Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 61, Ayat: 10-14)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - عز وجل - : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } . الإيمان بالله : أن يؤمن بأنه الواحد الأحد ، الصمد الفرد ، الذي لم يلد ، ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ، ويؤمن بأن له الخلق والأمر ، وأنه قادر لا يعجزه شيء ، وعليم لا يخفى عليه شيء ، وحكيم لا يخرج خلقه الأشياء المختلفة من السراء والضراء ، والظلمة والنور ، والمرض والصحة ، عن حكمته . وأنه ليس كما قالت الثنوية : إن خالق الظلمة والشر والقبيح غير خالق النور ؛ بل يعلمه أنه خالق كل شيء ، سواء من ظلمة ونور ، وشر وخير ، وسقم وصحة . ولا على شبيه ما قالت المجوس : إن الله تعالى غفل غفلة فتولد منه الشيطان ؛ بل هو لا يغفل عن شيء ، ولا يخفى عليه شيء . ولا على ما قالت النصارى : حيث شبهوه بالخلق حتى أجازوا أن يكون له ولد . ولا على ما قالت القدرية : إنه لا يقدر شيئا من الشر والسقم والوجع . وعلى ما قالت المعتزلة : إنه ليس له في أفعال العباد صنع وتدبير ؛ بل يعلمه عليما بكل شيء ، قديرا على كل شيء ، متعاليا عن كل شيء من معاني الخلق ، متنزها عن كل آفة وحاجة وعيب ، فهذا هو الإيمان بالله تعالى عندنا ، والله تعالى أعلم . والإيمان بالرسول : هو أن يؤمن بأن ما جاء به صلى الله عليه وسلم فهو حق وصدق . وقوله : { وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } . هذا على وجهين : أحدهما : أن يقاتلوا أعداء الله تعالى . والثاني : أن يجاهدوا في طاعة الله تعالى ، وفيما دعا إليه من الأمر بالجهاد ينصرف إلى أنواع أربعة : جهاد في سبيل الله بمقاتلة أعدائه ، والاستقصاء في طاعته . وجهاد فيما بين الإنسان ونفسه أن يجاهد في قهرها ومنعها عن لذاتها وشهواتها ، وعما يعلم أنه يهلكها ويرديها . وجهاد فيما بينه وبين الخلق ، وهو أن يدع الطمع فيهم ، وأن يشفق عليهم ويرحمهم ، وألا يرجوهم ولا يخافهم . وجهاد فيما بينه وبين الدنيا وهو أن يتخذها زادا لمعاده ، أو مَرمَّة لمعاشه ، ولا يأخذ منها ما يضره في عقباه . وكل هذه الأنواع يستقيم أن يسميها جهادا في سبيل الله . ثم إن هذه الآية تنتظم مسائل ثلاثاً : إحدها : أن كيف أمرهم بالإيمان بعد قوله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } ؟ والثانية : أن كيف يرجى له النجاة إذا آمن بالله ورسوله ، ولم يجاهد في سبيل الله وقد أوجب عليه ذلك ؟ والثالثة : أن كيف يخاف عليه العذاب إذا آمن بالله ورسوله ، وجاهد في سبيل الله ، وأتى بالكبيرة مع قوله : { تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } ؟ أما الجواب عن المسألة الأولى : أنه يحتمل أن يكون المراد من هذه الآية أهل النفاق ؛ فيكون المعنى من قوله : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } في الظاهر ، { هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } ، أي : تصدقون بقلوبكم . ويجوز أن تكون في أهل الكتاب أيضاً فكأنه قال - عز وجل - : يأيها الذين آمنوا بالكتب المتقدمة ، آمنوا بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم وبهذا الكتاب . هذا إذا كان في الكفار . فأما إذا كان في المؤمنين يجوز أن يكون أمر بالإيمان من بعد ما آمنوا ، بمعنى : الثبات عليه أو الزيادة وبحق التجدد ، وأن الإيمان في حادث الأوقات له أسماء ثلاثة : الزيادة ، والثبات ، والتجدد ؛ وذلك أن الله تعالى ذكر هذا النوع في كتابه مرة باسم الزيادة ؛ حيث قال : { لِيَزْدَادُوۤاْ إِيمَٰناً مَّعَ إِيمَٰنِهِمْ } [ الفتح : 4 ] ، ومرة باسم الثبات بقوله : { يُثَبِّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱلْقَوْلِ ٱلثَّابِتِ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } [ إبراهيم : 27 ] ، ومرة بالإيمان بقوله : { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ءَامِنُواْ بِٱللَّهِ } [ النساء : 136 ] . فإن كان على الزيادة والثبات ، فذلك لطف من الله تعالى ؛ وذلك أن الزيادة والثبات هما اسمان يطلقان على فعل دائم ، وفعل الإيمان منقضٍ ، ولكنه يجوز أن يكون الله تعالى بلطفه جعل المنقضي كالدائم ؛ فيخرج هذا الفعل مخرج الزيادة والثبات ، والله أعلم . وإن كان على التجدد في الأوقات الحادثة ، فذلك مستقيم ؛ وذلك لأن المرء منهي عن الكفر في كل وقت يأتي عليه إذا أتى بالإيمان في ذلك الوقت انتهى عن الكفر ؛ فصار لإيمانه حكم التجدد ، والله أعلم . وجائز أن يكون