Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 63, Ayat: 1-8)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - عز وجل - : { إِذَا جَآءَكَ ٱلْمُنَافِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱللَّهِ } . اختلفوا في تأويل قوله تعالى : { نَشْهَدُ } : قال بعضهم : { نَشْهَدُ } بمعنى : نقسم ونحلف . وقال بعضهم : { نَشْهَدُ } على ابتداء الشهادة . فمن حمله على القسم قرأه { ٱتَّخَذُوۤاْ أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً } يعني : حلفهم ، ومن حمله على الشهادة ابتداء قرأ : { اتخذوا إيمانهم } يعني : تصديقهم ، ليس أنها قراءة واحدة فقرئت بلفظين ، ولكنهما كانا جميعا فقرئت بالمعنيين جميعاً ، والله أعلم . وقوله : { وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } . والإشكال أن كيف قال الله تعالى : { وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } ، وهم إنما قالوا : { نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱللَّهِ } ، ومعلوم أن هذا القول منهم صدق ، ولكن المعنى من هذا - والله أعلم - أنهم طعنوا فيما أظهروا من الخلاف والتكذيب عند غير رسول الله ، فحسبوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اطلع على صنيعهم فأتوا رسول الله يعتذرون إليه ، ويقولون : { نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱللَّهِ } وأن ما بلغك منا من القول كذب وما قلناه ، فأخبر الله تعالى أنهم لكاذبون فيما أخبروا أنهم ما قالوه ، ألا ترى إلى قوله : { يَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ ٱلْكُفْرِ } [ التوبة : 74 ] . ويحتمل أن يكون معناه : إنا نشهد أن في قلوبنا إنك لرسول الله كما نظهره بألسنتنا ، فأخبر الله تعالى أن المنافقين لكاذبون فيما يشهدون بالإيمان في قلوبهم ، ويعلم أن يكون المعنى من قوله : { نَشْهَدُ } أي : نعلم برسالتك في قلوبنا ، والله يشهد إن المنافقين لكاذبون فيما أخبروا أنهم يعلمون رسالته في قلوبهم ، وقد كان ألزمهم برسالته من جهة الآيات والحجج ، ولكن تعاموا عن ذلك العلم استخفافا منهم وتعنتا ؛ فصار ذلك العلم كالجهل الحقيقي ، ثم أخبروا هم عن أنفسهم وضمائرهم أنهم يعلمون ، وأخبر الله أنهم لكاذبون أنهم يعلمون برسالته ، والله أعلم . ثم الواجب أن يعلم ما الذي أحوجهم إلى أن قالوا : { نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱللَّهِ } ، وقد كان كثير من المؤمنين يلقون رسول الله ولا يقولون ذلك ، فكيف قال المنافقون ذلك ؟ ! فمعناه عندنا - والله أعلم - : أنهم حيث اعتادوا مخادعة الله ورسوله امتحنهم الله تعالى بهذه المقالة . ويحتمل أن يكونوا جروا على عادتهم أنهم إذا لقوا المسلمين قالوا : بمثل ما ءامنتم ، وإذا لقوا المشركين قالوا : { إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ } [ البقرة : 14 ] ، فإذا لقوا رسول الله قالوا : { نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱللَّهِ } على عادتهم في كل جنس بما يليق به وبمذهبه ، والله أعلم . ويجوز أن يكونوا يخافون أن قد بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خلافهم وتكذيبهم ؛ فكانوا إذا لقوه قالوا : { نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱللَّهِ } ، اعتذارا عن ذلك الخلاف لو بلغه ؛ ألا