Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 6, Ayat: 128-132)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - عز وجل - : { وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعاً } . يعني : من تقدم ذكره من الجن ، والإنس ، أو نحشر الأولين والآخرين . { يَٰمَعْشَرَ ٱلْجِنِّ } . هو على الإضمار ؛ كأنه قال : يوم نحشرهم جميعاً [ يا معشر ] الجن والإنس ، ثم نقول للجن : { يَٰمَعْشَرَ ٱلْجِنِّ قَدِ ٱسْتَكْثَرْتُمْ مِّنَ ٱلإِنْسِ } ، كقوله : { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ } [ الزمر : 3 ] ، أي : يقولون : ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ؛ فكذلك هذا هو على الإضمار . وقوله - عز وجل - : { قَدِ ٱسْتَكْثَرْتُمْ مِّنَ ٱلإِنْسِ } . قال أهل التأويل في قوله : { قَدِ ٱسْتَكْثَرْتُمْ مِّنَ ٱلإِنْسِ } : [ أي : أضللتم كثيراً من الإنس ] وهم قد استكثروا من الأتباع من الإنس : في عبادة غير الله ، ومخالفة أمر الله وتوحيده أو : قد استكثرتم عبادا من الإنس . { وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ ٱلإِنْسِ رَبَّنَا ٱسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ } . اختلف فيه : قال بعضهم : تعاون بعضنا ببعض في معصية الله ومخالفة أمره : هؤلاء بالدعاء وأولئك بالإجابة . وقال قائلون : ربنا استمتع بعضنا ببعض أي : انتفع بعضنا ببعض بأنواع المنافع : ما ذكر - في بعض القصة - أن الرجل من الإنس إذا سافر فأدركه المساء بأرض القفر خاف ؛ فيقول : أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه ؛ فيأمن في ذلك بالتعوذ إلى سيدهم ؛ فذلك استمتاع الإنس بالجن ؛ فذلك [ قوله ] : { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ ٱلإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ ٱلْجِنِّ } الآية [ الجن : 6 ] . وأمّا استمتاع الجن بالإنس [ فهو ] ما يزداد لهم الذكر والشرف في قومهم ، يقولون : لقد سودتنا الإنس . ويحتمل استمتاع الجن بالإنس ما ذكر - إن ثبت - أنه جعل طعامهم العظام التي يستعملها الإنسان ، ويكون ذلك غذاءهم ، وعلف دوابهم أرواث دواب الإنس . وقال الحسن : ما كان استمتاع بعضهم ببعض إلا أن الجن أمرت الإنس ، فعلمت ذكر جواب الإنس لهم ، ولم يذكر جواب الجن لهم . وقوله - عز وجل - : { وَبَلَغْنَآ أَجَلَنَا ٱلَّذِيۤ أَجَّلْتَ لَنَا } . قيل : الموت . وقيل : البعث يوم القيامة ؛ لأنهم كانوا ينكرون البعث ؛ فأقروا عند ذلك : بأنا قد بلغنا أجلنا الذي أجلت لنا وكنا كذبناه ، أقروا بما كانوا ينكرون . { قَالَ } [ أي ] الله : { ٱلنَّارُ مَثْوَٰكُمْ } [ أي مقامكم ] . { خَٰلِدِينَ فِيهَآ إِلاَّ مَا شَآءَ ٱللَّهُ } . اختلف فيه : قال الحسن : { إِلاَّ مَا شَآءَ ٱللَّهُ } : وقد شاء [ الله ] أن يخلدهم في النار . وقال غيره : الاستثناء من وقت البعث إلى وقت الخلود ، وهو وقت الحساب [ ووقت الحساب ] هو وقت الثنيا ، { خَٰلِدِينَ فِيهَآ إِلاَّ مَا شَآءَ ٱللَّهُ } ما داموا في الحساب . وقيل : الاستثناء للمؤمنين [ الذين ] اتبعوهم في فعل المعاصي والجرم ولم يتبعوهم في الاعتقاد ؛ ففيه دليل إدخال المؤمنين النار بالمعاصي ، والعقوبة لهم بقدر معصيتهم ، ودليل إخراجهم منها ، إن ثبت . وقوله - عز وجل - : { إِلاَّ مَا شَآءَ ٱللَّهُ } يحتمل وجوهاً ثلاثة : أحدها : أن خلود الآخرة أكبر من خلود الدنيا ؛ لأن خلود الدنيا على الانقضاء ، وخلود الآخرة لا على الانقضاء . والثاني : وقع الثنيا قبل دخولهم [ في ] النار . والثالث : لمن لم يتبعهم في الكفر . وقوله - عز وجل - : { إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ } . أي : حكيم بما حكم ووضع كل شيء موضعه ، عليم بذلك . وقوله - عز وجل - : { وَكَذٰلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ ٱلظَّٰلِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } . الآية تنقض