Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 65, Ayat: 1-7)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - عز وجل - : { يٰأيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } : فإنه يخرج على الإضمار - والله أعلم - كأنه يقول : ياأيها النبي قل لأمتك : إذا أردتم أن تطلقوا نساءكم فطلقوهن لعدتهن ؛ والدليل على أنه هكذا ؛ فإنه يخرج الخطاب بعده كله للجماعة ؛ حيث قال : { إِذَا طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } أو خاطب به النبي [ والمراد أمته ] وذلك كثير في القرآن . ثم قوله : { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } أمر بالطلاق للعدة ، ولم يبين أن الطلاق للعدة كيف يكون ؟ وذكر في بعض القراءات { فطلقوهن لِقُبُلِ عدتهن } ، ثم ترك بيان ذلك لا يخلو : إما أن يكون الرسول - عليه السلام - قد بين ذلك لهم ، فعرفوا ذلك ؛ فلم يبين لهم ذلك في الآية ، أو جعل معرفة بيان ذلك إليهم ؛ ليعرفوا بالاجتهاد . ثم قوله : ( لقبل عدتهن ) يحتمل أول عدتهن ، ويحتمل ما يقابل عدتهن وهو الحيض من المقابلة فمن يقول : الاعتداد بالأطهار يجعل القبل كناية عن أول الطهر ، ومن يقولها بالحيض يجعل القبل ما يقابل العدة وهو الحيض ، ثم لنا أن ننظر أي التأويلين أقرب ؟ وقد أجمعوا أن له أن يطلقها في آخر الطهر إذا لم يجامعها فيه ، دل أن تأويل القبل بما يقابل العدة أحق وهو الحيض ، [ والاعتداد به ] أولى ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَأَحْصُواْ ٱلْعِدَّةَ } . يخرج على وجهين : أحدهما : احفظوا الحقوق والأحكام التي تجب في العدة ؛ فأدوها . والثاني : احفظوا نفس ما تعتدون به ، وهو عدد الحيض الذي بها تعتدون ؛ لئلا تزاد ولا تنقص . ثم جعل الإحصاء إلى الأزواج ، يحتمل وجهين : أحدهما : أنهم هم الذين تلزمهم الحقوق والمؤن . والثاني : أنه بهم يقع تحصين الأولاد في العدة ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ } . دل قوله : { مِن بُيُوتِهِنَّ } على صحة مسألة لأصحابنا - رحمهم الله - فيمن حلف ألا يدخل بيت فلان ، فدخل بيتا هو فيه بإعارة [ أو إجارة ] أنه يحنث . ووجه ذلك : أن الله تعالى أضاف البيوت إليهن وإن كان حقيقة الملك للأزواج فيها ، ألا ترى إلى قوله : { أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم } ، ثم قال : { لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ } ؛ فدل قوله { مِن بُيُوتِهِنَّ } : أنه أراد به البيوت التي أسكنهن الأزواج فيها ، وإذا صحت هذه الإضافة ؛ دل على صحة المذهب . وقال الشافعي فيمن حلف لا يدخل مسكن فلان ، فدخل مسكنا هو فيه بإعارة : إنه يحنث ، وقال فيمن حلف لا يدخل بيت فلان : إنه لا يحنث ، واحتج في المسكن : أنه إنما يحنث ؛ لأنه وجد حقيقة السكنى من المحلوف عليه ، فإن كان هذا هو الدليل على الحنث ، فالواجب عليه أن يحنثه في البيت ؛ لوجود البيتوتة على ما حنثه في المسكن ، لوجود السكنى . وبعد : فإن الحنث أقرب في البيت ؛ لأن الله تعالى أضاف البيوت إليهن في كتابه وإن كن هن فيها بإعارة ولم يوجد في السكنى ذلك ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ } . و { مبيَّنة } قرئا جميعاً : فمنهم من حمل الاستثناء [ بقوله : { إِلاَّ } ] على قوله : { لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ } ، وصرفه إليه . ومنهم من صرفه إلى قوله : { وَلاَ يَخْرُجْنَ } ولكل من ذلك وجهان : فأما من حمله على قوله : { لاَ تُخْرِجُوهُنَّ } فإنه جعله استثناء ، وللاستثناء وجهان : أحدهما : لا تخرجوهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة أي : بزنى يزنين ، فتخرجوهن ؛ لإقامة الحد عليهن . أو لا تخرجوهن إلا أن يظهر منهن بذاءة اللسان على أهل أزواجهن فتخرجوهن ؛ لمكان البذاءة التي في لسانهن . ومن حمله على قوله : { وَلاَ يَخْرُجْنَ } ؛ فإنه يجعل معنى قوله : { إِلاَّ } على معنى : لكن ؛ كما قيل في قوله تعالى : { لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلاَّ سَلاَماً } [ مريم : 62 ] ، أي : لا يسمعون فيها لغوا ، ولكن سلاما ، إذ لا يحتمل استثناء السلام من اللغو ؛ لما ليس في جملة اللغو سلام ؛ فيستثنى منه فكذلك قوله - عز وجل - : { وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ } فكأنه قال : لا يخرجن ، ولكن إذا خرجن فخروجهن فاحشة ، ويدل هذا على أن النهي لنفس الخروج ، لا للانتقال . ووجه آخر في ذلك ، وهو : ألا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة ، فإنهن إذا خرجن ، خشي عليهن أن يأتين بفاحشة مبينة كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أيما عبد تزوج بغير إذن مولاه فهو عاهر " ، وكان المعنى من ذلك : أنه إذا تزوج فوطئ فهو عاهر ، ولكن نهي عن النكاح ؛ لأنه يخشى عليه في النكاح أن يطأها فيصير عاهرا ، لا أن يكون نفس التزوج منه زنى ، فكذلك { وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ } فيكون النهي لا عن نفس الخروج ، ولكن لكونه سببا للفاحشة في الجملة ، وطريقا إليها . ثم قوله - عز وجل - : { مُّبَيِّنَةٍ } . فمن قرأ { مُّبَيِّنَةٍ } بالخفض فمعناه : أن نفس الفاحشة إذا تفكر فيها المرء ، ونظر تبين له : أنها فاحشة . ومن قرأ { مبيَّنة } بالفتح ، عني به : أنها مبينة بالبراهين والحجج . وقوله - عز وجل - : { وَتِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ } . الحدود : الموانع والنواهي ، لا يحل مجاوزتها ، ومن ذلك سمي الحداد : حداداً ؛ لأنه يمنع تحديده كل أنواع أمتعته أن تجاوز حدها الذي جعل لها ، والحد في الحقيقة هو : النهاية التي يُنتهى إليها فلا يجاوز ، وإذا كان كذلك كان الخيار إلى صاحب التأويل : فإن شاء حمله على الحد بين الطاعة والمعصية [ أو بين ] الحلال والحرام ؛ حيث ذكر في هذه الآية أنواعا من النهي ؛ فسمي ذلك كله : حدوداً . وقوله - عز وجل - : { وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } . أي : ضر نفسه ، ويجوز أن يكون المعنى منه ، أي : إن جاوز هذا الحد الذي جعله لله تعالى ، فقد وضع نفسه مكانا لم يضعه فيه ربه ، والظلم في الحقيقة وضع الشيء في غير موضعه . والتأويل الآخر : أن من جاوز موانع الله ونواهيه ، فقد ظلم نفسه ؛ دل هذا على أن منافع هذه النواهي ومضارها لا ترجع إلى الله ، بل ترجع نفس الممتحنين . وقوله - عز وجل - : { لَعَلَّ ٱللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرا } . أي : لا يطلق ؛ فإنه إذا طلق لا يدري لعل الله يحدث بعد ذلك ندامة على ما سبق من فعله أو رغبة فيها ؛ فيكون فيه دلالة النهي عن نفس الطلاق ، وقد بينا كراهة نفس الطلاق في الحكمة في أنه ليس من نوع ما يتقرب به ؛ فيكون فيه [ الزيادة في القربة ] ولا مما يستمتع به فيكون فيه زيادة في الاستمتاع ، بل المقصود منه التأديب والمَخْلَصُ ، وفي الواحدة كفاية عما زاد عليها ؛ فكان في هذه الآية دلالة النهي عن نفس الطلاق ، وعن الزيادة على الواحدة والله أعلم . قال : فإن كان تأويل