Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 6, Ayat: 154-158)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - عز وجل - : { ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَابَ تَمَاماً } . اختلف فيه ؛ قال الحسن : قوله : { تَمَاماً عَلَى ٱلَّذِيۤ أَحْسَنَ } ، أي : من أحسن صحبته ، تمت نعمة الله وكرامته عليه في الآخرة . وقيل : { تَمَاماً عَلَى ٱلَّذِيۤ أَحْسَنَ } ، يعني : على المحسنين والمؤمنين ، و " على " بمعنى : للذي أحسن وللذي آمن ، ويجوز " على " في موضع اللام ؛ كقوله : { وَمَا ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ } [ المائدة : 3 ] ، أي : للنصب . وقتادة قال : فمن أحسن فيما آتاه الله ، تمت عليه كرامة الله في جنته ورضوانه ، ومن لم يحسن فيما آتاه الله ، نزع الله ما في يده ، ثم أتى الله ولا عذر له . وقال أبو بكر الكيساني في قوله : { ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى ٱلَّذِيۤ أَحْسَنَ } : أي : ثم آتيناكم من الحجج والبيان تماماً من موسى وكتابه ، أي : موسى وكتابه مصدق وموافق لما أعطاكم ؛ كقوله : { أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَىٰ إِمَاماً وَرَحْمَةً … } الآية [ هود : 17 ] . ويحتمل : تمام ما ذكرنا تماماً بالنعمة والكرامة . ويحتمل : تماماً بالحجة والبيان ، وتماماً بالحكمة والعلم . وقوله - عز وجل - : { عَلَى ٱلَّذِيۤ أَحْسَنَ } . أي : للذي أحسن . وفي حرف ابن مسعود - رضي الله عنه - : ( تماماً وعلى الذي أحسن وتفصيلاً لكل شيء ) ، أي : تبياناً لكل شيء ، وهدى من الضلال والشبهات ، ونعمة ، ورحمة من العذاب والعقاب . { لَّعَلَّهُمْ بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ } . أي : ليكونوا بلقاء ربهم يؤمنون ؛ هو على التحقيق . وعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال : { تَمَاماً عَلَى ٱلَّذِيۤ أَحْسَنَ } يقول : أتم له الكتاب على أحسنه على الذي بلغ من رسالته ، وتفصيل كل شيء : بيان كل شيء { وَهُدًى } ، أي : تبياناً من الضلالة { وَرَحْمَةً } ، أي : نعمة ، { لَّعَلَّهُمْ بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ } ، أي : بالبعث بعد الموت ، { يُؤْمِنُونَ } ، أي : ليكونوا مؤمنين بالبعث . ومنهم من يقول في قوله : { ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَابَ } : إنه وإن أتى بحرف الترتيب ، فإنه على الإخبار ؛ كأنه قال : ثم قد كنا آتينا موسى الكتاب تماماً ، معناه : وقد آتيناه . وقوله - عز وجل - : { وَهَـٰذَا كِتَٰبٌ أَنزَلْنَـٰهُ } يعني : القرآن أنزلناه . { مُبَارَكٌ } . قال أبو بكر الكيساني : البركة هي التي من تمسك بها أوصلته إلى كل خير وعصمته من كل شرّ ، وهو المبارك . وقال الحسن : هو المبارك لمن أخذه واتبعه وعمل به ، فهو مبارك له ، وسمّي هذا القرآن مباركاً ؛ لما يبارك فيه لمن اتبعه ، هو مبارك لمتبعه والعامل به ، وإلا من لم يتبعه فليس هو بمبارك له ، بل هو عليه شدة ورجس ؛ كقوله - تعالى - : { وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـٰذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَىٰ رِجْسِهِمْ } [ التوبة : 124 - 125 ] ، فهو ما ذكرنا مبارك لمن اتبعه وتمسك به ، وسمي مجيداً - أيضاً - وكريماً لمن اتبعه يصير مجيداً كريماً ، وكذلك سمي روحاً ووحياً ؛ لما يحيا به من اتبعه . وأصل البركة : هو أن ينتفع بشيء على غير تبعة ، فهو البركة ؛ وعلى ذلك يخرج قول الناس بعضهم لبعض : بارك الله لك في كذا ، أي : جعل لك فيه منافع لا تبعة عليك فيه ؛ فعلى هذا يجيء أن يكون القرآن مباركاً بكسر الراء ، لكن قيل : مبارك ؛ لانتفاع الناس به . والبركة تحتمل وجهين : أحدهما : اسم لكل خير يكون أبداً على النماء والزيادة . والثاني : اسم لكل منفعة لا تبعة عليه [ فيها ] ولا مؤنة ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { فَٱتَّبِعُوهُ وَٱتَّقُواْ } . أي : اتبعوا إشاراته ، [ … ] [ { وَٱتَّقُواْ } أي : اتقوا مخالفته { لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } ؛ أي : لكي ترحموا ، من اتبع أوامره وإشاراته واتقى ] نواهيه ومحارمه رُحِمَ . وقوله - عز وجل - : { أَن تَقُولُوۤاْ إِنَّمَآ أُنزِلَ ٱلْكِتَابُ عَلَىٰ طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا } [ الأنعام : 156 ] . قال أهل التأويل : أنزل الكتاب على الطائفتين : اليهود والنصارى ، ومن أنزل الكتاب على اليهود والنصارى إنما أنزله على المسلمين ، لكن المعنى - والله أعلم - : إنما أنزل الكتاب على طائفتين ، أي : إنما [ يظهر نزول الكتاب التوراة والإنجيل ] عند الخلق بطائفتين من قبلنا سموا يهود ونصارى بالتوراة والإنجيل ، وإلا لم يكن وقت نزول التوراة يهود ، و [ لا وقت ] نزول الإنجيل نصارى . ثم قوله : { أَن تَقُولُوۤاْ إِنَّمَآ أُنزِلَ ٱلْكِتَابُ } هو صلة قوله : { وَهَـٰذَا كِتَٰبٌ أَنزَلْنَـٰهُ } لئلا تقولوا : إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا ولم ينزل علينا . ويجوز " أن " بمعنى " لن " ، أي : لن تقولوا : إنما أنزل الكتاب ؛ كقوله : { أَن يُؤْتَىۤ أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ } [ آل عمران : 73 ] أي : لن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم . وقوله - عز وجل - : { وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ } . أي : وقد كنا عن دراستهم لغافلين ، ويجيء أن يكون عن دراستها ؛ لأنها دراسة الكتب ، لكن أضيف إليهم ، أي : أولئك القوم . وقوله - عز وجل - : { أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّآ أُنزِلَ عَلَيْنَا ٱلْكِتَابُ } . هو على ما ذكرنا لئلا تقولوا : لو أنا أنزل علينا الكتاب . { لَكُنَّآ أَهْدَىٰ مِنْهُمْ فَقَدْ جَآءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ } . أنزل الله - عز وجل - هذا القرآن ؛ قطعاً لحجاجهم ، ومنعاً لعذرهم ، وإن لم يكن لهم الحجاج والعذر ، وعلى ذلك يخرج قوله : { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ ٱلرُّسُلِ } [ النساء : 165 ] ، لا يكون لهم حجة على الله ، وإن لم ينزل الرسل والكتب . ثم يحتمل عذر هؤلاء أن يقولوا : إنما أنزل الكتاب بلسانهم ، لم ينزل بلساننا ، ونحن لا نعرف لسانهم ، وكنا عن دراستهم لغافلين ، ولو كان لهم العذر والاحتجاج بهذا ، لكان للعجم الاحتجاج والعذر في ترك اتباع القرآن ؛ لما لم ينزل بلسان العجم ، ولم يعرفوا هم لسانهم ، أعني : لسان العرب ، ثم لم يكن للعجم الاحتجاج بذلك ؛ لما جعل لهم سبيل الوصول إلى معرفته ؛ فعلى ذلك لا عذر للعرب في ترك اتباع ما في الكتب التي أنزلت بغير لسانهم ؛ لما في وسعهم الوصول إلى معرفتها ، والتعلم منهم ، والأخذ عنهم ، وهذا يدل على أنه يجوز التكليف بأشياء ليست معهم أسبابها ، بعد أن جعل لهم سبيل الوصول إلى تلك الأسباب . والثاني : من احتجاجهم أن يقولوا : إن اليهود والنصارى قد اختلفت وتفرقت تفرقاً لا اجتماع بينهم أبداً ، فكيف نتبعهم في ذلك ؟ ! فيقال : إن مذاهبهم وكتبهم إنما تفرقت بهم وبقولهم ، فقد أنزل من الحجج والبيان ما يعرف ذلك الذي تفرق بهم ، فلا حجة لهم في ذلك ؛ وهذا كقوله : { وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَٰنِهِمْ لَئِن جَآءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا } [ الأنعام : 109 ] وقد جاءتهم آيات فلم يؤمنوا [ بها ] ؛ فعلى ذلك قوله : { أَن تَقُولُوۤاْ إِنَّمَآ أُنزِلَ ٱلْكِتَابُ عَلَىٰ طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا } [ الأنعام : 156 ] وقوله : { أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّآ أُنزِلَ عَلَيْنَا ٱلْكِتَابُ لَكُنَّآ أَهْدَىٰ مِنْهُمْ فَقَدْ جَآءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ } . وفي الآية دلالة على أن المجوس ليسوا من أهل الكتاب ؛ لأنهم لو كانوا أهل كتاب صار أهل الكتاب ثلاث طوائف ، وقد أخبر أنه إنما أنزل الكتاب على طائفتين ، وذلك محال . فإن قيل : إنما هذا حكاية من الله - تعالى - عن المشركين ، قلنا : معناه - والله أعلم - : إني أنزلت عليكم الكتاب ؛ لئلا تقولوا : إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا ، فلم يقولوا ذلك ، ولكن الله قطع بإنزاله الكتاب حجتهم التي علم أنهم كانوا يحتجون بها لو لم ينزله ، وإن لم يكن لهم في ذلك حجة ولا عذر ، وهو ما ذكرنا ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { فَقَدْ جَآءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ } . قيل : القرآن . وقيل : محمد صلى الله عليه وسلم . { وَهُدًى } . أي : هدى من الضلالة وكل شبهة . { وَرَحْمَةٌ } . أي : ذلك منه رحمة ونعمة . { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ } . أي : لا أحد أظلم ممن كذب بآيات الله . قيل : بآيات الله : حجج الله . وقيل : دين الله ، وقد ذكرناها في غير موضع . وقد ذكرنا أن قوله : { فَمَنْ أَظْلَمُ } حرف استفهام في الظاهر ، ولكن ذلك من الله على الإيجاب ؛ كأنه قال : لا أحد أوحش ظلماً ممن كذب بآيات الله وصدف عنها [ وقوله : { وَصَدَفَ عَنْهَا } أي أعرض عنها { سَنَجْزِي ٱلَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ } يعرضون ويبدلون … الآية ظاهرة ] . وقوله - عز وجل - : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ … } . قال أهل التأويل : ما ينظرون ، وحرف " هل " هو حرف استفهام وتعجب ، لكن أهل التأويل قالوا : ما ينظرون ، حملوا على الجواب ؛ لأنه لم يخرج له جواب ، فجوابه ما قالوا : ما ينظرون ؛ كما [ قالوا ] في قوله : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً } [ الأنعام : 21 ] ، أي : لا أحد أظلم ممن كذب ، هو جواب ؛ لأن جوابه لم يخرج ، فجوابه ما قالوا : لا أحد أظلم ؛ لأنه سؤال واستفهام ، فجوابه ما ذكروا ؛ فعلى ذلك قوله : { هَلْ يَنظُرُونَ } هو استفهام ولم يخرج له الجواب ، فجوابه : لا ينظرون ؛ كقوله : { مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً } [ يس : 49 ] . ثم قوله : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ ءَايَاتِ رَبِّكَ } . هذا - والله أعلم - يشبه أن تكون الآية في المعاندين منهم والمتمردين ، الذين همتهم العناد والتعنت ، خرج على إياس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من أولئك الكفرة ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصاً على إيمانهم مشفقاً على أنفسهم ؛ حتى كادت نفسه تذهب حسرات عليهم ؛ حرصاً على إيمانهم وإشفاقاً على أنفسهم ؛ كقوله : { فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ } [ فاطر : 8 ] ، وكقوله : { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ … } الآية [ الكهف : 6 ] ، ونحوه ، فآيسه الله - تعالى - عن إيمان أولئك الكفرة ؛ لئلا يطمع في إيمانهم وإسلامهم بعد ذلك ، ولا تذهب نفسه حسرات عليهم ؛ ليتخذهم أعداء ويبغضهم ، ويخرج الشفقة التي في قلبه لهم ، وليتأهب لعدوانهم ، ويتبرأ منهم ؛ كما فعل إبراهيم : { فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ } [ التوبة : 114 ] ، وكما قال لنوح : { أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } [ هود : 36 ] : آيسه الله عن إيمان قومه إلا من قد آمن ، ونهاه أن يحزن عليهم [ وعلى فوت إيمانهم ؛ فعلى ذلك هذا آيس رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إيمانهم ] ، ونهاه أن يحزن عليهم ؛ كقوله : { وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } [ النحل : 127 ] ، إلى الوقت الذي ذكر أنهم يؤمنون في ذلك الوقت ، وهو وقت نزول الملائكة وإتيانهم بآياتهم ، وهو قوله : { إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ ٱلْمَلائِكَةُ } [ النحل : 33 ] . ثم قال بعضهم : تأتيهم الملائكة بقبض الأرواح مع اللعن والسخط ؛ فعند ذلك يؤمنون بالله . وقال بعضهم قوله : { إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ } يوم القيامة ، وهو كقوله : { يَوْمَ يَرَوْنَ ٱلْمَلاَئِكَةَ لاَ بُشْرَىٰ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً } [ الفرقان : 22 ] . وقوله - عز وجل - : { أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ } . على إضمار الأمر ؛ كأنه قال : أو يأتي أمر ربك ؛ على ما ذكر في سورة النحل : { أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ } [ النحل : 33 ] . ثم الأمر فيه عذاب الله ؛ كقوله - تعالى - : { فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا } [ هود : 66 ] ، يعني : عذابنا ؛ فعلى ذلك في هذا : أمر الله عذاب الله ، والأصل فيما أضيف إلى الله في موضع الوعيد لا يراد به الذات ، ولكن يراد به نقمته وعذابه [ وعقوبته ] ؛ كقوله : { وَيُحَذِّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفْسَهُ } [ آل عمران : 28 ] لا يريد به [ ذاته ] ، ولكن يريد به [ نقمته ] وعذابه ؛ كقوله : { مَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ ٱللَّهِ } [ العنكبوت : 5 ] ، لا يريد به [ لقاء ] ذاته ؛ [ وكذلك قوله : { وَإِلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْمَصِيرُ } [ آل عمران : 28 ] ، { وَإِلَى ٱللَّهِ تُرْجَعُ ٱلأُمُورُ } [ البقرة : 210 ] ، وغيرها من الآيات ، لا يراد به ذاته ] ولكن يراد به عذابه ونقمته . أو نقول : إن كل شيء يراد به تعظيمه ، يضاف إلى الله - تعالى - فيراد به تعظيم ذلك الشيء ، أو تعظيم عذابه ونقمته . وقوله - عز وجل - : { أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ ءَايَاتِ رَبِّكَ } : يحتمل بعض آياته ما قال - عز وجل - : { فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قَالُوۤاْ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَحْدَهُ … } [ الآية ] [ غافر : 84 ] . كقوله { فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ … } الآية [ الأحقاف : 24 ] . وكقوله : { سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ } الآية [ المعارج : 1 ] ، ونحوه من الآيات ، يؤمنون عند معاينتهم العذاب ، ولا ينفعهم الإيمان [ في ذلك الوقت ] . ويحتمل ما قال أهل التأويل : طلوع الشمس من مغربها ، وخروج الدجال ، وخروج الدابة ، وعلى ذلك روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ثلاث إذا خرجن لم ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً " ، [ وقال ] أبو هريرة - رضي الله عنه - : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " بادروا بالأعمال ستا : طلوع الشمس من مغربها ، والدجال ، والدخان ، والدابة ، وخويصة أحدكم ، وأمر العامة " ، وخويصة أحدكم : الموت ، وأمر العامة : الساعة إذا قامت . وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال : " التوبة معروضة حتى تطلع الشمس من مغربها " ، ثم قال : " مهما يأتِ عليكم عام [ إلا والآخر ] شر " ونحوه من الأخبار . فإن ثبتت هذه الأخبار فهي المعتمدة . وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت : " إذا خرج أول الآيات ، طرحت الأقلام ، وجست الخطبة ، وشهدت الأجساد على الأعمال " . وقوله - عز وجل - : { لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ ءَامَنَتْ مِن قَبْل } . أخبر أن الإيمان لا ينفع في ذلك الوقت ؛ لأنه ليس بإيمان اختيار في الحقيقة ؛ إنما [ هو ] إيمان دفع العذاب والبأس عن أنفسهم ؛ كقوله : { فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قَالُوۤاْ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَحْدَهُ } [ غافر : 84 ] ، وقوله : { وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } [ الأنعام : 28 ] أخبر أنهم لو ردوا إلى الدنيا ، لعادوا إلى تكذيبهم الرسل وكفرهم بالله ؛ فدل أن إيمانهم في ذلك الوقت إيمان دفع العذاب والبأس وإيمان خوف ، وهو كإيمان فرعون ؛ حيث قال : { حَتَّىٰ إِذَآ أَدْرَكَهُ ٱلْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لاۤ إِلِـٰهَ إِلاَّ ٱلَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنوۤاْ إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ } [ يونس : 90 ] ، لم ينفعه إيمانه في ذلك [ الوقت ] ؛ لأنه إيمان دفع الهلاك عن نفسه ، لا إيمان حقيقة باختيار . والثاني : أنه في ذلك الوقت - وقت نزول العذاب - لا يقدر أن يستدل بالشاهد على الغائب ؛ ليكون قوله قولا عن معرفة وعلم ، وإنما هو قول يقوله بلسانه لا عن معرفة في قلبه [ فلم ينفعه إيمانه ] في ذلك الوقت ؛ لما ذكرنا ، وهو كقوله : { وَلَيْسَتِ ٱلتَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ ٱلآنَ } [ النساء : 18 ] ؛ لأنه إيمان دفع البأس والعذاب ، أو يبالغ بالاجتهاد ؛ حتى يكون إيمانه إيماناً باجتهاد ؛ لذلك كان ما ذكرنا . أو أن يكون في طلوع الشمس من مغربها ، وخروج الدجال ، ودابة الأرض ، وما ذكر من البلاء والشدة والعذاب ما يضطرهم إلى الإيمان به ؛ فيكون إيمانهم إيمان اضطرار لا اختيار . ويشبه أن تكون [ الأخبار ] التي رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا تقبل التوبة بعد طلوع الشمس من مغربها ، وبعد خروج الدجال ودابة الأرض ، أي : لا يثابون على طاعتهم ، وإلا فمن البعيد أن يدعوا إلى الإيمان والطاعات ، ثم إذا أتوا بها لم تقبل منهم ، لكنه يحتمل ما ذكرنا [ بألا ] : لا يثابوا على ذلك ، ويعاقبوا ما كان منهم [ من ] الكفر وكفران النعم ؛ لأن جهة وجوب الثواب إفضال وإحسان ، وفي الحكمة ترك الإفضال بالثواب في الطاعات إذا كان من الله - عز وجل - من النعم ما يكون ذلك شكراً له ، والعقاب على الكفر مما توجبه الحكمة ؛ لذلك كان ما ذكرنا [ واحداً ] ؛ [ ولهذا ] يخرج قول أبي حنيفة - رضي الله عنه - حيث قال : لا ثواب للجن على طاعتهم ؛ لأن طريق وجوبه الإفضال ولم يذكر [ لهم ] ذلك ، ويعاقبون بما كان منهم من الكفران والإجرام ؛ لما ذكرنا من المعنى الذي وصفنا ، والله أعلم بذلك . وقوله - عز وجل - : { لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا } . عند معاينة العذاب والبأس والآيات ؛ إذا لم تكن آمنت من قبل . وقوله - عز وجل - : { أَوْ كَسَبَتْ فِيۤ إِيمَٰنِهَا خَيْراً } . أي : لا ينفع ذا إلا بذا : إذا عملت خيراً ولم تكن آمنت لا ينفعها ذلك ، ولم ينفعها إيمان عند معاينة العذاب والآيات ، إذا لم تكن كسبت قبل ذلك خيراً . وقيل : قوله : { لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ ءَامَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِيۤ إِيمَٰنِهَا خَيْراً } ، أي : لا ينفع نفساً إيمانها إذا لم تعزم ألا ترتد ولا ترجع عنه أبداً . وقيل : { لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ ءَامَنَتْ مِن قَبْلُ } ، أي : لا ينفع نفساً إيمانها ، [ { أَوْ كَسَبَتْ فِيۤ إِيمَٰنِهَا خَيْراً } أي : ] وكسبت في تصديقها التعظيم لله والإجلال ؛ فعند ذلك تنفع صاحبها ؛ لأنه لا كل تصديق يكون فيه التعظيم له والإجلال [ ينفي التعظيم والإجلال ] إذا لم يكن من التعظيم له . وقيل : { أَوْ كَسَبَتْ فِيۤ إِيمَٰنِهَا خَيْراً } ، أي : لم تكن عملت في تصديقها خيراً قبل معاينة الآيات . وقوله - عز وجل - : { قُلِ ٱنتَظِرُوۤاْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ } ، هو يخرج على الوعيد ، أي : انتظروا إحدى هذه الثلاث التي ذكرنا ؛ فإنا منتظرون ، وهو كقوله : { قُلْ تَرَبَّصُواْ فَإِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ ٱلْمُتَرَبِّصِينَ } [ الطور : 31 ] ، وانتظروا العذاب ؛ فإنا منتظرون بكم ذلك .