Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 6, Ayat: 14-19)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - عز وجل - : { قُلْ أَغَيْرَ ٱللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ } وفي حرف ابن مسعود - رضي الله عنه - : ( ربّاً ) ؛ كأن هذا صلة قوله : { قُل لِّمَن مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ قُل للَّهِ } [ الأنعام : 12 ] فإذا أقررتم أن ذلك كله لله فكيف تتخذون له شركاء فتعبدون غير الله وهو فاطر السماوات والأرض ومنشئهما ومنشئ ما فيهما ، كيف صرفتم العبادة إلى غير الله ؟ وقوله - عز وجل - : { وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ } . قال أهل التأويل : هو يرزق ولا يرزق ، ليس كمن له عبيد في الشاهد يرزق بعضهم بعضاً ، الموالي من العبيد ، والعبيد من السادات ، ينتفع بعضهم من بعض ، فأما الله - سبحانه وتعالى - خلق الخلق لا لمنفعة نفسه ؛ لأنه غني بذاته ، والخلق فقراء إليه ؛ كقوله - تعالى - : { أَنتُمُ ٱلْفُقَرَآءُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱللَّهُ هُوَ ٱلْغَنِيُّ ٱلْحَمِيدُ } [ فاطر : 15 ] . وقوله - عز وجل - : { قُلْ إِنِّيۤ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ } . قال الحسن : أول من أسلم من قومه ، وأصله : { إِنِّيۤ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ } أي : أمرت أن أسلم وأخضع أنا أولا ، ثم آمركم بذلك . واحتج بعض الناس بظاهر هذه الآية أن الإسلام لا يلزم إلا بالأمر والدعاء إليه ، وقالوا : إن من مات قبل أن يؤمر به ، وقبل أن يدعي إليه - فإنه لا شيء عليه ، وعلى ذلك من مات في وقت الفترة وانقطاع الرسل والوحي ؛ لأنّه قال : { إِنِّيۤ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ } أخبر أنه أمر بذلك ، وإذا لم يكن ثَمَّ أمر لم يلزم ، لكن الوجه في الآية ما ذكرنا ، أي : أمرت أن أسلم وأخضع أولا ثم آمر غيري ، فإذا كان التأويل هذا بطل أن يكون في ذلك حجة لهم . وقوله - عز وجل - : { قُلْ إِنِّيۤ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } . قال ابن عباس - رضي الله عنه - : قل يا محمد لكفار أهل مكة : { إِنِّيۤ أَخَافُ } ، أي : أعلم { إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي } فعبدت غيره ، { عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } . هذا التأويل صحيح إن كان ما ذكر من سؤالهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرضهم المال عليه ليعود ويرجع إلى دينهم ، فيخرج هذا على الجواب لهم . وقال بعضهم : قوله - تعالى - : { إِنِّيۤ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي } على الخوف ، لكن لقائل أن يقول : كيف خاف عذاب يوم عظيم وقد أخبر أنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ؟ ! وكيف قال : { إِنْ عَصَيْتُ } وقد أخبر أنه عصمه وغفر له ؟ قيل : يحتمل أن تكون المغفرة له على شرط الخوف ، غفر له ليخاف عذابه . وقوله - عز وجل - : { مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ } قال بعض المعتزلة : الرحمة هاهنا : الجنة ؛ لأن الله - تعالى - جعل في الآخرة دارين ؛ إحداهما : النار ، سماها سخطاً . والأخرى : الجنة ، سماها رحمة . وإنما حملهم على هذا أنهم لا يصفون الله بالرحمة في الأزل ، فعلى قولهم يكون قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إلا أن يتغمدني الله برحمته " ، أي : يثيبني الجنة . ولكن سميت الجنة رحمة عندنا لما برحمته يدخلون الجنة ، لا بأعمالهم ؛ لما روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال : " لا يدخل أحد الجنة بعمله " قيل : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : " ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته " . وعلى قول المعتزلة فيكون الله بالملائكة رحيماً لأنه [ … ] ولا ثواب ، ولكن الوجه فيه ما ذكرنا أنها سميت رحمة لما برحمته يدخل فيها . وعلى هذا يخرج ما سمي المطر رحمة لما برحمته ينزل ، وكذلك كل ما سمي رحمة في الشاهد يخرج