قوله - عز وجل - { لاَ تَدْرِى لَعَلَّ ٱللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً } هو الرغبة فيها أو الندامة على ما سبق منه ؛ فإنه دلالة على إبطال قول المعتزلة ؛ لأن الرغبة والندامة جميعاً من فعل العباد ، والله تعالى قد أضاف ذلك إلى نفسه بقوله : { لاَ تَدْرِى لَعَلَّ ٱللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً } ، وإذا كان كذلك ، ثبت أن لله تعالى في إحداث أفعال العباد صنعا وتدبيرا ، والله أعلم . وقال أصحاب الشافعي : إن قوله { فَطَلِّقُوهُنَّ } يدل على تعليم الوقت في الطلاق دون العدد ، فله أن يطلقها في الوقت أي عدد كان ، ولا يستقيم ذلك ؛ لأن التأويل إنما يستقيم على أحد وجهين : إما [ على ما ] جرى به التفاهم في العادات بين العباد ، وإما على ما جرى به التفاهم في حق الحكمة ، وليس يفهم من قوله : { فَطَلِّقُوهُنَّ } العدد الثلاث على واحد من الوجهين اللذين وصفناهما ؛ ألا ترى أن من قال لآخر : طلق امرأتي ، لم يجز أن يطلقها ثلاثا إلا أن يكون نوى ثلاثاً ؛ فثبت أنه لا يفهم به في [ عبارته لفظ ] الثلاث . وأما وجه الحكمة ؛ فلما ذكرنا : أن الطلاق ليس مما يتقرب به رغبة في الاستكثار منه زيادة في القربة ، ولا مما يستمتع فيستكثر منه زيادة في الانتفاع ، وإنما المراد منه التأديب والمخلص ، وما كان مخرجه هذا المخرج ، كان في حد الرخصة وما خرج مخرج الرخص ، لم يعتد به عما وقعت به الرخصة ، وإذا ثبت ما وصفنا ، ثبت أنه لا يجوز الفهم من قوله تعالى : { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } الثلاث ، والتعليم في العدد أليق به من الوقت ؛ لأنه لا ضرر يلحقه في تعديه عن الوقت المجعول له فيه الطلاق ، ولا شك أنه يلحقه الضرر في تعديه في العدد والزيادة منه ، والله أعلم . ومما يدل على أن المراد من قوله { فَطَلِّقُوهُنَّ } ليس عدد الثلاث قوله : { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } ، ولا شك أنه إذا أوقع عليها ثلاثا ، لم يملك إمساكها ، ومعلوم أن قوله : { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } الطلاق المتقدم من قوله : { فَطَلِّقُوهُنَّ } ، ولو كان المراد عدد الثلاث ، لم يكن لقوله : { فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ } معنى ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } ، فيه فوائد شتى ، وأدلة متفرقة من الفقه والأحكام : أحدها : أن الله تعالى قال : { فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } والمعروف إليها في المتعارف من نوع الفعل أظهر من نوع القول ؛ لأنه إنما يحسن إليها ، استمتاعا وإنفاقا ونحو ذلك ، فذلك نوعه نوع الفعل ؛ فثبت أن حقيقة الإمساك بالمعروف في الأفعال ؛ فلذلك قلنا : إنه إذا راجعها بالفعل يكون مراجعاً ؛ فإن قيل : أليس قال الله تعالى : { وَأَشْهِدُواْ ذَوَىْ عَدْلٍ مِّنكُمْ } والإشهاد على الفعل غير صحيح ؟ فجوابه أن يقال : إن الله تعالى قال : { وَأَشْهِدُواْ } ، ومعلوم أن هذا لو كان بحضرة الشهود ، لم يكن للإشهاد معنى ، بل إذا سمعوا ذلك ، [ صاروا شهداء ] أشهدوا أو لم يشهدوا ، وإذا كان كذلك ، ثبت أن المعنى من هذا الإشهاد على الإمساك المتقدم ، وذلك في الأفعال مستقيم ، والله أعلم . ووجه آخر : وهو أن كل عقد استقام بغير شهود جرى فيه الأمر بالإشهاد نحو قوله : { وَأَشْهِدُوۤاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ } [ البقرة : 282 ] ، وكل ما جعل الشهود فيه شرطا لقوام العقد ، جرى