Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 6, Ayat: 36-39)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - عز وجل - : { إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ ٱلَّذِينَ يَسْمَعُونَ } معناه - والله أعلم - إنما يستجيب الذين ينتفعون بما يسمعون ، وإلا كانوا يسمعون جميعاً ، لكن الوجه فيه ما ذكرنا [ أنه ] إنما يجيب الذين ينتفعون بما يسمعون ، وهو كقوله - تعالى - : { إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ ٱتَّبَعَ ٱلذِّكْرَ } [ يس : 11 ] كان النبي - عليه السلام - ينذر من اتبع الذكر ومن لم يتبع ، لكن انتفع بالإنذار من اتبع الذكر ، ولم ينتفع من لم يتبع ، وهو ما ذكر - عز وجل - : { وَذَكِّرْ فَإِنَّ ٱلذِّكْرَىٰ تَنفَعُ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [ الذاريات : 55 ] أخبر أن الذكرى تنفع المؤمنين ولا تنفع غيرهم . وقوله - عز وجل - : { وَٱلْمَوْتَىٰ يَبْعَثُهُمُ ٱللَّهُ } : اختلف فيه ؛ قال بعضهم : { وَٱلْمَوْتَىٰ يَبْعَثُهُمُ ٱللَّهُ } [ أنه ] على الابتداء ؛ يبعثهم الله ثم إليه يرجعون . وقال قائلون : أراد بالموتى الكفار ، سمي الكافر ميتاً والمؤمن حيّاً في غير موضع من القرآن ؛ كقوله : { أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَٰهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي ٱلنَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي ٱلظُّلُمَٰتِ } [ الأنعام : 122 ] ، فهو - والله أعلم - أن جعل لكل بشر سمعين وبصرين وحياتين ؛ سمع أبدي في الآخرة ، وبصر أبدي في الآخرة ؛ وكذلك جعل لكل أحد حياتين : حياة [ أبدية في ] الآخرة ، وحياة منقضية وهي حياة الدنيا ؛ وكذلك سمع أبدي وهو سمع الآخرة ، وسمع ذو مدة لها انقضاء وهو سمع الدنيا ، ثم نفى السمع والبصر والحياة عمن لم يدرك بهذا السمع والبصر والحياة التي جعل له في الدنيا ، ولم يقصد سمع الأبدية وبصر الأبدية والحياة الأبدية ؛ لأنه إنما جعل لهم هذا في الدنيا ؛ ليدركوا بهذا ذاك ؛ وكذلك العقول التي ركبت في البشر إنما ركبت ليدركوا بها ويبصروا ذلك الأبدي ، وإلا لو كان تركيب هذه العقول في البشر لهذه الدنيا خاصة ، لا لعواقب تتأمل للجزاء والعقاب - فالبهائم قد تدرك بالطبع ذلك القدر ، وتعرف ما يؤتى ويتقى ، وما يصلح لها [ … ] ؛ فدل أن تركيب العقول فيمن ركب إنما ركب لا لما يدرك هذا ؛ إذ يدرك ذلك المقدار بالطبع من لم يركب فيه وهو البهائم التي ذكرنا . والسمع والبصر والحياة قد جعلت في الدنيا لمعاشهم ومعادهم ؛ وكذلك جعل لهم اللسان ؛ لينطق بحوائجهم في الدنيا ، ويعرف بعضهم من بعض حاجته في الدنيا ، ويدرك به الأزلي ، فإذا لم ينتفعوا بذلك أزال عنهم ذلك وسماهم العُمْي والصم والبكم ؛ ألا ترى أنه قال : { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ } [ البقرة : 18 ] لما لم ينتفعوا بذلك ؟ ! ألا ترى أنه إذ لم يدرك الأزلي والأبدي من ذلك سماه أعمى ؛ حيث قال : { قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِيۤ أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً } [ طه : 125 ] . والحياة حياتان : حياة مكتسبة : وهي الحياة التي تكتسب بالهدى والطاعات . وحياة منشأة : وهي حياة الأجسام ؛ فالكافر له حياة الجسد وليس له حياة مكتسبة ، وأما المؤمن : فله الحياتان جميعاً المكتسبة والمنشأة فيسمى كلاًّ بالأسماء التي اكتسبها ، فالمؤمن اكتسب أفعالا طيبة فسماه بذلك ، والكافر اكتسب أفعالا