المراد بقوله : { تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } : الاعتقاد ، وإذا كان المراد منه ذلك ، وأتى بما أمر من الاعتقاد بهذه الأمور ، ولكنه لم يف بالفعل ، فهو في رجاء من النجاة ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ } . يعني : ذلك الذي أمركم به من الإيمان بالله تعالى ورسوله والجهاد في سبيله خير لكم من أن تتبعوا أهواءكم . { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } . عيانا بعلمكم أن ذلك خير لكم . وقوله تعالى : { يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } . يعني : يغفر الله لكم بتلك النجاة . وقوله - عز وجل - : { وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً } . يجوز أن يكون رغبهم في هذه الآية بما أمرهم بتركها ؛ وذلك أنه أمرهم بمفارقة مساكنهم وإنفاق أموالهم والجهاد بأنفسهم ، ثم أخبر أنهم إذا فعلوا ذلك آتاهم مكان كل ما فات عنهم خيراً منها : مكان ما فارقوا من المساكن يؤتيهم مساكن طيبة ، ومكان ما أنفقوا من أموالهم يؤتيهم النعيم الدائم ، ومكان ما أفنوا من حياتهم وأنفسهم يؤتيهم حياة دائمة باقية ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { ذَلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ } . يعني : ذلك الثواب الدائم هو الفوز العظيم . وقوله - عز وجل - : { وَأُخْرَىٰ تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّن ٱللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ } . فكأنه يقول يعطيكم الله بتلك التجارة التي دلكم عليها ما ذكر من الثواب في الآجل ، وأخرى تحبونها نصر من الله على أعدائكم في الدنيا ، وفتح البلاد . { وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } ، بهما ، وقد فعل الله تعالى ذلك بهم . وقوله - عز وجل - : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُونُوۤاْ أَنصَارَ ٱللَّهِ } هذا كلام يورث شبهة في القلب أن كيف قال { كُونُوۤاْ أَنصَارَ ٱللَّهِ } والله تعالى لا يخاف [ أحداً ] حتى يستنصر عليه غيره ؟ ولكن السبيل في كشف هذه الغمة عن القلوب هو أن المعنى في هذا وفي قوله : { وَأَقْرَضْتُمُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً } [ المائدة : 12 ] وقد وصفنا في ذلك أن الله تعالى جعل ما يصلون به أرحامهم ويتصدقون على فقرائهم كأنهم أقرضوا الله ؛ كرماً منه وفضلا ولطفا ، فكذلك يحتمل أن يكون جعل ما ينصرون به دينه أو رسوله نصرا له تعالى . وكذلك قوله : { إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرْكُمْ } [ محمد : 7 ] ، والمعنى في هذا : إن تنصروا دين الله ينصركم ، أو إن تنصروا رسول الله أو تنصروا الحق ، والله أعلم أي ذلك كان . ويحتمل أن يكون المراد من ذلك كله ، أي : اجعلوا ما تنصرون به دينكم لله تعالى ولوجهه . وكذلك قوله : { وَأَقْرَضُواْ ٱللَّهَ } [ الحديد : 18 ] تعالى : اجعلوا ذلك لله ولوجهه الكريم ، ولا بد من أن يكون في هذه الآية إضمار : إما في الابتداء أو في الانتهاء حتى تستقيم عليه . وقوله - عز وجل - : { كَمَا قَالَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ } فكأنه يقول : قل للذين آمنوا : كونوا أنصار الله كما قال عيسى بن مريم للحواريين : من أنصاري إلى الله ؟ أو يكون معناه وإضماره في حق الإجابة ، أي : أجيبوا لله ورسوله وكونوا أنصارا له كما أجاب قوم عيسى بقولهم : { نَحْنُ أَنصَارُ ٱللَّهِ } . والحواريون : المتبصرون المنقون دينهم عن الشبهة ، وهم قوم كانوا خيرة عيسى - عليه السلام - وخاصته حيث دعاهم إلى دينه فأجابوه وآمنوا به ، ونقوا دينهم عن كل شبهة وآفة وعيب . وقوله - عز وجل - : { فَآمَنَت طَّآئِفَةٌ مِّن بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّآئِفَةٌ } هذا يحتمل أن يكون في حياة عيسى - عليه السلام - حين اتبعه الحواريون ثم دعا بعد ذلك قومه إلى دينه فآمنت طائفة وكفرت طائفة ، { فَأَيَّدْنَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } بالبراهين والحجج على الطائفة الذين كفروا ؛ { فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ } على أعدائهم بالحجج والبراهين . ويجوز أن يكون بعد وفاة عيسى - عليه السلام - حين اختلفوا في ماهيته : فمنهم من قال : هو الله ، ومنهم من قال : هو ابن الله ؛ فكفرت به هذه الطائفة وآمنت به طائفة أخرى ، فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم حين وقع لهم قتال ؛ فنصروا عليهم وظفروا ، والله أعلم .