Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 59, Ayat: 7-10)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ثم قوله : { مَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰ } . يعني : رد الله على رسوله من ملك الكفرة ، أو ما أعطى الله لرسوله من ملك الكفرة . وقوله : { مِنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰ } يجوز أن يكون قرى قد أعطوه ، أو يكون هذه بشارة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في فتح القرى . وقوله - عز وجل - : { وَلِذِي ٱلْقُرْبَىٰ } . يجوز أن يقال : إن الظاهر من هذه الآية أن يكون المراد منها غير قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم : { أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي ٱلْقُرْبَىٰ } [ الأنفال : 41 ] ، فقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما تدخل في هذه الآية بالتأويل ، وذلك أن المفهوم من ذكر القرابة إنما هو قرابة المخاطبين في الآية ، ومعلوم أن الخطاب بالقسم إنما هو للمغتنمين . وفي قوله - عز وجل - : { مَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ } إنما يفهم منه قرابة الرسول - عليه السلام - وذوو القربى من أصحابنا يسلكون في ذلك مذهبين : منهم من يقول : إن هذا الحق في الأصل للمحتاجين من القرابة لوجهين : أحدهما : قوله : { وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ } وكان المراد منه منصرفاً إلى المحتاجين ؛ فكذلك في القرابة . ومنهم من قال : إن الخمس كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم يصل به إلى قرابته ، فلما قبض - عليه السلام - انقطع ذلك الحق ؛ لوجهين : أحدهما : قوله - عليه السلام - : " إنا معشر الأنبياء لا نورث ، ما تركنا صدقة " . والثاني : إنما كانوا يستوجبونه برسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا قبض انقطع ذلك عنهم ؛ على سبيل انقطاع الحقوق عن أصحابها عند وفاتهم ، ثم الفائدة في منع ما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوراثة من وجهين : أحدهما : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يستعمل نفسه في شيء من لذات الدنيا وشهواتها ، وكان قائماً لله تعالى [ ] ؛ فإذا كان كذلك ، جاز أن يكون حقيقة الملك فيه لمولاه ، وإن كان في الظاهر له ، والله أعلم . فإن قيل : أليست الأملاك كلها لله ؟ قيل لهم : نعم ، غير أن الإضافة قد تكون خصوصية حال ، كقوله - تعالى - : { نَاقَةُ ٱللَّهِ } [ الأعراف : 73 ] ، وبيت الله . ووجه آخر : ما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم فهو وقف عليه إلى يوم القيامة ؛ ألا ترى أن زوجاته محبوسات عليه لا يحللن لأحد بعده ، ونبوته عليه ، لم تتحول بعده إلى غيره ؛ فلزم - أيضا - أن يوقف عليه ملكه - عليه السلام - ومعلوم أن ما كان موقوفاً فسبيله التصدق ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ ٱلأَغْنِيَآءِ مِنكُمْ } . له معنيان : أحدهما : أنه لو لم يبين هذه المواضع لكان ذلك الخمس الذي كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم يخلفه فيه الخلفاء من بعده ؛ فيداوله الأغنياء بينهم . ومعنى آخر : لو فرق هذا بين الفقير والغني لكان حين يقع هذا للغني بيده كان يكتسب به فضول الدنيا ، وأما الفقير فأول [ ما ] يقع في يده يستمتع به في منافع نفسه ؛ فلذلك فرق في الفقراء ، والله أعلم . قال بعضهم : الدولة : هي اسم للذي يدول بين الناس ، والدّولة : واحدة ، وهي فعلة . وقوله - عز وجل - : { وَمَآ آتَاكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ } . يعني : ما أعطاكم رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه الغنيمة فخذوه ولا تظنوا به ظنّاً مكروهاً وما نهاكم عنه فانتهوا ، ليس نهي زجر وشريعة ، ولكن نهي منع ، وما منع منكم من هذا الفيء فانتهوا عنه . وعلى قراءة ابن مسعود - رضي الله عنه - : { وَمَآ آتَاكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ } ، يحمل معنى الأمر ومعنى الإعطاء ، أي : ما آتاكم من الدنيا فخذوه ، وما نهاكم من الدنيا عنه - يعني : زجركم عنه - فانتهوا عنه . قال - رحمه الله - : ويروى : [ أن ] عامة الفقهاء يحتجون بهذه الآية في موضع الأمر مع لفظ الإيتاء ، وليس يوجب ظاهره هذا ؛ إذ الإيتاء هو الإعطاء والتمليك ، كقوله : { وَآتُواْ ٱلزَّكَٰوةَ } [ البقرة : 43 ] ، ولكن وجه الاحتجاج به : أن الله - تعالى - لما أمرنا بأخذ معروفه - عليه السلام - وإن كان في أخذ المعروف من غيره صلى الله عليه وسلم خيار : فلأن يلزمنا الأخذ بأمره والاتباع له أحرى وأولى ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ } . هذا يؤكد ما ذكر من اتباع أمره ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ … } الآية . وما نسق عليه من قوله : { وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُوا ٱلدَّارَ وَٱلإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ … } ، وقوله : { وَٱلَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ … } الآيات ظاهر هذا يقتضي إيجاب حق لهم ؛ لأنه إذا قيل : لفلان ، لم يكن بد من أن يقال : كذا وكذا ، وإذا كان كذلك لم يكن به من حق يذكر لهم ، ولا يحتمل أيضاً أن يخفي الله - تعالى - علم ذلك الحق الذي أوجب لهذه الأصناف عن خلقه ؛ فالسبيل في ذلك من جهة التأويل عندنا ، والله أعلم . ثم يحتمل أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن جوابه : لمن ؟ قال : { لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ } . ويحتمل أن يكون الرسول سأل ربه - جل وعلا - عن جوابه : لمن ؟ فأخبر : { لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ } . ثم إنه يجوز أن يكون ذلك الحق ، هو ما وظف من الخراج على أهل القرية إذا فتحت وهو ما روي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال لعلي وابن مسعود - رضي الله عنهما - حين فتح سواد الكوفة : أني أستشيركم في أمر ، قد أغناني الله - تعالى - عن مشورتكم حين تلوت هذه الآية ، ثم تلا : { لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ } ، ثم قال : لهؤلاء خاصة ، وتلا قوله : { وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُوا ٱلدَّارَ وَٱلإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ } ، ثم قال : ليس لهؤلاء خاصة ، وتلا قوله : { وَٱلَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ . … } . وروي أن بلالا قال له : اقسم بيننا كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر بين أهل العسكر ، وقال : اللهم اكفني بلالا وأهله . ثم قال عمر - رضي الله عنه - : " لو قسمتها بينكم لتركت آخر عصابة في الإسلام لم تصب من هذا ، وأخبر الله بقوله : { وَٱلَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ } أنهم شركاء هؤلاء ؛ فجائز أن يكون عمر - رضي الله عنه - حين تلا هذه الآيات تذكر خبرا أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلم أن الحق الذي أوجب الله - تعالى - لهؤلاء ذلك . أو يجوز أن يكون الله - تعالى - بلطفه ألهمه وعليا وابن مسعود - رضي الله عنهم - لأنه روي أنهما أشارا عليه بذلك ؛ ولذلك قال أصحابنا : إن الإمام إذا افتتح قرية من قرى أهل الحرب فهو فيها بالخيار : إن شاء قسمها بين أهلها ووظف عليهم الخراج ، وإن شاء قسمها بين أهل العسكر . وإنما كان كذلك ؛ لأن المقصود من المقاتلة أحد معنيين : إما لتوسيع أمكنة الإسلام أن تضيق ، أو يضيق المكان بهم ؛ ليستسلموا لدين الله ، وينقادوا لأمره ، وينظروا في حججه ، وليست مقاتلتهم عقوبة كفرهم ؛ بل لما وصفنا من المعنى ، وهذا المعنى قد يستفاد إذا وظف عليهم الخراج ؛ فلذلك كان للإمام الخيار ، والله أعلم . ولو فهم بلال - رضي الله عنه - المعنى الذي لأجله قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر بينهم لم يقس سواد الكوفة عليه . والمعنى من قسمته - عليه السلام - خيبر بينهم ، عندنا - والله أعلم - : هو أن المسلمين لما صدوا عن البيت بالحديبية بشرهم الله - تعالى - بفتح قريب ؛ عوضاً عما نالهم فيما أصابهم ، وأما سواد الكوفة فلم يكن فيها شيء من هذا المعنى ؛ فلم يجز أن يكون أمره مقيساً عليه ، والله أعلم . وقوله : { لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ } يحتمل أن يكون المراد منه المجاهدين المقاطعين لأسباب عيشهم من الأموال والديار ، أي : لهم هذا الحق الذي سبق وصفه . وقوله - عز وجل - : { الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ } . لم يخرجوهم من ديارهم في الحقيقة ، ولكنهم ضيقوا عليهم حتى خرجوا ، فإذن أضيف الإخراج إليهم ؛ لما كانوا أسباباً لخروجهم ، وهذا كقوله - تعالى - : { فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ } [ البقرة : 36 ] ، وإبليس - عليه اللعنة - لم يتول إخراجهما من الجنة ، ولكن حرضهما على سبب إتيانه ؛ فلم يستقرا بعده في ذلك المكان ؛ فأضيف الفعل إليه ، وقد وصفنا أن هذه الأفعال إذا أضيفت إلى العباد فإنما معنى ذلك أسباب تكون منهم لا حقيقة تلك الأفعال ، وما أضيف إلى الله - تعالى - من ذلك فهو يحتمل الأمرين جميعاً : الحقيقة والسبب في ذلك ؛ لأجل أن العبد لا يمكنه أن يقدر آخر على فعل في وقت فعله إلا على التسبب ، فأما رب العالمين فإنه قادر على إقدار العبد على فعل وقت فعله ؛ فلذلك قلنا : إنه يجوز أن يراد حقيقة الفعل فيما يضاف إلى الله تعالى ، وهو الموفق . وقوله - عز وجل - : { مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ } . يدل على أنه كانت لهم بمكة ديار وأموال ، ثم مع هذا لم يرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد شيء من ديارهم عليهم بعد فتح مكة ، ولا تضمين أولئك شيئاً من أموالهم ؛ ليعلم أن أهل الحرب إذا غلبوا على أموال المسلمين ملكوها ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ } . يعني : أنهم هاجروا لدينهم ، وانقطعوا عن أسباب عيشهم من الأموال ؛ يبتغون الرزق من الله تعالى . وقوله - عز وجل - : { وَيَنصُرُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } . دل أن هذا الحق للمجاهدين منهم ، ثم قوله : { وَيَنصُرُونَ ٱللَّهَ } ؛ يحتمل وجهين : أحدهما : ينصرون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذكر { ٱللَّهَ } صلة . والثاني : ينصرون دين الله ، ويطيعون رسوله ، عليه السلام . وقوله : { أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصَّادِقُونَ } . يعني : الذين أظهروا صدق الإيمان من قلوبهم ؛ لهجرتهم لدينهم وسعيهم إلى ما يزلفهم إلى الله - تعالى - ويقرب إليه . وقوله - عز وجل - : { وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُوا ٱلدَّارَ } . يعني : الذين اتخذوا ديارا واسعة تسعهم والمهاجرين ، وهم الأنصار . وقوله : { وَٱلإِيمَانَ } . أي : أنهم آمنوا قبل هجرة هؤلاء ، لكي يأمن هؤلاء المهاجرون من أحنهم ، ولا يخافوا شرهم . وقوله : { مِن قَبْلِهِمْ } . يعني : من قبل الهجرة . وقوله - عز وجل - : { يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ } ، يعني : أن الله - تعالى - ألقى [ إليهم ] محبة ؛ حتى أنزلوا المهاجرين ديارهم ، وأنفقوا عليهم أموالهم . وقوله - عز وجل - : { وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ } . يعني : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قسم خيبر بين المهاجرين ، وترك الأنصار لم يقسم بينهم ، لم يجد الأنصار في قلوبهم حاجة مما أعطى المهاجرين ، يعني : أن الله - تعالى - أغنى قلوبهم حتى لا يفكروا عن حاجة ولا مقت ألبتة . ويحتمل أن يكون المعنى من الحاجة - هاهنا - : الغل والحسد ، يعني : أن الله - تعالى - طهر قلوبهم حتى لم يجدوا في صدورهم حاجة . وقوله - عز وجل - : { وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } . أي : يؤثرون على أنفسهم في أملاكهم أنهم لا يجدون بما يبذلون هم حاجة مما يملكون ، ويؤثرون المهاجرين على أنفسهم ، ولو كان بهم حاجة . وقوله - عز وجل - : { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } . إن الله - تعالى - خلق في طبع البشر محبة المحاسن والمنافع والطلب لها ، وبغض المساوي والمضار والهرب عنها ، ثم إنه امتحنهم بالإنفاق مما يحبون ، وحمل النفس على ما يكرهون ؛ طلباً لنجاتهم ، وتوصلا إلى ثوابهم ، ثم وقاية الأنفس من