Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 61, Ayat: 5-9)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - تعالى - : { وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يٰقَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُمْ } . يحتمل وجهين : أحدهما : تنبيه لهم ، وإعلام عن معاملة اعتادوها فيما بينهم من غير أن يعلموا فيها أذى لموسى - عليه السلام - نحو أن قال في حق رسولنا صلى الله عليه وسلم : { وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِٱلْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ } [ الحجرات : 2 ] ؛ فيجوز أن يكونوا لا يعدون تلك المعاملة أذى لموسى - عليه السلام - ولا يعلمونها ؛ فأخبرهم أنها تؤذيه ؛ لينتهوا عن ذلك . والثاني : أنه يجوز أن يكونوا علموا أن ذلك يؤذيه ، ولكنهم عاندوه وكابروه ، فيخبرهم عن كيف { وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُمْ } ، وقد علموا أن حق رسل الملوك التعظيم والتبجيل ؛ فكيف رسول رب العالمين ؟ ! فأخبرهم أنه يؤذونه شكاية منهم إليهم . ثم اختلفوا في الأذى : فقال بعضهم : أن موسى - عليه السلام - كان لا يكشف عن نفسه ؛ فأذوه بأن قالوا : إن في بدنه آفة ومكروها . وقال بعضهم : إن موسى - عليه السلام - ذهب مع هارون - عليه السلام - إلى جبل ، فقبض هارون في ذلك الجبل ، فآذوه بأن قالوا : قتل موسى أخاه . ومنهم من قال : كانوا يؤذونه بألسنتهم حيث قالوا : { أَرِنَا ٱللَّهَ جَهْرَةً } [ النساء : 153 ] ، وبقولهم : { ٱجْعَلْ لَّنَآ إِلَـٰهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } [ الأعراف : 138 ] ، وبقولهم : { لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ } [ البقرة : 61 ] ؛ ولكن الوجه أن لا يشار إلى شيء بعينه . فإن كان التأويل هو الوجه الأول : أنهم آذوه من غير أن يعلموا أن ذلك يؤذيه أن لا يصرف إليه شيء من هذه الأوجه الثلاثة ، وإن كان على الوجه الثاني فكذلك ، وإن كان على الوجه الثالث جاز أن يصرف إليه أي الوجوه منها ، والله أعلم . ثم حق هذه في رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج على وجهين : أحدهما : أنه يجوز أن يكون بنو إسرائيل آذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره الله تعالى أمر موسى - عليه السلام - وإيذاءهم إياه ؛ ليكون فيه تصبير لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتسكين لقلبه . أو يجوز أن يكون هذا تحذيراً لأصحابه عن أن يرتكبوا ما يخاف أن يكون فيه أذاه - عليه السلام - والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { فَلَمَّا زَاغُوۤاْ أَزَاغَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ } له معنيان : أحدهما : أن يقول : { أَزَاغَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ } ، يعني : خلق فعل الزيغ في قلوبهم يعني : خذلهم الله ، ووكلهم إلى أنفسهم . قالت المعتزلة محتجين علينا : إن الله تعالى قال : { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ ٱلْفَٰسِقِينَ } [ البقرة : 26 ] ذكر أنه إنما يضله بعدما فسق ، وأنتم تقولون : إنه يضله وهو يهدى ؟ قلنا : إن هذا تمويه علينا ، وذلك أنا نقول : إن الله تعالى يضله لوقت اختياره الضلال ، ويزيغه لوقت اختياره الزيغ ، وإذا كان كذلك ، لم يلزم ما قالت المعتزلة ، مع أنهم يقولون : إن الله تعالى يضله بعد ضلالته بنفسه ؛ عقوبة له ، ويريد له هدى بعد اهتدائه ثوابا له . ولا يستقيم كذلك ؛ لأنا قد نراه في الشاهد يكفر بعد إيمان ويؤمن بعد كفره ، وإذا كفر بعدما كان مؤمنا ، وذلك وقت يريده الله تعالى هُدِي ؛ ثوابا لإيمانه المتقدم ؛ فإذا كفر فكأن هداية الله تعالى كانت سبباً لكفره ، أو إذا آمن بعدما