على ما ذكرنا ، والله أعلم . ثم قوله : { مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ } . قيل : من يصرف عنه العذاب يومئذ فقد رحمه ، وكذلك روي في حرف حفصة : ( من يصرف عنه العذاب فقد رحمه ) ، وفي حرف ابن مسعود : ( من يصرف عنه شر ذلك اليوم فقد رحمه ) . ويحتمل أن يكون قوله : { مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ } صلة قوله : { قُلْ إِنِّيۤ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } . وكذلك روي عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال في قوله - تعالى - : { قُلْ إِنِّيۤ أَخَافُ } : قل لكفار أهل مكة حين دعوه إلى دينهم ، على ما ذكر في بعض القصة : { إِنِّيۤ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْمُبِينُ } . وقوله - عز وجل - : { وَذَلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْمُبِينُ } . وذلك الصرف - يعني : صرف العذاب - الفوز المبين ، وإنما ذكره - والله أعلم - فوزاً مبيناً ؛ لأنه فوز دائم ، لا زوال له ، وليس كفوز هذه الدنيا يكون في وقت ثم يزول عن قريب ، ولا كذلك فوز الآخرة . وقوله - عز وجل - : { وَإِن يَمْسَسْكَ ٱللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ } . فيه إخبار أن ما يصيب العبد من الضرّ والخير إنما يصيب به ، ثم الضر المذكور في الآية لا يخلو من أن يراد [ به ] سقم النفس ، أو ضيق العيش ، أو شدة وظلم يكون من العباد لا يخلو من هذه الأوجه الثلاثة ، فإذا كان كذلك فدل إضافة ذلك إلى الله - تعالى - على أن لله فيه فعلا ، وهو أن خلق فعل ذلك منهم ، فهو على كل شيء قدير من كشف الضر له ، والصرف عنه ، وإصابة الخير لا يملك ذلك غيره . وقوله - عز وجل - : { وَهُوَ ٱلْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ ٱلْحَكِيمُ ٱلْخَبِيرُ } . في هذه الآية والآية الأولى ذكر أهل التوحيد ؛ لأنه أخبر أن ما يصيب العباد من الضر والشدة لا كاشف لذلك إلا هو ، ولا يدفع ذلك عنهم ولا يصرفه إلا الله ، وأن ما يصيبهم من الخير إنما يصيبهم بذلك الله ، وأخبر أنه على كل شيء قدير . وفي قوله : { وَهُوَ ٱلْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ } إخبار أنه قاهر يقهر الخلق ، عزيز ، قادر ، وله سلطان عليهم ، وأنهم أذلاء تحت سلطانه . وفي قوله : { فَوْقَ عِبَادِهِ } إخبار بالعلوية ، والعظمة ، وبالتعالي عن أشباه الخلق . { وَهُوَ ٱلْحَكِيمُ } : يضع كل شيء موضعه . { ٱلْخَبِيرُ } : بما يسرون وما يعلنون ، إخبار ألاَّ يخفى عليه شيء ، وأنه يملك وضع كل شيء موضعه ، وأن ما يصيبهم من الضر والشدة إنما يكون به ، لا يملك أحد صرفه ، وأن [ ما ] ضر أحد أحداً في الشاهد ، أو نفع أحد أحداً إنما يكون ذلك بالله في الحقيقة . وفي هذه الأحرف : إخبار عن أصل التوحيد وما يحتاج إليه لما ذكرنا من الوصف له بالقدرة والقهر ، والوصف له بالعلو والعظمة ، والتعالي عن أشباه الخلق ، والوصف له بالحكمة في جميع أفعاله ، والعلم بكل ما كان ويكون . وقوله - عز وجل - : { قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَٰدةً } . كأن في الآية إضماراً - والله أعلم - أي { قُلْ } يا محمد { أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَٰدةً } ، فيقولون : الله ؛ لأنهم كانوا يقرون أنه خالق السماوات والأرض ، وأنه أعظم من كل شيء ؛ لكنهم يشركون غيره في عبادته ، ويقولون : { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ } [ الزمر : 3 ] وإلا كانوا يقرون بالعظمة له والجلال ، فإذا سئلوا : { أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَٰدةً } ، فيقولون : الله . ويحتمل - أيضاً - أن يقول لنبيّه صلى الله عليه وسلم إنهم إذا سألوا : { أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَٰدةً } ؟ قل : الله ، فإنك إذا قلت لهم ذلك يقولون هم أيضاً . وقوله - عز وجل - : { قُلِ ٱللَّهُ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ } . في كل اختلاف بيننا وبينكم في التوحيد ، والبعث بعد الموت ، ونحوه . ويحتمل : { قُلِ ٱللَّهُ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ } في كل حجة وبرهان أتاهم الرسول به . وفي قوله : { قُلْ أَيُّ شَيْءٍ } دلالة أنه يقال له شيء ؛ لأنه لو لم يجز أن يقال له شيء لم يستثن الشيء منه ، وكذلك في قوله : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [ الشورى : 11 ] أنه شيء ؛ لأن " لا شيء " في الشاهد ، إنما يقال إما للنفي أو للتصغير ، ولا يجوز في الغائب النفي ولا التصغير ؛ فدل أنه إنما يراد بـ " الشيء " الإثبات لا غير وبالله العصمة . ذكر في بعض القصّة في قوله : { قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَٰدةً } أن رؤساء مكة أتوا رسول الله ، فقالوا : يا محمد ، أما وجد الله رسولا يرسله غيرك ، ما ترى أحداً يصدقك بما تقول ، ولقد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أنه ليس لك عندهم ذكر ، ولا صفة ، ولا مبعث ، فأرنا من شهد لك أنك رسول الله [ كما تزعم ] . فقال الله - تعالى - : يا محمد ، قل لهم : { أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَٰدةً } ، يقول : أعظم شهادة ؛ يعني : البرهان ، محمد حجة وبرهان ، فإن أجابوك فقالوا : الله ، وإلا فقل لهم : الله أكبر شهادة من خلقه أني رسوله ، والله شهيد بيني وبينكم في كل اختلاف بيننا وبينكم ، في التوحيد ، وإثبات الرسالة ، والبعث ، وكل شيء . وذكر في هذه القصة أنهم لما قالوا : من يشهد أن الله أرسلك رسولا ، قالوا : فهلا أنزل إليك ملك . فقال الله لنبيّه : [ قل لهم : { أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَٰدةً } ؟ فقالوا : الله أكبر شهادة من غيره ، فقال الله : ] قل لهم يا محمد : الله شهيد بيني وبينكم أني رسول الله ، وأنه أوحى إليَّ هذا القرآن لأنذركم به ، ومن بلغه القرآن من الجن والإنس فهو نذير له . ثم قال لهم : { أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ ٱللَّهِ ءَالِهَةً أُخْرَىٰ } ، قالوا : نعم ، نشهد . فقال الله لنبيّه : قل لهم : لا أشهد بما شهدتهم ، ولكن أشهد أنما هو إله واحد ، وإنني بريء مما تشركون . وقوله - عز وجل - : { وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ } . كأنه قال : أوحي إليَّ هذا القرآن الذي تعرفون أنه من عند الله جاء ؛ لأنه قال لهم : { فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ } [ البقرة : 23 ] فعجزوا عن إتيان مثله ، فدل عجزهم عن إتيان مثله أنهم عرفوا أنه جاء من عند الله . وقوله - عز وجل - : { لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ } : لا ينذر بالقرآن ولكن ينذر بما في القرآن ؛ لأنه فيه أنباء ما حل بأشياعهم بتكذيبهم الرسل ، وما يحل بهم من العذاب في الآخرة بتكذيبهم الرسل ، وإلا فظاهر القرآن ليس مما ينذر به ، { وَمَن بَلَغَ } كأنه قال : وأوحي إليَّ هذا القرآن لأنذركم به ، وأنذر من بلغه القرآن ، صار رسول الله نذيراً ببلوغ القرآن لمن بلغه ، فإذا [ صار ] نذيراً به لمن بلغه وإن كان هو في أقصى الدنيا يصير هو نذيراً في أقصى الزمان ، في كل زمان ، وهو - والله أعلم - كقوله - تعالى - : { وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ } [ الرعد : 7 ] ، ورسول الله هاد لقومه إلى يوم القيامة . وفي الآية دلالة أن البشارة والنذارة يكونان ببعث آخر يبشر أو ينذر ، وهو دليل لقول أصحابنا : إن من حلف : أيُّ عبدٍ من عبيدي بَشَّرَنِي بكذا فهو حرّ ، فبشره [ برسول ، أو بكتاب ] يكون بشارة . وقوله - عز وجل - : { أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ ٱللَّهِ ءَالِهَةً أُخْرَىٰ } فهذا في الظاهر استفهام ، ولكنه في الحقيقة إيجاب أنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى ، بعد ما ظهر عندكم آيات وحدانيته ، وحجج ربوبيته لما عرفتم أنه خالقكم وخالق السماوات والأرض ، به تعيشون وبه تحيون ، وبه تموتون ، مع ما ظهر لكم هذا أشركتم مع الله آلهة أخرى ، وليس ذلك لكم مما تشركون في عبادته وألوهيته ، وأنا لا أشهد ، وإنما أشهد أنه إله واحد وإنني بريء مما تشركون [ في ألوهيته وربوبيته ] .