الشح تكون بوجهين : أحدهما : أن يمن الله على عبده ليصير ما هو غائب عنه من الثواب في الأجل كالشاهد ؛ فيخفف عليه الإنفاق مما يحب ، ويصير ذلك كالطبع له . والثاني : يوفقه الله - تعالى - ويعصمه ، ويلهمه تعظيم أمره ونهيه ؛ حتى يقهر نفسه ويحملها على الائتمار بأمر الله - تعالى - والانتهاء عما نهى عنه ، وإن كان طبعها على خلاف ذلك . ثم إضافة الوقاية إلى نفسه تدل على أنه قد بقي في خزانته شيء لم يؤته عبده ، حتى يصف نفسه بأنه يقي عنه شح نفسه ، ولولا ذلك لم يكن لوعده بوقاية نفسه عن شحها معنى ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } . يعني : الباقون في النعيم الدائم ، والفلاح في الحقيقة : هو البقاء في النعيم . وقوله - عز وجل - : { يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱغْفِرْ لَنَا … } الآية . قد علم الله - تعالى - أنه قد يكون في أمة محمد صلى الله عليه وسلم من يلعن سلفه حتى أمرهم بالاستغفار لهم . وفيه دلالة على فساد قول الروافض والخوارج والمعتزلة ؛ لأن الروافض من قولهم : إن القوم لما ولوا الخلافة أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - كفروا . ومن قول الخوارج : إن عليا - رضي الله عنه - كفر بقتاله معاوية وأصحابه . وقالت المعتزلة بأن من عدل عن الحق في القتال خرج عن الإيمان ، ولو كان ما ارتكبوا من الزلات يكفرهم أو يخرجهم عن الإيمان لم يكن للاستغفار لهم معنى ؛ لأن الله - تعالى - نهى عن الاستغفار للمشركين ، فإذا أذن - هاهنا - بالاستغفار لهم تبين بهذا أن ما ارتكبوا من الذنوب ، لم يخرجهم من الإيمان ، ولأنه أبقى الأخوة فيما بينهم ، مع علمنا أنه لم يكن بين الآخرين والأولين أخوة إلا في الدين ، فلولا أنهم كانوا مؤمنين لم يكن لإبقاء الأخوة معنى ، والله أعلم . ولأنه قال - تعالى - : { وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ } ، ولو كان ذلك يخرجهم من الإيمان ، لم يكن لهذا الدعاء معنى ؛ لأن الواجب أن يكون في قلوب المؤمنين عداوة الكفار ومقتهم ، فلما ندب جل شأنه في هذه الآية إلى نفي الغل والحسد عن قلوبهم بتلك الدعوة ثبت أنهم كانوا مؤمنين ، والله أعلم . ثم في الأمر بالاستغفار لهم دلالة أنه قد كانت منهم ذنوب يستوجبون بها العقوبة لولا فضل الله ومغفرته ، وإن كانوا فيما يتعاطونه مجتهدين ؛ ليعلم أنه ليس كل مجتهد مصيباً . ثم قوله - عز وجل - : { وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ } . يعني : عداوة يحتمل أن يكون المراد منه المؤمنين الذين سبقوهم . ويحتمل أن يكون هذا في كل المؤمنين . وقوله - عز وجل - : { إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } . الرحمة من الله - تعالى - فضل منه على عباده وإحسان إليهم ؛ ألا ترى إلى قوله : { رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ ٱلْوَهَّابُ } [ آل عمران : 8 ] : فأخبر أن رحمته هبة منه وإحسان إلى عبده ، والله أعلم . ثم الاستغفار في حال الحياة له معنيان : أحدهما : طلب السبب الذي إذا جاءه استوجب المغفرة . والثاني : حقيقة المغفرة . وفي حال الوفاة ليس إلا طلب عين المغفرة ، فلما ندب - جل وعلا - إلى الاستغفار لهم بعد وفاتهم ، وحال الاستغفار بعد الوفاة على ما وصفنا لا يتوجه إلا على حقيقة المغفرة - ثبت أن ذنوبهم لم تخرجهم ؛ لأنه لو كان من حكمه - جل ثناؤه - ألا تحل مغفرتهم إذ ارتكبوا كبيرة لم يكن في الأمر بالاستغفار لهم حكمة ، والله أعلم . وقال جعفر بن حرب : إنه ليس في قوله : { وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ } ما يدل على أنه يجعل في قلوبهم ؛ لأنه إذا قيل : لا تفعل بنا شيئاً لم يفهم منه أنه يفعله إذا أحب ، ولكن يجاب عن هذا أنه قال تعالى نصا في آية أخرى ما يدل على جعل العداوة ؛ ألا ترى أنه قال : { فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ } [ المائدة : 14 ] . فإن قال : تأويله : أنه خلى بينهم وبينها ، لا أنه جعلها . قلنا : غير محتمل أن يخلق الله - تعالى - العداوة في قلوبهم من غير فعل يكون منهم ، وإن كان كذلك ثبت أنه يخلق هذه الأشياء وقت فعل العبد لها ، والله أعلم .