قبيحة فسماه بذلك . وقوله - عز وجل - : { وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ ٱللَّهَ قَادِرٌ عَلَىٰ أَن يُنَزِّلٍ آيَةً } : هؤلاء قوم همتهم العناد والمكابرة [ وإلا ] قد كان أنزل عليه آيات عقليات وسمعيات وحسيات . فأما الآيات العقليات : فهي ما ذكر : { قُل لَّئِنِ ٱجْتَمَعَتِ ٱلإِنْسُ وَٱلْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ … } الآية [ الإسراء : 88 ] . وأما الآيات السمعيات : فهي ما أنبأهم عن أشياء كانت غائبة عنهم ، من غير أن كان له اختلاف إلى من يعلمها وينبئه عنها . [ والآيات الحسيات ] : هي ما سقى أقواماً كثيرة بلبن قليل من قصعة ، وما قطع مسيرة شهرين بليلة واحدة ، ونطق العناق الذي شوي له ، وحنين المنبر ، وغير ذلك من الأشياء مما يكثر ذكرها . لكنهم عاندوا ، وكانت همتهم العناد . وقوله - عز وجل - : { قُلْ إِنَّ ٱللَّهَ قَادِرٌ عَلَىٰ أَن يُنَزِّلٍ آيَةً } : التي سألوك ، { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } : يحتمل وجهين : يحتمل : أن [ يكون ] أن أكثرهم لا يعلمون أنه إذا أنزل آية على أثر السؤال لأنزل عليهم العذاب واستأصلهم إذا عاندوا . ويحتمل قوله تعالى : { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } : أنه لا ينزل الآية إلا عند الحاجة [ بهم ] إليها . ويحتمل ألا يسألوا الآية ليعلموا ، ولكن يسألون ؛ ليتعنتوا . أو [ إن أنزل آية ] على أثر سؤال ، فلم يقبلوها ، ولم يؤمنوا بها ؛ أهلكهم على ما ذكرنا من سنته في الأولين ، لكنه وعد إبقاء هذه الأمة إلى يوم القيامة . وقوله - عز وجل - : { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ } : يشبه أن يكون هذا صلة قوله : { قُلْ إِنَّ ٱللَّهَ قَادِرٌ عَلَىٰ أَن يُنَزِّلٍ آيَةً } [ الأنعام : 37 ] ؛ لأنه ذكر " دابة " ، والدابة : كل ما يدب على وجه الأرض من ذي الروح ، وذكر الطائر ، وهو : اسم كل ما يطير في الهواء . لما كان قادراً على خلق هذه الجواهر المختلفة ، وسوق رزق كل منهم إليهم ، [ فهو قادر ] على أن ينزل آية ؛ [ ولو أنزل آية ] لاضطروا جميعاً إلى القبول لها والإقرار بها ، ولكنه لا ينزل لما ليست لهم الحاجة إليها ، والآيات لا تنزل إلا عند وقوع الحاجة بهم إليها ، وعلى هذا يُخرَجُ [ مخرج ] قوله : { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } [ الأنعام : 37 ] . [ و ] من الناس من استدل بهذه الآية على أن البهائم والطير ممتحنات ؛ حيث قال : { إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ } ، ثم قال : { وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ } [ فاطر : 24 ] . ثم اختلف في قوله تعالى : { إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ } : عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال في قوله - تعالى - : { إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ } : أي : إلا سيحشرون يوم القيامة [ كما تحشرون ] ، ثم يقتص البهائم بعضها من بعض ، ثم يقال لها : كوني تراباً ، فعند ذلك يقول الكافر : { يٰلَيْتَنِي كُنتُ تُرَاباً } [ النبأ : 40 ] ؛ كالبهائم . وعن ابن عباس قال : { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ } ؛ أي : يفقه بعضها من بعض كما يفقه بعضكم من بعض ، وأمم أمثالكم في معرفة ما يؤتى ويتقى . ويحتمل : { إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ } في الكثرة ، والعدد ، والخلق ، والصنوف تعرف بالأسامي كما تعرفون