على المعتزلة قولهم ؛ لأن الولاية [ إنما تكون بأفعالهم ثم أضاف الولاية إلى نفسه دل أنه من الله في ذلك صنع ، وهو أن خلق سبب الولاية ] منهم ، ثم ذكر أن المؤمنين بعض أولياء بعض بقوله : { وَٱلْمُؤْمِنُونَ وَٱلْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } [ التوبة : 71 ] وذكر أن الكافرين بعضهم أولياء بعض بقوله : { لاَ تَتَّخِذُواْ ٱلْيَهُودَ وَٱلنَّصَارَىٰ أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } [ المائدة : 51 ] . وقوله - عز وجل - : { يَٰمَعْشَرَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ } . اختلف فيه : قال بعضهم : لم يكن من الجن رسل إنما كان الرسل من الإنس ، لكنه أضاف إلى الفريقين جميعاً ؛ كقوله : { يَخْرُجُ مِنْهُمَا ٱلُّلؤْلُؤُ وَٱلمَرْجَانُ } [ الرحمن : 22 ] ، وإنما يخرج من أحدهما ، وكقوله : { وَجَعَلَ ٱلْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً } [ نوح : 16 ] : وإنما جعل في واحدة منهن ، وكقول الناس : في سبع قبائل مسجد واحد : وإنما يكون في واحد منها ، وقد يضاف الشيء إلى جماعة والمراد [ منه ] واحد ؛ فعلى ذلك ما ذكر من إضافة الرسل إلى الإنس والجن . وقال بعضهم : كان من الفريقين جميعاً : الرسول من الجن جني ، ومن الإنس إنسي ؛ لأن الجن يسترون من الإنس ، فإنما يرسل إلى الإنس رسلا يظهرون لهم ؛ فبعث إلى كل فريق الرسول من جوهرهم . وقال بعضهم : كان الرسل من الإنس إلى الفريقين جميعاً ، وكان [ من ] الجن نذير ؛ كقوله : { وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ ٱلْجِنِّ … } الآية [ الأحقاف : 29 ] ذكر النذر منهم ولم يذكر الرسل ، ومرتبة النذر دون مرتبة الرسل ، كرتبة الأنبياء من الرسل ، ولكن يجوز أن يقوي الرسل - وإن كان من الإنس - على الإظهار لهم ، وليس فيما يسترون عنهم منع بعث الرسل إليهم من الإنس ، وليس لنا إلى معرفة هذا حاجة ؛ إنما الحاجة إلى معرفة الآيات والحجج التي يأتي [ بها ] الرسل ، وقد عجز الخلائق جميعاً عن إتيان مثل هذا القرآن ؛ لقوله : { قُل لَّئِنِ ٱجْتَمَعَتِ ٱلإِنْسُ وَٱلْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ } [ الإسراء : 88 ] : فقد أعجز الجن والإنس عن أن يأتوا بمثل هذا القرآن ، وإن كان الجن أقوى على الأشياء من الإنس ؛ فدل أنه آية ودل عجز الجن عن ذلك وإن كانوا أقوى على أن غيرهم أعجز . ألا ترى : أنه أنزل هذا القرآن على لسان العرب ثم عجزوا هم عن إتيان مثله ؛ فدل عجزهم عن ذلك على أن العجم له أعجز . وجائز أن يكون الرسل إن كانوا من الإنس فإن الجن يستمعون من الرسل ؛ فيلزمهم الحجة والعمل بذلك والتبليغ إلى قومهم ، من غير أن يعلم الرسل بذلك ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي } . يحتمل يتلون عليكم آياتي ، ويحتمل : { يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي } يبينون لكم [ ما في آيات وحدانيته وألوهيته ] وآيات البعث الذي تنكرون . { وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَـٰذَا } ، أي : لقاء يومكم الذي تلقون ودل قوله : { وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَـٰذَا } على أن ذلك إنما يقال لهم في الآخرة . { قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَىٰ أَنْفُسِنَا } . هذا منهم إقرار لما كان منهم من التكذيب ؛ كقوله : { فَٱعْتَرَفُواْ بِذَنبِهِمْ } [ الملك : 11 ] ، أي شهدنا على أنفسنا بأنا كنا كذبنا الرسل في الدنيا بما قالوا وأخبروا . وقوله - عز وجل - : { وَغَرَّتْهُمُ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا } . إن للدنيا معنيين : ظاهراً وباطناً ، فيكون للظاهر غرور من كان نظره [ إلى الظاهر ] يغره ، ولها باطن ومن نظر إلى ذلك الباطن يعظه . أما ظاهرها : من تزيينها ، وزخرفها فالكافر نظر إلى ظاهرها فاغتر بها . وأما باطنها : فهو انتقالها من حال إلى حال وزوالها وفناؤها فمن نظر