Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 62, Ayat: 9-11)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - عز وجل - : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ ٱلْجُمُعَةِ فَٱسْعَوْاْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ } ، هذا السعي يحتمل وجهين : أحدهما : أن أقبلوا على العمل الذي أمرتم به وامضوا فيه . والثاني : واسعوا في المشي وأسرعوا ، لأن السعي في المشي هو السرعة فيه ، والسعي في الأعمال هو الإقبال عليها والمبادرة إليها ، فإن كان المراد من هذا السعي في المشي فخروج الآية مخرج الترهيب والتضييق ؛ ألا ترى إلى قوله : { وَذَرُواْ ٱلْبَيْعَ } كيف أمرك بترك البيع وقد يمكن البيع في حال المشي ، وإلى قوله : { فَإِذَا قُضِيَتِ ٱلصَّلاَةُ فَٱنتَشِرُواْ فِي ٱلأَرْضِ } كيف أمر بالانتشار في الأرض بعد الفراغ من الفريضة دون أن يذكر هنالك شيئاً في أدائها ، ولو كان المراد منه الترغيب ، لكان يأمره بالعدو إليها ؛ فدلت هذه المعاني أن تخرج الآية على الترهيب والتضييق ، وإن كان السعي في سائر الصلاة المفروضة غير مندوب إليه ؛ على ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إذا أتيتم الصلاة فأتوها وأنتم تمشون ، ولا تأتوها وأنتم تسعون ، عليكم بالسكينة والوقار ، وما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا " فاختص الجمعة به ؛ لما ذكرنا من التضييق هاهنا والتوسيع في سائر الصلاة ، ولكن الأشبه أن المراد من السعي هو الإقبال على أدائها والتأهب لها والمبادرة إليها ، والسعي مستعمل في هذا ؛ قال الله تعالى : { وَمَنْ أَرَادَ ٱلآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ } [ الإسراء : 19 ] ، وقوله : { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ } [ النجم : 39 - 40 ] ، وإنما أراد العمل ، وكذلك روي عن عمر وابن مسعود وأبي وابن الزبير - رضي الله عنهم - أنهم قرءوا : ( فامضوا إلى ذكر ) حتى قال عبد الله : " لو كانت القراءة { فَٱسْعَوْاْ } لسعيت ، ولو سقط ردائي لم ألتفت إليه " ؛ خوفا من تضييع حقها ؛ فذلك يدل على أن تأويل الأول عندهم على الإقبال والمبادرة إليها دون السرعة والمشي ، ولأن هذا موافق لسائر الصلوات في أن العدو غير مستحب ، والله أعلم . والحديث الوارد في السكينة الوقار مطلق ليس فيه فصل بين الجمعة وغيرها ، وعليه إجماع الفقهاء أنه يمشي إلى الجمعة على هينته ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَذَرُواْ ٱلْبَيْعَ } قال بعض الناس بأنه إذا باع في وقت الجمعة ، لم يجز بيعه ؛ لهذه الآية . وعندنا أن البيع جائز ، لكنه مكروه . والذي يدل على جوازه أن النهي عن البيع في هذه الآية ليس لمكان البيع ، ولكن لمكان الجمعة ، فالفساد إذا ورد فإنما يرد في الجمعة لا في البيع ؛ لأنه إذا باع في الصلاة فالبيع يفسد الصلاة ؛ لأن الصلاة تفسد البيع ، ولأن الأصل عندنا أن كل عقد نهي لأجل غيره ، فالنقصان إذا ورد من النهي فإنما يرد في ذلك الغير لا في العقد ، وعلى هذا ما روي عنه - عليه السلام - أنه قال : " المحرم لا ينكح ولا ينكح " إذ النهي عن النكاح إنما هو لمكان الإحرام ليس لمكان النكاح ؛ ولذلك نقول بجواز نكاح المحرم وبفساد الحج إذا جامع بذلك النكاح ؛ لأن النهي إذا لم يكن لنفس العقد لم يستقم فساد العقد والنهي ليس من أجله ، والله أعلم . ثم لما قال : { فَٱسْعَوْاْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ } لم يقل : إلى الجمعة ، ولا : لها ؛ دل أنه قبل الجمعة ذكر يجب الاستماع إليه والسعي إليه ؛ فدل هذا على فرضية الخطبة ، ولما ثبت أن المعنى من قوله : { إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ } أن المراد بالذكر الخطبة ، ثم أمر بترك البيع