Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 62, Ayat: 1-4)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - عز وجل - : { يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } . قال : { يُسَبِّحُ لِلَّهِ } ، ولم يقل : يسبح الله ، وقد جرت العادة في الناس التسبيح بالإله ؛ كقولهم : سبحان الله ، وسبحان ربي العظيم ، فكان حق هذا القول على ما جرت به العادة في اللسان أن يقول : يسبح الله ما في السماوات وما في الأرض ، ولكنه يجوز أن يكون هذا من نوع ما يجري فيه اللفظان جميعاً ؛ كما يقال : شكره وشكر له ، ونصحه ونصح له . والتسبيح يحتمل أوجها ثلاثة : أحدها : تسبيح الخلقة : أنك إذا نظرت إلى كل شيء على الإشارة إليه والتعيين ، دلك جوهره وخلقته على وحدانية الله تعالى ، وعلى تعاليه عن الأشباه وبراءته عن جميع العيوب والآفات ؛ فذلك من كل شيء تسبيحه . والثاني : تسبيح المعرفة ، ووجه ذلك : أن يجعل الله تعالى بلطفه في كل شيء حقيقة المعرفة ؛ ليعرف الله تعالى وينزهه ، وإن كان لا يبلغه عقولنا ؛ ألا ترى إلى قوله : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } [ الإسراء : 44 ] . ولكن عندنا بواسطة إحداث نوع حياة فيه ؛ إذ المعرفة بدون الحياة لا تتحقق . والوجه الثالث : هو أن يكون التسبيح تسبيح ضرورة وتلقين ، ووجهه : أن الله تعالى يُجري التسبيح على ذلك الجوهر من غير أن يكون له حقيقة المعرفة ، كما أظهر من آياته وأعلامه على عصا موسى ، وكما أجرى السفينة على وجه الماء ، وإن لم يكن لها حقيقة المعرفة ؛ وذلك تسبيح كل شيء ، والله أعلم . وقوله : { ٱلْمَلِكِ } . يعني : الملك الذي له ملك الملوك ، أو الذي له الملك في الحقيقة . وقوله - عز وجل - : { ٱلْقُدُّوسِ } ، له تأويلان : أحدهما : الطاهر من كل عيب وآفة وحاجة ، أو الطاهر مما يحتمله غيره . والثاني : المبارك ، يعني : به ينال كل بركة وخير . ويجوز أن يجمع في المبارك معنى التنزيه من العيوب ومعنى البركة ؛ لأنك إذا وصفته بالبركة فقد وصفته بالبراءة من كل عيب وأضفت إليه كل بركة ويمن ؛ كما روي في الخبر أن قول : " سبحان الله نصف الميزان ، والحمد لله تملأ الميزان " ، وكان معناهما عندنا أن قول : " سبحان الله " يختص بتبرئته من العيوب ، " والحمد لله " ينتظم معنى التنزيه من العيوب ، ومعنى إضافة النعم كلها إليه ، فإذا كان فيه هذان المعنيان جميعاً ، جاز أن يمتلئ به الميزان ، ولما اختص " سبحان الله " بتطهيره من العيوب ، ولم يتعده إلى غيره ، أخذ نصف الميزان ، والله أعلم . وكذلك هذا الاختلاف في تأويل قوله : { ٱلأَرْضَ ٱلمُقَدَّسَةَ } [ المائدة : 21 ] . وقوله - عز وجل - : { ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ } . العزيز : يعني : الغالب القاهر ، لا يعجزه شيء . أو يجوز أن يكون العزيز مقابل الذليل ، والذليل ينتظم كل فقر وحاجة وضعف ؛ فالواجب : أن ينتظم العزيز - إذا كان ضدّاً ومقابلا - كل شرف ومكرمة وغناء وقوة ، والله الموفق . والحكيم : قالوا : هو الذي يضع الأشياء مواضعها ، فالله تعالى حكيم حيث وضع الأشياء مواضعها التي جعلها الله تعالى مواضع لها ، أو الحكيم : هو الذي لا يلحقه الخطأ في التدبير ، وهو معنى المصيب أيضاً ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { هُوَ ٱلَّذِي بَعَثَ فِي ٱلأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ } . احتج أهل الكتاب علينا أن الله تعالى إنما بعث محمدا رسولا إلى الأميين خاصة بهذه الآية ، وفهموا منها تخصيص الأميين بإرسال الرسول إليهم ، فيقتضي نفيه عن غيرهم . ولكن نقول : لا يجب أن يفهم من الآية نفي ما ذكر في ظاهرها ، بل يفهم منها ظاهرها دون النفي ، والتخصيص بالذكر لا يحتمل على النفي ؛ لأنه إذا حمل التخصيص بالذكر على نفي غيره ، أدى إلى ما لا يستقيم ولا يحل ؛ ألا ترى إلى قوله : { وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ } [ العنكبوت : 48 ] حيث لم يفهم أنه لم يخطه بيمينه أن كان خطه بشماله ، ولا من قوله : { وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ } [ العنكبوت : 48 ] أنه كان يتلى عليه ، ولكن المعنى من ذلك كله والله أعلم : أن الله بعث رسوله أميّاً في قوم أميين لا يعلمون الحكمة وماهيتها ، وجعل ذلك آية لرسالته وحجة لنبوته ؛ لأنه إذا كان أميّاً لا يكتب ولا يقرأ الكتب ، ثم آتاهم الكتاب مؤلفاً منظوماً يوافق كتب أهل الكتاب دل أنه إنما علم ذلك بالوحي ، وأنه لم يختلقه من عند نفسه ، والله أعلم . ثم الدليل على أنه كان رسولا إليهم جميعاً قوله : { كَآفَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً } [ سبأ : 28 ] ، وما روي عنه - عليه السلام - أنه قال : " بعثت إلى الأحمر والأسود " يعني : إلى الإنس والجن ، ولأجل أنه لما بعث إلى طائفة ليدعوهم إلى طاعة الله تعالى وعبادته ، علم أنه رسول إلى غيرهم ؛ إذا لم يكن لهم رسول آخر ؛ لأن الطائفة الأخرى إذ لم يكن لهم رسول آخر ، واحتاجوا إلى معرفة الأمر والنهي وإلى طاعة الرحمن حاجة الطائفة التي بعث إليهم ؛ دل أنه رسول إليهم جميعاً ، والله أعلم . وقوله : { بَعَثَ فِي ٱلأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ } . معناه : أنه بعث صلى الله عليه وسلم في قوم أميين لا يعرفون عبادة الله ولا يقرءون الكتاب ، بل كانت عادتهم عبادة الأصنام . وقيل في تأويل الأميين : هم الذين لم يؤمنوا بالكتب ، ولكن هذا فاسد ؛ لأن الله تعالى سمى نبيه - عليه السلام - أميّاً بقوله : { ٱلنَّبِيَّ ٱلأُمِّيَّ ٱلَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَٱلإِنْجِيلِ } [ الأعراف : 157 ] . وقيل : سماهم : أميين ؛ لأنهم لا يقرءون الكتاب ولا يكتبون على الأعم الأغلب ، وإن كان فيهم القليل ممن يقرأ ويكتب ، ومن هذا سمي النبي صلى الله عليه وسلم : أميّاً ؛ لأنه كان لا يكتب ولا يقرأ في كتاب ولم يعلم ذلك ؛ قال الله تعالى : { وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ } [ العنكبوت : 48 ] ، وعلى ذلك روي عن النبي - عليه السلام - : " الشهر هكذا وهكذا " وأشار بأصبعه ، وقال : " إنما نحن أمة أمية لا تحسب ولا تكتب " . وقال الزجاج : الأمي هو الذي لا يحسن القراءة والكتابة ولم يتعلم ، ويكون على ما سقط من أُمِّهِ فنسب إلى حال ولادته التي سقط من أمه ؛ لأن ذلك إنما يكون بالتعليم دون الحال التي يجري فيها المولود . ثم وجه الحكمة في جعل النبوة في الأمي أن يكون ذلك سبب معرفة نبوته وعلامة رسالته ، بحيث يعلم أنه ما اخترع ذلك من لدن نفسه ؛ إذ لم يعرف الكتابة والقراءة ولا اختلف إلى أحد ؛ ليتعلم منه ، ثم أحوج جميع الحكماء إلى حكمته ، وجميع أهل الكتاب إلى معرفة كتابه ؛ لحسن نظمه وتأليفه ؛ ليعلم أنه إنما ناله بالوحي والرسالة ، والله أعلم . وقوله : { يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ } . الآيات : الأعلام ، فكأنه يقول : يتلو عليهم في كتابه أعلاما تبين رسالته وتظهر نبوته . أو يجوز أن يكون الآيات : الحلال والحرام وما أشبهه . أو الآيات : الحجج التي يستظهر بها الحق ، والله أعلم . وقوله : { وَيُزَكِّيهِمْ } . قال بعضهم : يصلحهم ، يعني : يدعوهم إلى اتباع ما يصيرون أذكياء أتقياء . ويجوز [ أن يكون ] معنى قوله : { وَيُزَكِّيهِمْ } أي : يطهرهم من خبث الشرك وخبث الأخلاق وخبث الأقوال ، والله أعلم . وقوله : { وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ } ، اختلفوا فيه : قال الحسن : هذا كلام مثنى ؛ الكتاب والحكمة واحد . وقال أبو بكر : الكتاب : ما يتلى من الآيات ، والحكمة : هي الفرائض . وقال بعضهم : الحكمة : هي السنة ؛ لأنه كان يتلو عليهم آياته ، ويعلمهم سنته ؛ إما بلطف من الله تعالى وإلهامه إياه أو بالوحي . ومنهم من قال : الكتاب : ما يتلى من الآيات نصّاً ، والحكمة : ما أودع فيها من المعاني ؛ [ والله أعلم ] أي : ذلك كان ؟ وقوله - عز وجل - : { وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } . أي : أنهم كانوا عن الكتاب والحكمة لفي ضلال بين ظاهر ؛ لأنهم كانوا مشركين عبدة الأصنام ، ليس عندهم كتاب ، ولا يعرفون الحكمة . ويحتمل أن يكون معنى قوله : { وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } أي : في الشرك وعبادة الأصنام ، فدعاهم الرسول إلى توحيده وترك ما هم فيه من عبادة الأصنام . قال الفقيه - رحمه الله - في قوله : { وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ } : إن الله تعالى قد جعلهم أتقياء أذكياء علماء بعدما كانوا أميين جهالا سفهاء ؛ آية ودلالة على حقية دينه - عليه السلام - على سائر الأديان ؛ حيث لم يكن أهلها كذلك ، ويكون فيه ترغيب للآخرين ؛ ليصيروا علماء حكماء . وقوله : { وَيُعَلِّمُهُمُ } . يجوز أن يكون هذا تعليماً من الله تعالى ؛ فيجعلهم علماء بعدما كانوا سفهاء ، وأذكياء بعدما كانوا أنجاساً وأقذارا عبدة الأوثان ، وذلك من لطف الله تعالى بهم ؛ لأن ما أضيف من هذه الأفعال إلى الله تعالى ، فهو على حقيقة الوجود ، وما أضيف إلى الرسول فهو على الأسباب ، وذلك أنه لا يجوز أن يعلم الله تعالى أحدا فلا يصير عالما ؛ لأن تعليمه خلق العلم في المحل الذي أراد ، وما أراد وخلق يكون لا محالة ، فأما [ الرسول ] فيجوز أن يعلم البشر فلا يتعلم ؛ لأن تعليمه بسبب ؛ لأنه ليس له قدرة الخلق والإيجاد ؛ فثبت أنه على جهة السبب ، والله الموفق . وقوله - عز وجل - : { وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ } . فإن كان معناه الخفض ، فهو منسوق على قوله : { هُوَ ٱلَّذِي بَعَثَ فِي ٱلأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ } ومن آخرين لم يلحقوا بهم ؛ فيكون فيه إخبار أن رسالته تبقى إلى آخر الدهر . وإن كان معناه النصب فهو منسوق على قوله : { وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ } ، فيكون فيه بشارة أنه يكون في الآخرين علماء أتقياء حكماء كما كان في هؤلاء . وقال بعضهم : يحتمل أن يكون هذا في أهل النفاق ؛ فيكون معناه : فهو الذي بعث في الأميين رسولا فيصيرون علماء حكماء مؤمنين على الحقيقة في الظاهر والباطن ، وآخرين من هؤلاء الأميين في الظاهر لما يلحقوا بهم في الباطن ؛ والتأويل الأول أصح وأقرب . وقوله : { وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ } حيث جعل في كل واحد من البشر أثر الذل به والفقر إليه . وقوله : { ٱلْحَكِيمُ } . في أمره حيث أمرهم بالحكمة . أو الحكيم في تدبيره ؛ حيث جعل في كل مخلوقاته ما يشهد بوحدانيته وتدبيره فيه . أو هو الحكيم في تقديره ؛ حيث خلق الأشياء المتضادة من نحو النور والظلمة والليل والنهار ؛ لأنه وضع كل شيء موضعه ، لم يخلط ظلمة بنور ولا نورا بظلمة ، ولا ليلا بنهار ولا نهارا بليل . وقوله : { ذَلِكَ فَضْلُ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ } : يعني : ذلك الفضل : - النبوة والرسالة - يؤتيه من يشاء ، يعني : يخلق من البشر من يصلح للنبوة والرسالة . أو ذلك الفضل من تعليم الكتاب والحكمة يؤتيه من يشاء . وفيه دلالة على كذب قول المعتزلة ؛ لأن من قولهم : إن الله لا يؤتي أحدا شيئاً بفضله ، بل حق عليه أن يفعل ذلك ، فإذا كان هذا على الله فعله كان ذلك حقّاً يقضيه ، ومن قضى حقّاً ، فليس يوصف بالفضل ، وقد وصف الله تعالى نفسه بالفضل ، فثبت بهذا كذب قولهم ، والله الموفق . وقوله - عز وجل - : { وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ } . أي : ذو الفضل العظيم في الدنيا ؛ حيث تفضل عليهم بالكتاب والحكمة بعدما كانوا جهالا . أو يجوز أن يكون هذا في الآخرة أن الله يجزيهم عن أعمالهم الجنة ؛ فضلا منه عليهم . { ٱلْعَظِيمِ } هو الدائم الباقي ، والله أعلم .