروا إليه ، وكيف آثر بها نفسه ؟ والجواب عن هذا : أن هؤلاء الأصناف قوم عامة المسلمين تحمل مؤنتهم لولا هذه الغنيمة ، ومعلوم أن أنفس المسلمين ببذل ما عليهم من تلك الأمانة أسخى منه لو صرف إلى كل واحد منهم على الإشارة إليه من ملكه الخاص ، وعلى هذه العبارة تجري مسائل لنا : أحدها : ما روي عن عمر - رضي الله عنه - أنه جعل العقل على أهل الديوان ؛ لأن ذلك يخرج مخرج المعونة ، ومعلوم أن المعونة على عامتهم ؛ فبذل ما رجع من هذا الحق إلى تلك العامة أسهل عليهم لو صرف إلى خاصتهم ، وكذلك قوله : { وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى ٱلْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُواْ ٱلَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِّثْلَ مَآ أَنفَقُواْ } [ الممتحنة : 11 ] ومعلوم أن منع تلك الزوجة عن أن تذهب إلى دار الحرب بشيء من مال زوجها كان واجباً على العامة ، وكذلك المسلمون إذا أصابوا غنيمة وفيها مال مسلم قد غلب عليه المشركون : أنه ما دام الملك للعامة ولم يقسم يرد عليه من غير بدل ، وإذا قسموا ، واختص كل واحد بملكه لم يأخذه إلا ببدل ؛ فكذلك الأول ، والله أعلم . قال الفقيه - رحمه الله - : والذي يجب من جهة العرف والشريعة : أن يكون تحمل مؤنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمته : أما من جهة العرف فهو أن من عمل لغيره كان مؤنته على ذلك القول له ، وكذلك من جهة الشريعة ، ومعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم بأمور أمته في أمور دنياهم وآخرتهم ، وإذا كان الأمر على ما ذكرنا كان أولى ما يجعل لرسول الله صلى الله عليه وسلم هو مال العامة ، وذلك هو الفيء ، هذا لو اختصه النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه ؛ فكيف وقد قسمه بين الفقراء وأهل الحاجة ، ولم يأخذه لنفسه ؟ ! ووجه آخر في هذا : ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أحلت لي الغنائم ، ولم تحل لأحد قبلي " ، وقال : " نصرت بالرعب مسيرة شهرين " ، فلو اختص ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه ، لجاز له بما قال ، ولكن الله جعل الفيء له بين من كان تحمل مؤنتهم على المسلمين لولا هذا الفيء ؛ كي يكون منة له على أمته ، ولئلا يكون لأحد من أمته عنده - عليه الصلاة والسلام - يد ولا صنيعة ، والله أعلم . ووجه آخر : أنه لما لم يؤذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم في كسب شيء من الدنيا وفضولها ؛ حتى يصطنع من فضولها بالمعروف ، فجعل الله له الفيء ليكتسب به الفضائل والمعروف ، والله أعلم . وفي قوله : " نصرت بالرعب مسيرة شهرين " دلالة أن ما أفاء الله على رسوله وأعطاه فهو له خاصة ، يصنع به ما شاء ، ويفرقه فيمن شاء ، والقول عند أصحابنا في الإمام إذا أعطاه أهل الحرب فيئاً يشترك فيه قومه ؛ لأن هبة الأئمة إنما هي لقومهم ، وكان هبة رسول الله صلى الله عليه وسلم بما نصر بالرعب ؛ فجاز أن يختص بها قومه والله أعلم .