كان كافرا وقت عقوبته بالكفر ؛ فكأن عقوبة الله تعالى بالكفر على الكفر المتقدم كان سببا للإيمان ، وهذا كلام مستقبح . وقوله - عز وجل - : { وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَاسِقِينَ } . يعني : الذين علم الله منهم أنهم يختارون الضلال والكفر ؛ فلا يتوبون منه ولا ينقلعون ؛ فلا يهدي أولئك ، وأما من علم منهم أنه يتوب ويسلم فإنه يهديه ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَإِذْ قَالَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ يٰبَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ ٱلتَّوْرَاةِ } . قوله : { مُّصَدِّقاً } يحتمل وجوهاً : أحدها : أن يقول جئت إليكم بالنعت الذي وصفت في التوراة ، أو { مُّصَدِّقاً } بالتوراة وبكتب الله تعالى ؛ ليعلم أن الرسل كان يلزمهم [ الإيمان ] بالكتب المتقدمة والرسل جميعا ، كما يلزم ذلك أمتهم . أو يقول : { مُّصَدِّقاً } ، يعني : آمركم بعبادة الله - عز وجل - وتوحيده كما أمرتم به في التوراة ؛ ليعلم أن الرسل كان دينهم واحدا ، وإن كلهم يدعون إلى التوحيد وعبادة الرحمن ، وأما الشرائع فقد يجوز اختلافها ولا يدل ذلك على اختلاف في الدين ؛ لأن الشرائع قد تختلف في رسول واحد ولا يختلف دينه ؛ فكذلك الرسل ، والله الموفق . وقوله عز وجل : { وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي ٱسْمُهُ أَحْمَدُ } . يعني : مبشرا برسول يصدق بالتوراة على مثل تصديقي ؛ فكأنه قيل له : [ ما ] اسمه ؟ فقال : { ٱسْمُهُ أَحْمَدُ } . وقوله - عز وجل - : { فَلَمَّا جَاءَهُم بِٱلْبَيِّنَاتِ } . قال بعضهم : الذي جاءهم عيسى ، عليه السلام . وقال بعضهم : محمد ، عليه الصلاة والسلام . وقد جاءا جميعاً . وقوله : { بِٱلْبَيِّنَاتِ } ، أي : بالبينات التي تبين أن الذي جاء به إنما جاء من عند الله . وقوله : { هَـٰذَا سِحْرٌ } ، و { ساحر مبين } ، واختلفوا فيمن قيل له هذا : قال بعضهم : هو عيسى ، عليه السلام . وقال بعضهم : هو محمد ، عليه الصلاة والسلام . وقيل : قالوا لهما جميعا . ويحتمل أن يكون هذا قول أكابر الكفرة للضعفاء منهم ؛ وذلك أنهم لم يجدوا سبباً للتمويه سوى أن نسبوه للسحر ، وهذا يدل أنه جاءهم بالآيات المعجزة ؛ حيث نسبوه إلى السحر ، وقالوا : { هَـٰذَا سِحْرٌ } ، وإنا لا نعلم السحر ، ولو كان الذي جاءهم به سحرا كان حجة عليهم ؛ لأنهم قد علموا أن الرسل لم يختلفوا إلى السحرة ، ولم يتعلموا منهم ، وكان لا يتهيأ لهم اختراعه من تلقاء أنفسهم ، فلو كان سحرا كان حجة عليهم ؛ لأنهم قد علموا ما ذكرنا ، ولكن الله تعالى برأه ونزهه من السحر ، والله الموفق . وقوله - عز وجل - : { يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفْوَٰهِهِمْ وَٱللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ } . نور الله يعني : دين الله ، أو كتاب الله ، أو رسل الله . وقوله : { بِأَفْوَٰهِهِمْ } أي : ليست عندهم حجة ولا معنى يدفعون به هذا النور ، سوى أن يقولوا بألسنتهم : هذا سحر . وقوله - عز وجل - : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ } . أي ومن أوحش ظلماً وأقبح ممن بلغ افتراؤه المبلغ [ الذي ] يفتري على الله تعالى الكذب ؛ لأنهم قد علموا أن ما نالوا من نعمه وكرمه ، فإنما نالوه بالله ، ثم كفروا به ، وكذبوا على الله وعلى رسوله . أو يقول : لا أحد أظلم ممن يفتري على الله الكذب ؛ وذلك أن قوله : { وَمَنْ أَظْلَمُ } كلام استفهام ، ومعلوم أن الله تعالى لا يستفهم أحداً ، وإذا كان كذلك ، كان حق كل ما خرج مخرج الاستفهام أن ينظر إلى جوابه لو كان مستفهماً ؛ فيفهم منه معنى قول رب العالمين ، وإنما المفهوم من جواب من يسألهم عن مثل هذا أن يقول : لا أحد أظلم ممن افترى على الله الكذب ، والله يدعو إلى الإسلام ، وهو أن يجعل الأشياء كلها سالمة له ، فهو إذ علم أن ما ناله من نعمة فإنما ناله بالله تعالى ، وعلم الأشياء كلها لله تعالى ، فكيف افترى على الله تعالى الكذب ، وهو يعلم فإنه علم هذا ؟ ! فلا أحد أظلم منه حتى افترى على الله الكذب ، والله الموفق . وقوله - عز وجل - : { وَٱللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ } . له أوجه : أحدها : بالحجج والبراهين . والثاني : بنصر أهله وغلبته . والثالث : بإظهاره في الأماكن كلها . فإن كان على النصر والغلبة ، فقد كان حتى كأن المشركين في خوف والمسلمون في أمن ؛ ألا ترى إلى قوله : { وَلاَ يَزَالُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ حَتَّىٰ يَأْتِيَ وَعْدُ ٱللَّهِ } [ الرعد : 31 ] ، وإلى ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم : " نصرت بالرعب مسيرة شهرين " . وإن كان بالحجج فقد كان أيضاً ، لأنهم عجزوا عن أن يأتوا بما يشبه أن يكون مثلا له ؛ فضلا من أن يأتوا بمثله ؛ فدل أنه قد أتم نوره بالنصر والغلبة والبراهين والحجج . وإن كان المراد منه إظهاره ؛ فإنه يرجى أن يظهر ؛ على ما روي أنه إذا نزل عيسى - عليه السلام - لم يبق على وجه الأرض دين إلا الإسلام . ثم قوله تعالى { وَٱللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ } ليس فيه أنه كان به شيء من الكدر فصفاه ؛ ولكن على ما ذكرناه من التأويل ؛ فكذلك لا يجب أن يفهم من قوله : { ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } [ المائدة : 3 ] : أنه كان ناقصا فأكمله بالشرائع ؛ ولكنه على هذه الوجوه ، يعني : أظهر الدين بالشرائع التي وصفناها في قوله : { وَٱللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ } ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَٰفِرُونَ } . وقال حين ذكر الإظهار : { وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُشْرِكُونَ } لأن هؤلاء كفروا بالرسول والكتاب ، وذلك نعم الله تعالى ؛ فقال : { وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَٰفِرُونَ } ، [ و ] أولئك أشركوا به في التوحيد ؛ فقال : { وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُشْرِكُونَ } ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { هُوَ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِٱلْهُدَىٰ } ، يعني : بما لو اتبعوه اهتدوا به . وقوله : { وَدِينِ ٱلْحَقِّ } له أوجه ثلاثة : أحدها : أن يجعل الحق كناية عن الله تعالى فكأنه قال : ودين الله . والثاني : أن يجعل الحق نعتا للدين ؛ فكأنه قال : والدين الذي هو الحق من بين سائر الأديان . والثالث : أن يقول : الذي يحق على كل أحد قبوله والانقياد له ، والله أعلم . وقوله : { لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِ } له وجهان : أحدهما : أن يقول { لِيُظْهِرَهُ } ، يعني : يظهر رسوله صلى الله عليه وسلم على غيره بما يحتاج في هذا الدين من النوازل ؛ فيكون فيه بيان أن ما جاء عنه - عليه السلام - في هذه النوازل إنما هو بالوحي وبما أظهره الله تعالى عليه . ويحتمل : بإظهار هذا الدين في الأماكن . قال : والدين : هو الخضوع والاستسلام لله تعالى ، فحقيقته أن يجعل الأشياء كلها سالمة له . وقوله { وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَٰفِرُونَ } ، قال الشيخ - رحمه الله - : ويقتضى هذا : ولو كره المعتزلة ؛ لأن إتمام نوره كان بالحجج ، أو بالنصر والغلبة ، أو بإظهاره في الأماكن كلها فإنما يكون ذلك بأفعال العباد ، ثم أضاف الله تعالى إلى نفسه ؛ فثبت أن لله تعالى في أفعال العباد صنعا وتدبيرا ، وإن كان أفعالهم كلها مخلوقة لله لا تخرج عن تدبيره ومشيئته ، والله المستعان .