للسعي إلى هذا الذكر والاستماع له - ثبت أن الكلام في وقت الخطبة مكروه ، وفي وقت خروج الإمام إلى الخطبة مكروه أيضاً ؛ لأن البيع في ذلك الوقت مكروه ، والبيع كلام ؛ فيدل على كراهية كل كلام ؛ فيدل على صحة مذهب أبي حنيفة - رحمه الله - في أنه يلزم السكوت إذا خرج الإمام حتى يفرغ من الصلاة ، وعلى ذلك ورد الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من أتى الجمعة ثم صلى ما شاء أن يصلي ، ثم إذا خرج الإمام سكت إلى أن يفرغ من صلاته - كان ذلك كفارة له من الجمعة إلى الجمعة وزيادة ثلاثة أيام بعده " ، فلما ألزمه السكوت من حين يخرج الإمام إلى أن يفرغ من الصلاة ، ثبت أن الكلام في ذلك الوقت مكروه ، والله أعلم . قال : وفي هذه الآية دلالة على كذب من قال : إن الصلاة إنما تفترض في آخر الوقت ، وأن من أدى فرضاً في أول وقت فإنما يؤدي تطوعا ؛ لأنه أمره بالسعي وفرض عليه إذا نودي ، ومعلوم أنه إذا تهيأ للإمام تأخير الصلاة في ذلك الوقت نص عليه مع ذلك ؛ فدل هذا على كذب مقالتهم ، والله أعلم . وأقبح من هذا أنهم قالوا : إن الصلوات مفروضات على الكفرة في حال كفرهم وعلى المسلمين تطوع مع أنه يجيء على قولهم : إنه ليس أحد من الأمة أدى فرضا ألبتة ؛ لأنه لم يذكر عن أحد منهم أنه فرط في أداء الصلاة حتى خاف خروج وقتها ، فهذا قول قبيح يجب أن يستتاب عنه صاحبه وعن أمثاله ، والله أعلم . وفي هذه الآية دلالة على أن الجمعة لا تجب على من بعد من الإمام بفرسخين ؛ لأنه أمره بالسعي بعد النداء ، ومن بعد فرسخين ، قد يخرج وقت الجمعة ولا يدركها ؛ فثبت أنه على ما دونه وهو أن يكون في حد الأمصار ، والله أعلم . ثم الوقت الذي نهي عن البيع فيه يوم الجمعة : عن مسروق وجماعة : هو وقت الزوال إلى أن يفرغ الإمام من الجمعة . وعن مجاهد والزهري : أنه ينهى عن البيع بعد النداء ؛ عملا بظاهر الآية : { إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ ٱلْجُمُعَةِ } ، والأول أشبه ؛ لأنه إنما يجب الحضور إلى الجمعة عند دخول الوقت وهو زوال الشمس وإن تأخر النداء ؛ ولأن النداء بعد الزوال غير معتبر فكان وجوده وعدمه سواء . وقوله - عز وجل - : { فَإِذَا قُضِيَتِ ٱلصَّلاَةُ فَٱنتَشِرُواْ فِي ٱلأَرْضِ وَٱبْتَغُواْ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ } . أي : رحمة الله ؛ هذا خرج في الظاهر مخرج الأمر ، ولكنه في حكم الإباحة عندنا ؛ لأن هذا أمر خرج على أثر الحظر ، والأصل المجمع عليه عندهم : أن كل أمر خرج على أثر الحظر فهو في حكم الإباحة ، وما خرج مخرج الإباحة فإن الحكم فيه يتصرف على تصرف الأحوال ، فإن كانت الحالة توجب فرضيته كان فرضاً ، وإن كانت توجب واجبا فواجب ، وإن أدبا فأدب . والدليل على أن كل أمر خرج على أثر الحظر ، فهو في حق الإباحة - قوله تعالى : { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَٱصْطَادُواْ } [ المائدة : 2 ] ، وقوله : { فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ ٱللَّهُ } [ البقرة : 22 ] ، ولم يكن ذلك محمولا على الفرض والحتم الذي لا يجوز تركه ، ولكن على إباحة الاصطياد ، أي : اصطادوا [ إن ] شئتم ، وأتوهن إن أردتم ، فكذلك يجوز أن يكون المعنى من قوله : { فَإِذَا قُضِيَتِ ٱلصَّلاَةُ فَٱنتَشِرُواْ فِي ٱلأَرْضِ } على ذلك الوجه ، وإذا كان الأمر على هذا السبيل صار كأنه قال : فإذا قضيت الصلاة التي نودي لها ، فانتشروا في الأرض إن أردتم أو إن شئتم ، والله المستعان . وقوله - عز وجل - : { وَٱبْتَغُواْ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ } . يعني : التجارة والكسب ، قال : البيع ؛ كأنه ينتظم ابتغاء فضل الله ، لكن قال فيما خرج [ مخرج ] الإذن والإطلاق : { وَٱبْتَغُواْ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ } ، وقال فيما نهى عن ذلك : { وَذَرُواْ ٱلْبَيْعَ } ، وإن كان المراد منهما جميعاً البيع ؛ لأن كان يقبح أن يقول : وذروا ابتغاء فضل الله ؛ ولأن ابتغاء الفضل يتضمن البيع وغيره ؛ فلا يستقيم أن يقال : " وذروا ابتغاء فضل الله " ، فقال هاهنا { وَذَرُواْ ٱلْبَيْعَ } ؛ ليلحقه النهي خاصة ، وأما الإطلاق والإذن ، فإنه يستقيم في البيع وغيره ، فقال : { وَٱبْتَغُواْ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ } ، والله المستعان . وقوله : { وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيراً } ، يحتمل وجهين : أحدهما : اذكروا الله كثيرا بألسنتكم وقلوبكم . والثاني : اذكروا الله بالإقبال على الطاعات التي فيها تحقق ذكر الله . وقوله : { لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } ، له أوجه : أحدها : على رجاء الفلاح . والثاني : أي : لكي تفلحوا . والثالث : على قطع وجوب الفلاح إذا فعل ذلك ؛ بما قالوا : إن ( لعل ) و ( عسى ) من الله تعالى واجب . وقوله : { وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً ٱنفَضُّوۤاْ إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً } . التجارة واللهو لا يريان في الحقيقة ، وإنما يرى اللاهي والتاجر ، ولكنه ذكر فيه الرؤية ؛ لقرب اللهو من اللاهي والتجارة من التاجر ، كما قال تعالى : { حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلاَمَ ٱللَّهِ } [ التوبة : 6 ] وكما يقال : سمعت كلام فلان ، والكلام ليس بمسموع في الحقيقة ، وإنما المسموع في ذلك الصوت الذي به يفهم كلامه ، ولكن أطلق لفظ السماع في ذلك لتقاربهما ، والله أعلم . وبعد ، فإن المعنى من هذا - والله أعلم - ليس نفس الرؤية ؛ وإنما المعنى منه عندنا : كأنه قال : ( وإذا علموا ) ؛ وذلك أنهم كانوا لا يرون التجارة ، ولكن ينهى إليهم خبرها فيعلمون بها . وقوله - عز وجل - : { ٱنفَضُّوۤاْ إِلَيْهَا } . ولم يقل : ( إليهما ) وقد ذكر شيئين ، ولم يلحق ما بعدهما من الكناية بهما ، بل بأحدهما ، ويجوز مثل ذلك ؛ كقوله : { وَٱلَّذِينَ يَكْنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا } [ التوبة : 34 ] ، ولم يقل : ( ولا ينفقونهما ) لرجع الكناية إلى جميع ما سبق ذكره ، وكما قال : { وَٱسْتَعِينُواْ بِٱلصَّبْرِ وَٱلصَّلَٰوةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى ٱلْخَٰشِعِينَ } [ البقرة : 45 ] وقد رجعت الكناية إلى أحد المذكورين لا إليهما ، وكذلك هذا ، وهذا ؛ لأن المقصود من خروجهم إنما كان هو التجارة دون اللهو ، ولكنهم إنما يعلمون ما يجلب إليهم بذلك اللهو ؛ فجاز أن يكون ذكر الله لهذا المعنى ، وإنما المقصود من ذلك التجارة ، وكذلك قوله : { وَلاَ يُنفِقُونَهَا } [ التوبة : 34 ] فذكر حق الإنفاق فيما كان الإنفاق منه أيسر وأسهل في المتعارف وذلك الفضة ، وإن كان الحق واجبا فيهما جميعاً ؛ لما أن المقصود [ واحد ] وهو الصرف إلى الفقراء فعلى ذلك هاهنا ، وأما المعنى منه عندنا : إنما خص الصلاة برجوع الكناية إليها ؛ لأنها ثقلت على اليهود ؛ لأن القبلة كانت أولا إلى بيت المقدس فلما حولت إلى الكعبة ثقلت الصلاة إلى الكعبة على الكفار ، فقال : { وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ } [ البقرة : 45 ] يعني : الصلاة إلى الكعبة ، والله أعلم . فإن قيل : كيف جاز أن ينفر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الخطبة إلى اللهو والتجارة ، مع جلال قدرهم وتعظيمهم للنبي عليه السلام ، وكذلك السؤال عن ضحكهم حين دخل الأعمى المسجد فوقع في بئر ؟ ! والجواب عن هذا أن القوم كانوا حديثي عهد بالإسلام ، وكانوا من سوقة القوم ومن سفلتهم ، ولم يكونوا عرفوا حق الخطاب وحق الخطبة عليهم ، وكانت تلك تجارة يأملون منها منافع لو لم يبادروا إليها ذهبت عنهم ، فإنما خرجوا من المسجد ؛ جهلا منهم بحق الخُطْبة والخاطب . وبعد فإنهم لم يكونوا من أجلة القوم ، ولا صَاحَبُوا أجلتهم ؛ ليعرفوا حق الخُطْبة والخاطب ، فانفلت منهم الزلة ، ومن مثلهم هذه ، فأما الذين كانوا من أجلة الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - ومن علمائهم ، فلم ينفر واحد منهم . وكذلك الضحك أيضاً يجوز أن يكون من ضحك من أتباع القوم وسفلتهم ، ولم يكونوا من الأجلة والنجباء ، ولا يستنكر من مثل أولئك هذا الصنيع ، والله أعلم . قال : والمعنى من ترك النبي عليه السلام نهيهم عن الخروج - وجهان : أحدهما : أن يكون الكلام كان محرماً وقت الخطبة ؛ فلم ينههم للنهي عن الكلام في ذلك الوقت . والثاني : يجوز أن يكونوا أسرعوا الخروج ؛ فلم يبلغهم نهيه ، أو لم ينههم ؛ لما علم أنهم لم يسمعوا ، والله أعلم . وفي الخبر " أنه عد الذين ثبتوا معه بعدما فرغ من الصلاة فوجدهم اثني عشر رجلا ، فقال : " لو لحق آخركم بأولكم لاضطرم الوادي ناراً " أي : المدينة ، ففي هذا دلالة على أن الجمعة تقام بدون الأربعين ؛ لأنه - عليه السلام - جمع باثني عشر رجلا ، والله أعلم . وقوله : { وَتَرَكُوكَ قَآئِماً } . هذا يدل على [ أن ] الخطبة إنما تكون قائما . وقوله : { قُلْ مَا عِندَ ٱللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ ٱللَّهْوِ وَمِنَ ٱلتِّجَارَةِ } . قال إمام الهدى : ولولا هذا قد كان يعلم أن ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة ، ولكن المعنى من ذلك - والله أعلم - أن الدنيا كلها متجر ، وأن أهلها فيها تجار : إما تجارة الدنيا ، أو تجارة الآخرة ؛ لأن الطاعة والعبادة في الاعتبار كأنها تجارة ؛ لأنه يكتسب بها منافع الآخرة ، وتجارة الدنيا يكتسب بها منافع الدنيا ، فقال : التجارة التي عند الله في طاعته واكتساب منافع الآخرة خير من اللهو ، ومن التجارة التي يكتسب بها منافع الدنيا ، والله أعلم . وجائز أن يكون معناه كأنه قال : اتقوا الله ؛ فإنكم إذا اتقيتموه اكتسبتم به المنافع في الرزق وغيره ، والتجارة الدنيوية لا يكتسب بها إلا منافع الدنيا ؛ ألا ترى إلى [ قوله ] : { وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } [ الطلاق : 2 - 3 ] ، وقال في موضع آخر : { يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ } [ التغابن : 9 ] ، فإذا كانت التقوى يستفاد بها الرزق والبر في الأمور وكفارة الذنوب ، والتجارة لا يكتسب بها إلا منافع الدنيا ، فرغبهم فيما فيه جملة المنافع وهو التقوى ؛ ليمكثوا عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فيقول : رغبتكم فيما يكسبكم جملة المنافع إن اتقيتم ومكثتم عند النبي صلى الله عليه وسلم خير من اللهو ومن التجارة التي تُكْسِبكم منفعة واحدة ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ } . ليس يقتضي ذكر هذا أن هناك رازقا آخر ؛ ليكون هو خيرهم ، ولكن المعنى من هذا [ كالمعنى ] في قوله : و { أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ } [ المؤمنون : 14 ] و { أَحْكَمُ ٱلْحَاكِمِينَ } [ هود : 45 ] ؛ لأنه كان هو خير الرازقين ، وأحسن الخالقين ، وأحكم الحاكمين ؛ لأنه لا يحكم إلا عدلا ، ولا يخلق إلا ما فيه حكمة ؛ فكذلك قوله : { وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ } . وجائز أن يضاف الرزق والخلق والحكم إلى العبيد مجازا ، فقال : { وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ } ممن يرزقكم ؛ لأن غيره من الخلق إنما يرزق غيره من رزقه ، ويعدل بحكمه ، ويفعل بتوفيقه وتسديده ، فقال : { وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ } الذين يرزقون من رزقه ، والله أعلم .