ترى إلى قوله : { يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ } كانوا يحسبون من سوء ما يضمرون في قلوبهم من النفاق أن كل من كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنما كلمه بسببهم ، فكذلك الأول ، والله أعلم . ثم قال هاهنا : { نَشْهَدُ } ولم يقل ( نشهد بالله ) ؛ لأن المعنى من هذا الحلفُ ، والحلف من المؤمنين في المتعارف إنما يكون بالله تعالى ؛ فلذلك أجزئ بقوله : { نَشْهَدُ } عن قوله : ( بالله ) فيكون هذا دليلا لقول أصحابنا : إن قوله : { نَشْهَدُ } يكون يمينا حيث ذكر هاهنا بطريق القسم ، والمعنى ما أشير إليه ، والله أعلم . وقوله : { فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } ، له تأويلان : أحدهما : { فَصَدُّواْ } أي : أعرضوا بأنفسهم عن طاعة الله والإيمان برسوله . والثاني : أن صدوا الضعفة عن اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعن الإيمان . وقوله : { إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } . أي : بئس ما كانوا يعملون من الإعراض عن الآيات والحجج ، وحيث آثروا الكفر على الإيمان . ويحتمل : بئس ما كانوا يصنعون من صد الضعفة والأتباع عن الإيمان برسول الله ، صلى الله عليه وسلم . وقوله : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُواّ ثُمَّ كَفَرُوا } ، له تأويلان : أحدهما : ذلك بأنهم آمنوا بلسانهم ثم كفروا بقلوبهم . والثاني : على حقيقة الإيمان والكفر ، وذلك أنهم لما رأوا قلة المسلمين وضعفهم في أنفسهم يوم بدر ، ثم رأوهم مع هذه القلة والضعف غلبوا على الكفار مع كثرتهم - آمنوا برسول الله ورأوا أنهم لا يغلبون أبداً ، ثم إن المسلمين لما غلبوا يوم أحد وأصابهم [ الكفار ] ، اضطربوا في إيمانهم وشكوا وكفروا ؛ وذلك بمعنى قوله : { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَعْبُدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ ٱطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ ٱنْقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ } [ الحج : 11 ] فكذلك تأويل قوله : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُواّ ثُمَّ كَفَرُوا } . وقوله : { ذَلِكَ } إشارة إلى أن السبب الذي تولد منه نفاقهم وحلفهم . وقولهم : { نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱللَّهِ } هو أنهم آمنوا ثم كفروا . وجائز أنه لم يكن منهم حقيقة إيمان ولا كفر ، ولكنهم كانوا أقواما همتهم الدنيا وسعتها ، وكانوا يكونون مع من يكون معه الدنيا إن رأوها مع المؤمنين أظهروا من أنفسهم أنهم مؤمنون ، وإن رأوها مع الكفار أظهروا أنهم كفار دون أن يكون منهم حقيقة إيمان أو كفر ، والله المستعان . وقوله : { فَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ } . الطبع يجوز أن يكون كناية عن ستر وظلمة في قلوبهم ؛ فلا يرون بها الحق وحججه . قال : ويجوز أن يجعل الله تعالى الكفر ظلمة في القلب لا يبصرون به الحجج والآيات . أو يجوز أن يجعل الكفر كنّاً في قلبه ؛ ليضيق ؛ فلا يرى من بعد ذلك منافعه ومضاره إلا من ذلك الوجه فيكفر ، وأيهما كان فذلك معنى الآية ، يعني : أن اشتغالهم بالكفر وكسبهم إياه غطى قلوبهم وسترها عن أن يبصروا الحق وحججه ، والله أعلم . قال الفقيه - رضي الله عنه - في قوله : { إِذَا جَآءَكَ ٱلْمُنَافِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱللَّهِ } أن المنافقين لم يجيئوا بأجمعهم رسول الله ، وإنما جاءه بعضهم ، وكذلك في قوله : { نَشْهَدُ } أن المعنى من قوله : { نَشْهَدُ } في بعض التأويلات : نقسم ، والقسم ليس من فعل الأتباع والسفلة ، وإنما ذلك من فعل الأجلة والرؤساء ؛ فدل أنه إنما تعاطى هذا الفعل بعض المنافقين ، ثم ذكر الله تعالى ذلك البعض بصيغة الكل ؛ فعلم أنه ليس كل ما خرج في الظاهر مخرج العموم يتناول كل من دخل تحت ذلك الاسم ، ولكنه ينظر في معنى اللفظ وحقيقته ، فإن كان الدليل يوجب تعميمه أجري على عمومه ، وإن كان يوجب تخصيصه أجري على خصوصه ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ } . يحتمل أن يكون معناه ، أي : لا يفقهون ؛ لأنه طبع على قلوبهم ، وإلا لم يعرضوا عن الحق والآيات ، وذلك بأنهم كانوا يظنون أنهم كانوا على الحق ، فأخبر أنهم لا يفقهون أنه طبع على قلوبهم حتى ظنوا أنهم على الحق ، وجعلوا جميع همتهم في المنافع والمضار الدنيوية ، وإلا لو فقهوا أن لله دارا أخرى يجازون فيه بأعمالهم ، لعلموا أنه لا بد من دين يدينون به ، ولم ينظروا إلى منافعهم ومضارهم ، والله المستعان . ويحتمل : أي : لا يفقهون عن الله تعالى ، وأن تعبدهم وأمرهم بطاعة رسوله واتباعه ويحتمل أي : لا يفقهون أنهم يتعبدون ، وأن لله دارا أخرى يسألهم عما فعلوا ، ويجازيهم على جميع ذلك . ثم قال هاهنا : { لاَ يَفْقَهُونَ } ، ولم يقل : ( لا يعلمون ) ؛ لأن الفقه إنما هو الذي يعرف به الشيء بالشيء ، فأخبر أنهم لا يعرفون الآخرة بالدنيا . وقال ابن الراوندي : الفقه هو معرفة الشيء بمعناه الدال على نظيره . وعندنا أن الفقه هو معرفة الشيء بمعناه الدال على غيره كان ذلك نظيرا له أو لم يكن ؛ لأن من عرف الخلق بمعناهم دله ذلك على معرفة الصانع ، ومن عرف الدنيا دله ذلك على معرفة الآخرة ، وليسا بنظيرين . ثم بين الفقه والعلم فصل من وجه وإن كانا جميعا في الحقيقة يرجعان إلى معنى واحد ؛ لأن العلم إنما يجلي الشيء له ، وظهوره بنفسه ، والفقه يعرف بغيره استدلالا ؛ ولذلك جاز أن يقال : الله تعالى عالم ؛ لتجلي الأشياء له ، ولم يجز أن يقال : إن الله فقيه ؛ لأنه لا يعرف الأشياء بالاستدلال ، والله الموفق . والحكمة : وضع الأشياء موضعها ، والإيقان : إنما هو يتولد عن ظهور الأسباب ؛ ولذلك جاز أن يقال : إن الله تعالى حكيم ، ولم يجز أن يقال : إنه موقن ، والله المستعان . وقوله - عز وجل - : { وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ } . في هذا بيان أن الله تعالى قد كان آتاهم حسن الصورة وحسن البيان ، وأنه قد آتاهم العلم ؛ لأن حسن البيان لا يكاد يكون إلا عن علم ؛ فكأن الله تعالى ذكر نعمه التي آتاهم ؛ فإنهم لم يشكروا نعمه وأساءوا صحبتها ، فكأنه يقول : كيف ترجو منهم حسن الصحبة لك ، وإنهم لم يحسنوا صحبة نعمة رب العالمين ؟ ! فيكون [ له ] بعض التسلي ؛ لما اهتم رسول الله صلى الله عليه وسلم من سوء صنيعهم به ، وإعراضهم عن اتباعه وطاعته . وقوله - عز وجل - : { وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ } . يعني : وإن يقولوا تحسب قولهم حقّاً ؛ فتسمع لقولهم لتقبله . ويحتمل : تسمع لقولهم لما يعجبك قولهم ، أو تسمع لقولهم على ما كانت عادته - عليه السلام - في كل من كلمه أنه لا يغير عليه ولا يقطع عليه كلامه حتى يفرغ منه ، ثم قبله إن كان مما يجب قبوله ، وغيره على صاحبه ورده إن كان مستحقّاً للتغيير عليه ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ } . يقول : إنهم فيما يكون من جانبهم وناحيتهم من حسن الصورة والبيان بحيث يعجبك ، وفيما يلقي إليهم من الحق والدين والحكمة كأنهم خشب مسندة لا ينجع فيهم الحق ولا يقبلونه كالخشب المسندة . ويحتمل هذا تمثيلا بالخشب ؛ من حيث إن الخشب المسندة في الظاهر هي الخشب اليابسة التي لا أجواف لها فيوضع فيها شيء ، فكذلك المنافقون كأنهم لا أجواف لهم يوضع فيها الحكمة والدين والحق ، والله أعلم . وجائز أن يكون معناه : كأنهم خشب مسندة ؛ من حيث إن الخشب المسندة ، ليس لها أسماع ولا أبصار ولا قلوب ، فكذلك المنافقون كأنهم بكم عمي في ناحية الحق وقبوله ، والله المستعان . وقوله - عز وجل - : { يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ } ، يحتمل وجهين : أحدهما : يحسبون كل صيحة سمعوها كلمة تهتك عليهم سرهم [ و ] تفضحهم ؛ ألا ترى إلى قوله : { يَحْذَرُ ٱلْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم } [ التوبة : 64 ] ، فأخبر أنهم كانوا يحسبون فضيحتهم وهتك أستارهم والاطلاع على ما في قلوبهم ، فكذلك يحسبون أن من كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنما تكلم بما يهتك عليهم أستارهم ويفضحهم ، والله المستعان . والثاني : يحتمل أن يكون ذلك في الحرب : أنهم كلما سمعوا صيحة في الحرب خافوا أن يكون فيه هلاكهم ، وذلك أنهم كانوا يظهرون الموافقة لكل فريق على حدة ، وإذا وافقوا هذا الفريق صاروا حرباً للفريق الآخر ، وإذا وافقوا الآخر صاروا حرباً لهؤلاء ، فأخبر الله تعالى أنهم يحسبون من كل صيحة سمعوها أن يكون ذلك سبباً لهلاكهم . ويحتمل أن يكون الله تعالى عاقبهم بالخوف الدائم ؛ لتأميلهم الأمن من وجه لم يؤذنوا فيه ؛ وذلك لما وصفنا أنهم كانوا يظهرون الموافقة لكلٍّ ؛ رجاء أمنهم ، وكان جميع مقاصدهم في ذلك تحصيل منافع الدنيا دون الديانة بدين من الأديان ، وذلك غير مأذون فيه ، فلما آثروا ذلك واختاروه من غير أن يؤذن لهم ، عاقبهم بالخوف الدائم إما من الافتضاح والاطلاع على ما في قلوبهم أو من الهلاك ، والله أعلم . وقوله : { هُمُ ٱلْعَدُوُّ فَٱحْذَرْهُمْ } ، له أوجه من التأويل : أحدها : أن يقول : هم العدو ، يعني : أنهم أدنى عدوكم ؛ فاحذرهم في جميع أحوالهم في المطعم والمشرب وغيره ؛ لأن الحذر عمن قرب من الأعداء ودنا أوجب ممن بعد ونأي . أو احذرهم أن تطلعهم على سر فيما تراه وتضمره من الجهاد والحرب ؛ فيحتالون به على هلاكك ، أو يطلعون الكفرة على سرك . أو احذرهم أن تقبل منهم قولا يقولونه عن أصحابك ؛ لأنهم يغرون أصحابك عليك ، فاحذرهم أن تقبل قولهم على أصحابك . وقوله : { قَاتَلَهُمُ ٱللَّهُ } يعني : لعنهم . وقوله : { أَنَّى يُؤْفَكُونَ } ، له تأويلان : أحدهما : أن يقول : أي سبب يمنعهم عن الإيمان بك وطاعتك ، وقد أتيتهم بالآيات والحجج في اطلاعك على سرائرهم ، وذلك لا يكون إلا عن الوحي . أو يقول : { أَنَّى يُؤْفَكُونَ } يعني : أنى يكذبون ؛ تقليدا لأولئك الكفرة من غير أن يظهر لهم في ذلك آية وحجة ، ولا يقلدون البرهان والحجة فيتبعونك ، والله أعلم . وقوله : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ ٱللَّهِ لَوَّوْاْ رُءُوسَهُمْ } . ظاهر هذه الآية أن هذا القول منه إنما كان لجملة المنافقين ، وكذلك قوله تعالى : { لَيُخْرِجَنَّ ٱلأَعَزُّ مِنْهَا ٱلأَذَلَّ } . وروي في الخبر أن هذه الآية نزلت في عبد الله بن أُبيٍّ ابن سلول المنافق ؛ لأنه روي " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان كلما قام يوم الجمعة قام عبد الله بن أُبيٍّ [ ابنُ ] سلول في ناحية المسجد ، وقال : هذا رسول الله ، فوقروه ، وعظموه ، حتى نزلت هذه السورة ، فقال بمثل مقالته ، فقال له عمر - رضي الله عنه - : " اجلس يا كافر ؛ فإن الله تعالى قد فضحك " ، قال : فخرج من المسجد قبل أن يصلي الجمعة ، فاستقبله بعض القوم فسألوه عن خروجه من المسجد قبل أداء الجمعة ، فأخبرهم عن القصة ، فقالوا : ارجع إلى رسول الله وسله أن يستغفر لك ، فلوى رأسه وقال : ما لي إلى استغفاره حاجة " . وروي " أنه لما قال : { لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى ٱلْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ ٱلأَعَزُّ مِنْهَا ٱلأَذَلَّ } ، ثم أراد دخول المدينة من بعد هذه المقالة ، فحبسه ابنه وقال : لا أدعك تدخلها ما لم تقر أنك الأذل وأن رسول [ الله ] هو الأعز ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره أن يخلي عن أبيه ، ثم قال له : " إنك أولى أن تسمى : عبد الله بن أبيك " ، فسمي من بعد ذلك : عبد الله ، وكان يسمى حباباً . فهذان الخبران يدلان على أن هذه الآية إنما نزلت في واحد منهم ، وظاهرها يدل على [ أن ] ذلك كان في جملة المنافقين . ولكن الوجه في ذلك عندنا - والله أعلم - أنه يجوز أن يكون اعتقاد جملتهم على ذلك ، فذكرهم الله تعالى ؛ لاعتقادهم عليه ، وذلك أنهم كانوا أقواماً لا يؤمنون بالآخرة . والاستغفار إنما هو طلب المغفرة ، وذلك إنما يتحقق في الآخرة ، فإذا كان على هذا أصل اعتقادهم جملة ذكرهم الله تعالى على ذلك ؛ وكذلك قوله : { لَيُخْرِجَنَّ ٱلأَعَزُّ مِنْهَا ٱلأَذَلَّ } كان عندهم أن الله تعالى إنما آتاهم العز والغناء والشرف ؛ لفضيلة لهم على محمد صلى الله عليه وسلم ؛ فكانوا ينكرون عليه من ذلك الوجه ، ثم إن الله قد ذكر في هذه الآية أنباء أنه قد كان آتاهم جميع ما به العز والشرف في الدنيا ؛ ليمتحنهم بحقوق هذه النعم وتعظيمها وشكرها ، وأنهم بلغوا في كل ذلك غاية ما عليه عمل الكفرة في سوء الصحبة بالنعم ، وذلك أنه لما قال : { وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ } ، دل أنه كان آتاهم حسن الصورة وحسن البيان ، ولما قال : { هُمُ ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ عَلَىٰ مَنْ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ حَتَّىٰ يَنفَضُّواْ } ؛ دل أنه قد كان آتاهم الغناء ، ولما قال : { لَيُخْرِجَنَّ ٱلأَعَزُّ مِنْهَا ٱلأَذَلَّ } دل أنه قد كان آتاهم العز والشرف ، ومعلوم أن هذه الأسباب التي وصفنا هي أسباب العز والشرف في الظاهر ، ثم أخبر أنهم تركوا شكر ما أنعم عليهم في تعظيم الحق ولم يؤدوا شكره ، وأنهم بلغوا في الباطن في كل شيء من ذلك غايته في سوء الصنع ؛ لأنه دل بقوله تعالى : { هُمُ ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ } على غاية البخل ؛ حيث امتنع عن الإنفاق بنفسه ، وأمر غيره ألا ينفق أيضاً وذلك في غاية البخل ، ولما قال : { كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ } ، فكأنهم كانوا في الغفلة عن ذكر الله وقبول الموعظة غايته ، ولما قال : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ ٱللَّهِ لَوَّوْاْ رُءُوسَهُمْ } دل أنهم كانوا في الاستخفاف به - حيث تركوا الإنصاف ، وأخذوا سبيل الاعتساف والاستكبار عليه - غايته ، ولما قال : { يَحْذَرُ ٱلْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم } [ التوبة : 64 ] دل أنهم كانوا في سوء السريرة غايته . قال : ويجوز أن يقع ذلك منهم لوجهين : أحدهما : أنهم رأوا ذلك حقّاً لهم على الله تعالى . أو يروا أن الله تعالى آتاهم ذلك ؛ تفضيلا لهم على غيرهم ، فكانوا يتكبرون ويستعظمون على غيرهم ، ويستخفون برسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك الوجه ، ولم يتأملوا ولم يتفكروا فيتبين لهم أن الله تعالى آتاهم جميع تلك النعم محنة عليهم ، تعبدهم بأداء شكرها وتعظيم حقها ، وذلك معنى { لاَ يَفْقَهُونَ } أي : لا يستعملون النظر في هذه النعم ، وذلك أنه لو لم يكن رسول الله ، كان يلزمهم أن يتأملوا فيما أوتوا من النعم وينظروا ، فإذا تفكروا في ذلك ، ولم يجدوا لهم عند الله صنعا استوجبوا به عنده مكافأة لذلك ، ولا لهم فضل يفضلهم الله به على غيرهم ؛ فكان يتبين لهم أن الله تعالى إنما أعطاهم هذه النعم محنة ؛ ليتعبدهم بأداء شكرها ؛ ولذلك وقع الفصل فيما بين العلم والفقه : أن ما كان حقه التأمل والنظر ، فحق اللفظ فيه أن يقال : يفقهون ، ولا يفقهون ، وما كان حق العلم به السماع والخبر ، أطلق فيه لفظ ( العلم ) ؛ ولذلك قال عند العزة والغلبة والنصر : { لاَ يَعْلَمُونَ } ؛ لأنهم لم يكونوا يعلمون النصر والغلبة لو لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقوله : { وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ } ، له وجهان : أحدهما : رأيتهم يصدون عن طاعتك واتباعك . والثاني : يصدون ضعفتهم عن اتباعك . وقوله : { سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ } ؛ لأنهم لم يعدوا ذلك زلة وذنبا ؛ لأنه كان عندهم أنهم على الحق . والثاني : ما قلنا : إنهم كانوا لا يؤمنون بالآخرة ، والمغفرة إنما تطلب من الله ، ويتحقق ذلك في الآخرة . وقوله : { لَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَهُمْ } . على ذلك أيضاً أنه لا يغفر أَستغفرت أم لم تستغفر . قال - رحمه الله - : ورسول الله - عليه السلام - كان لا يستغفر للمنافقين بعدما ظهر عنده نفاقهم ، ولكنه يجوز أن يكون هذا قبل ظهور نفاقهم ، والله أعلم . ثم قوله : { لَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَهُمْ } يحتمل وجهين : أحدهما : يقول : لن يغفر الله لهم ما داموا على النفاق ، ولم يتوبوا عنه . والثاني : أن يقول : لن يغفر لهم في قوم علم الله منهم : أنهم لا يؤمنون أبداً ، فقال في أولئك : لن يغفر الله لهم ؛ وكذلك هذا في قوله : { سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ البقرة : 6 ] . وقوله تعالى : { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَـٰسِقِينَ } . فيه أن الله تعالى يملك هداية وراء هداية البيان ؛ لأن من لم يملك شيئاً لم يستقم أن يوصف بالتعظيم أنه لا يفعل ؛ لأنه يعلم إذا لم يقدر ولم يملك لا يفعل ، وإنما يوصف بهذا من يملك ذلك ، ولكن لا يفعل ، فلو لم يملك ولم يقدر