إلى ذلك اتعظ به ويعلم معناها ويعرف أنه لم يخلق لهذه ولكن لعاقبة تتأمل . ثم إضافة الغرور إليها ، أي : يكون منها ما لو كان ذلك من ذي عقل وذهن كان ذلك غرور . وقوله - عز وجل - : { وَشَهِدُواْ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ } . هذا اعتراف بما كان منهم . وقوله - عز وجل - : { ذٰلِكَ أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ ٱلْقُرَىٰ بِظُلْمٍ } . يحتمل قوله : { ذٰلِكَ } ما تقدم من قوله : { يَٰمَعْشَرَ ٱلْجِنِّ قَدِ ٱسْتَكْثَرْتُمْ مِّنَ ٱلإِنْسِ } ، وقوله - عز وجل - : { يَٰمَعْشَرَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَـٰذَا } ، ونحوهما من الآيات التي ذكر فيها العذاب . ويحتمل ذلك إشارة إلى الهلاك الذي كان بالأمم الخالية : أن لم يكن يهلك القرى بظلم ظلموا أنفسهم إهلاك تعذيب واستئصال إلا بعد [ ما ] يقدم الوعيد لهم في ذلك وسؤال كان منهم بالعذاب ، ولا يهلك - أيضاً - وهم غافلون عن الظلم والعصيان ، لا أنه لا يسعه ؛ ولكن سنة فيهم ألا يهلك إلا بعد تقدم ما ذكرنا ؛ لئلا يحتجوا فيقولوا : { لَوْلاۤ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [ القصص : 47 ] ، وإن لم يكن لهم الاحتجاج بذلك لما مكن لهم وركب فيهم ما به يعرفون أنه لم يخلقهم ليتركهم سدى ؛ ولكن خلقهم لعاقبة ، لكن سنته قد مضت في الأمم الماضية : [ أنه ] لا يهلك قوماً إهلاك تعذيب واستئصال إلا بعد ما يسبق منه وعيد وإنذار ، والعلم لهم بالظلم ، وظهور العناد منهم والمكابرة ، والسؤال بالعذاب سؤال تعنت ، وذلك منه فضل ورحمة ، لا أنه لا يسعه ذلك . وقوله - عز وجل - : { وَلِكُلٍّ دَرَجَٰتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ } . استدل بعض الناس بظاهر هذه الآية أن الجن لهم ثواب بالطاعات وعقاب بالمعاصي ؛ لأنه أخبر أن لكل [ منهم ] درجات مما عملوا ، وإنما تقدم ذكر الفريقين جميعاً بقوله : { شَيَٰطِينَ ٱلإِنْسِ وَٱلْجِنِّ } ، وقوله - عز وجل - : { وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعاً } [ وقوله ] { يَٰمَعْشَرَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ } : ذكر ما كان من الفريقين جميعاً من المعاصي والجرم ؛ فعلى ذلك قوله : { وَلِكُلٍّ دَرَجَٰتٌ } : راجع إلى الفريقين جميعاً ، لكل درجات منهم : إن عملوا خيرا فخير ، وإن [ عملوا ] شرا فشر [ وبه ] قال أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله - واحتجوا لأبي حنيفة - رحمه الله - أن قوله : { وَلِكُلٍّ دَرَجَٰتٌ } إنما ذكر على أثر آيات كان الخطاب بها للكفرة دون المؤمنين ؛ فعلى قوله : { وَلِكُلٍّ دَرَجَٰتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ } يكون لهم هذا الوعيد خاصة ، ويكون قوله : { وَلِكُلٍّ دَرَجَٰتٌ } ، أي : دركات ومراتب من العذاب والعقاب ؛ مما عملوا من المعاصي والتكذيب للرسل ، ولأن الثواب لزومه لزوم فضل ومنَّة ، والعذاب توجبه الحكمة ؛ لأن في الحكمة أن يعاقب من عصاه وخالف أمره وأمّا الثواب فوجوبه الفضل ؛ لأنه كان من الله إلى الخلق من النعم والإحسان [ ما لو حمدوا كل حمدهم ] ما قدروا على أن يؤدوا شكر واحد من ذلك ، فتكون طاعتهم شكراً لما أنعم عليهم ، فإذا كان كذلك لا يكون لأعمالهم ثواب إلا بالبيان من الله ، كما لا يقال للملائكة : إن لهم ثواباً . وقوله - عز وجل - : { وَمَا رَبُّكَ بِغَٰفِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ } ، يحتمل وجهين : وما ربك بغافل عن أعمالهم التي يعملونها في معصية الله - تعالى - ولكن يؤخر تعذيبهم ؛ رحمة منه ، وهو كقوله : { وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ ٱلظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ … } الآية [ إبراهيم : 42 ] . والثاني : عن علم بأعمالهم ، وصنيعهم خلقهم ، لا عن جهل ، لكن خلقهم على علم بذلك ؛ لما كان ضرر أعمالهم ومنافعها ترجع إليهم لا إليه .