الذكر فيه " لا … إلا " بشهود ، نحو قوله : " لا نكاح إلا بشهود " ، فلما جرى الذكر في هذه الآية بالأمر بالإشهاد بقوله تعالى : { وَأَشْهِدُواْ ذَوَىْ عَدْلٍ مِّنكُمْ } ، ثبت أنه يستقيم من غير شهود ، والله أعلم . ثم في قوله : { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } دليل على أن المراد من الأقراء هو الحيض ؛ فإنه ذكر نوع هذا في كتاب الله في مواضع ؛ قال الله تعالى في موضع : { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِيۤ أَنْفُسِهِنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ } [ البقرة : 234 ] ، وقال في آية أخرى : { فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ } [ البقرة : 232 ] ، وقال في هذا الموضع : { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } ، ومعلوم أن معاني هذه الألفاظ مختلفة وإن اتفقت مخارجها ، واختلافها : أن يكون المراد ببلوغ الأجل في أحد النوعين على التمام وانقضاء الأجل ، والثاني على الإشراف عليه ، وأحق ما يكون في حق الإشراف على البلوغ هو ما يرجع إلى الأزواج ؛ لأنه قد كان لهم حق الإمساك قبل انقضاء الأجل ، وهم أحق بهن ما لم [ يتم بلوغ الأجل ] لا بعده ، وإذا ثبت أن المعنى من قوله : { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } في هذا الموضع هو الإشراف على البلوغ والقرب من انقضاء الأجل دون التمام ، ثبت أن الأقراء : هي الحيض ؛ لأنه لو كان المراد منها الأطهار لم يعرف إشراف الأجل على البلوغ ؛ لأنه لا نهاية لأكثر الطهر ، وأما الحيض فإنه له غاية معلومة ؛ لأن أيامها لا تخلو إما أن تكون عشرا أو دون العشر ، فإن كان عشرا فيعرف بالعد ، وإن كان دون العشر فإن دمها إذا انقطع راجعها قبل أن تغتسل ، وذلك وقت إشراف أجلها على البلوغ ، والأطهار ليس يتحقق فيها المعنى الذي وصفنا ، والله أعلم . ثم قال هاهنا : { فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } ؛ فدل الأمر بالإمساك في الظاهر أنها ما دامت في العدة ، فهي على ملكه ، وقال في موضع آخر : { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ } [ البقرة : 228 ] ؛ فدل على أنه قد وقع شيء من الزوال حتى أمره بردها ؛ فيكون حجة للشافعي في أن الطلاق الرجعي يحرم الوطء ، ولكن المعنى عندنا في هذا - والله أعلم - : أنا قد عرفنا بقوله : { أَوْ فَارِقُوهُنَّ } بعد وجود الطلاق المتقدم : أنه لم يرد به الفرقة للحال ، ولكن معناه : اتركوهن حتى تنقضي عدتهن ، فتفارقوهن ؛ فثبت أنه قد وقع شيء من شبهة الفراق بالطلاق ، وهو أن صار الفراق مستحقّاً لازما حال انقضاء العدة ؛ فيكون له عَرَض الوجود للحال ، فقال : { فَأَمْسِكُوهُنَّ } على إبقائهن على أصل الملك ، وقال : { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ } [ البقرة : 228 ] في ذلك ؛ لرفع تلك الشبهة الواقعة بالطلاق ؛ وهذا على سبيل ما قال تعالى : { لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَآءُو فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُواْ ٱلطَّلاَقَ فَإِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [ البقرة : 226 - 227 ] . وكان الفيء هو الرجوع ، ومعلوم أنه لم يقع بالإيلاء شيء من الفرقة ، ولكن لما كان الإيلاء موجبا للبينونة في العقد ، أوجب في الحال شبهة الفرقة ، وهو استحقاق الزوال ، فذكر الفيء ؛ لرفع تلك الشبهة ؛ وكان تركها منه لا يفيء إليها عزم منه على الطلاق ، فكذلك الأول والله أعلم . والمعروف