خلق فعل الاهتداء فيمن أراد ، لم يوصف بأنه لا يهدي الفاسقين ؛ فدل أنه يملك هداية وراء هداية البيان ، وهو خلق الاهتداء فيمن علم منه ذلك ، والله الموفق . وقال أبو بكر : معنى قوله : { لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَـٰسِقِينَ } أي : لا يهديهم لفسقهم . وقالت المعتزلة : أي : لا يسميهم مهتدين إذا فسقوا وضلوا . وأيهما كان فهو محال ؛ لأن من هدى ضالا لضلالته فهو سفيه ، فكأنه يقول : لا يسفه : ومن سمى الضال : مهتديا فهو كاذب ، فكأنه قال : لا يكذب ، وهما جميعا غير مستقيم ؛ لأنا نعلم أنه لا يسفه ولا يكذب ، فثبت أن في ملكه هداية يهدي من يشاء من عباده سوى هداية البيان ، وإذا ثبت ما وصفنا أن في ملكه هداية سوى هداية البيان ، ثبت أن له فيها مشيئة ؛ لأن من ملك سبباً لم يجز أن يقطع عنه سببه ؛ فلذلك قلنا : إن الله تعالى يضل من يشاء من عباده لمن علم أنه يؤثر الضلال ويختاره على الهدى ، ويهدي من يشاء لمن علم أنه يؤثر الهدى على الضلالة ؛ فيهديه لذلك ويوفقه ويسدده ، والله المستعان . وقوله تعالى : { هُمُ ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ عَلَىٰ مَنْ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ حَتَّىٰ يَنفَضُّواْ } . قد وصفنا أن هذا من غاية بخلهم . وقوله : { حَتَّىٰ يَنفَضُّواْ } دلالة أنهم أرادوا إطفاء هذا النور وإخفاءه ، فأبى الله تعالى إلا إظهاره . وقوله : { وَلِلَّهِ خَزَآئِنُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } . يبسطها على المنافقين ؛ ليمتحنهم بالإنفاق على المؤمنين . أو لله خزائن السماوات والأرض يضيقها على المؤمنين ؛ ليمتحنهم بالصبر في حال الضيق . أو يجوز أن يكون هذا بشارة للمؤمنين بأن الله تعالى يوسع عليهم الدنيا بعدما ضاقت ، وقد جعل حيث فتح لهم الفتوح وآتاهم النصر والغلبة على أعدائهم ، والله أعلم . وقوله - تعالى - : { يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى ٱلْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ ٱلأَعَزُّ مِنْهَا ٱلأَذَلَّ } . الأعز قد يحتمل معاني : أحدها : الأغلب ، وإلا فهو على مثال قوله : { فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي ٱلْخِطَابِ } [ ص : 23 ] ، أي : غلبني في الخصومة . والثاني : الأقوى والأشد ، على مثال قوله - تعالى - : { أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ } [ المائدة : 54 ] يعني : أقوياء وأشداء . والثالث : الأعلى الأجل ، وكذلك قوله : { وَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } [ المنافقون : 8 ] فإن كان الأعلى والأجل فذلك أن المؤمنين أعلى وأجل ؛ لأنهم اتبعوا الحجة بالحجج ، والكفار اتبعوا أهواءهم . وإن كان على الأغلب والأقهر فذلك للمؤمنين بالغلبة والنصرة على أعدائهم . وإن كان على القوة والشدة ، فقد كان ذلك للمؤمنين ؛ لأنه لو لم يوجد ذلك للمؤمنين لم يكن أهل النفاق يظهرون الوفاق للمؤمنين ، ولكنهم رأوا القوة والشدة للمؤمنين مرة ، وللكفار أخرى - أظهروا الموافقة للفريقين جميعاً ؛ ولذلك قال ذلك المنافق : { لَيُخْرِجَنَّ ٱلأَعَزُّ مِنْهَا ٱلأَذَلَّ } ؛ لأنه لما رأى العزة والشدة للكافرين يوم أحد ، توهم أنهم يغلبونهم أبداً ؛ فأظهر النفاق ، وقال عند ذلك : { لَيُخْرِجَنَّ ٱلأَعَزُّ مِنْهَا ٱلأَذَلَّ } ، والله أعلم .