أنتم . وأصله : إن ما ذكر من الدواب والطير { أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ } : سخرها لكم لم يكن منها ما يكون منكم من العناد [ والخلاف ] والتكذيب للرسل والخروج عليهم ؛ بل خاضعين لكم مذللين تنتفعون بها . ويحتمل قوله : { إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ } : في حق معرفة وحدانيته وألوهيته ، أو حق الطاعة لله ؛ كقوله - تعالى - : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ } [ الإسراء : 44 ] . وقوله - عز وجل - : { مَّا فَرَّطْنَا فِي ٱلكِتَٰبِ مِن شَيْءٍ } . اختلف فيه : قال بعضهم : { مَّا فَرَّطْنَا } أي : ما تركنا شيئاً إلا وقد ذكرنا أصله في القرآن . وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : ما تركنا شيئاً إلا قد كتبناه في أم الكتاب : وهو اللوح المحفوظ . وقيل : { مَّا فَرَّطْنَا } : ما ضيعنا في الكتاب مما قد يقع لكم الحاجة إليه أو منفعة إلا قد بيناه لكم في القرآن . { ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ } . قيل : الطير والبهائم يحشرون مع الخلق ، وقيل : { إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ } : يعني بني آدم . وقوله : { وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا } . قال الحسن : { بِآيَاتِنَا } : ديننا . وقال غيره : { كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا } : حججنا : حجج وحدانيته وألوهيته ، وحجج الرسالة والنبوة . ويحتمل : آيات البعث ، كذبوا بذلك كله ، وقد ذكرنا هذا في غير موضع . وقوله - عز وجل - : { صُمٌّ وَبُكْمٌ } . هو ما ذكرنا أنه نفى عنهم السمع ، واللسان ، والبصر ؛ لما لم يعرفوا نعمة السمع ، ونعمة البصر ، ونعمة اللسان . ولا يجوز أن يجعل لهم السمع والبصر واللسان ، ثم لا يعلمهم ما يسمعون بالسمع ، وما ينطقون باللسان ، دل أنه يحتاج إلى رسول يسمعون [ منه ] ، ويستمعون إليه ، وينطقون ما علمهم ، فإذا لم يفعلوا صاروا كما ذكر { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ } [ البقرة : 18 ] لما لم ينتفعوا به ، ولم يعرفوا نعمته التي جعل لهم فيما ذكر . أو نفى عنهم السمع والبصر واللسان ؛ لما ذكرنا أن السمع والبصر ، والحياة على ضربين : مكتسب ، ومنشأ ، فنُفِي عنهم السمع المكتسب ، والبصر المكتسب ، والحياة المكتسبة . وقوله - عز وجل - : { فِي ٱلظُّلُمَاتِ } . يحتمل وجهين : يحتمل : ظلمات الجهل والكفر . والثاني : هم في ظلمات : يعني ظلمات السمع ، والبصر ، والقلب . وهم في الظلمتين جميعاً : في ظلمة الجهل والكفر ، وظلمة السمع ، والبصر ؛ كقوله - تعالى - : { ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ } [ النور : 40 ] ، والمؤمن في النور ؛ كقوله - تعالى - : { نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ } [ النور : 35 ] . وقوله - عز وجل - : { مَن يَشَإِ ٱللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } . وصف - عز وجل - نفسه بالقدرة ، وجعلهم جميعاً متقلبين في مشيئته ، وأخبر أنه شاء لبعضهم الضلال ، ولبعضهم الهدى ، فمن قال : إنه شاء للكل الهدى [ لكن ] لم يهتدوا ، أو شاء للكل الضلال - فهو خلاف ما ذكره عز وجل ؛ لأنه أخبر أنه شاء الضلال لمن ضل ، وشاء الهدى لمن اهتدى . وأصله : أنه إذا علم من الكافر أنه يختار الكفر ، شاء أن يضل وخلق فعل الكفر منه ، وكذلك إذا علم من المؤمن أنه يختار الإيمان والاهتداء ، شاء أن يهتدي وخلق فعل الاهتداء منه .