إذا صنع إليك إنسان صنيعة ، فعرفتها واستحسنتها ، فهو معروف ، وما دفعته وأنكرته ، فليس بمعروف . أو هو الذي عَرَّفَنا اللهُ - تعالى - من المراجعة والمفارقة . ثم المعروف في الحقيقة ما تطمئن إليه القلوب وتسكن عنده الأنفس . وقوله - عز وجل - : { وَأَشْهِدُواْ ذَوَىْ عَدْلٍ مِّنكُمْ } . دل قوله - تعالى - : { ذَوَىْ عَدْلٍ مِّنكُمْ } أن قد يكون منا فساق ، وأن الفسق لا يخرجه من الإيمان ، وكذلك قوله : { مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ ٱلشُّهَدَآءِ } [ البقرة : 282 ] فثبت أن قد يكون منا من لا يرضى ، وأن خروجه ممن يرضى لا يخرجه من الإيمان . وقوله - عز وجل - : { وَأَقِيمُواْ ٱلشَّهَادَةَ لِلَّهِ } . حيث أضافها إلى نفسه هو أنه لا بد في الشهادة من نفع يقع لأحد الخصمين ، وضرر يرجع إلى الآخر ، فكأنه قال : لا ينظر بعضكم إلى رضا من تنفعه الشهادة وإلى سخط من تضره ، ولكن اجعلوها لله تعالى . وقوله - عز وجل - : { ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } . الموعظة وإن كانت لمن يؤمن ولمن لا يؤمن ، فالمعنى في هذا : ذلكم يتعظ بما يوعظ [ به ] من كان يؤمن بالله واليوم الآخر كما كان المعنى من قوله : { إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ ٱتَّبَعَ ٱلذِّكْرَ } [ يس : 11 ] أي : إنما ينتفع بالإنذار من يتبع الذكر ، وكما كان في قوله : { يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَـٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } [ البقرة : 121 ] ، أي : ينتفعون بتلاوته فكذلك الأول ، والله أعلم . وقوله : { يُوعَظُ بِهِ } . أي : بما أمر فيما تقدم من الآيات من الطلاق للعدة ، والنهي عن إخراجهن من البيوت والإنفاق عليهن ، ونحوه إنما يوعظ به - أي : يأخذ بما أمر به ، ونهي عنه في هذه الآيات - من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً } . قد بينا أن التقوى إذا ذكر مفرداً انتظم الأوامر والنواهي ، وإذا ذكر معه البر والإحسان ، صرف التقوى إلى معنى ، والبر إلى معنى ، وذكر في هذا الموضع مفردا ؛ فجاز أن ينتظم الأوامر والنواهي ، ثم جاز أن يكون المعنى من قوله : { وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ } فيما بين له من الحدود ، فلم يضيعه ، { يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً } فيما لم يبين له ، وفيما اشتبه من الحد . أو يجوز أن يكون المعنى من قوله { وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ } ، أي : يجاهد فيما أمره ونهاه ، يجعل له مخرجا في أن يهديه ، ويبين له السبيل ؛ ألا ترى إلى قوله : { وَٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } [ العنكبوت : 69 ] . قال : ويجوز أن ينال من يلزم التقوى خير الدنيا والآخرة ؛ لأن الله تعالى ذكر التقوى ، وما يليه بألفاظ مختلفة ، فقال في موضع : { وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً } وقال : في موضع آخر { يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً } ، وفي موضع آخر { يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ } وفي موضع آخر { إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّٱلَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ } [ النحل : 128 ] ، أي : إن الله مع الذين اتقوا في النصرة والمعونة أو التوفيق والعصمة ، ومن نصره الله - تعالى - فلا يغلبه أحد ، ومن يعصمه الله تعالى فلا يضله أحد ، وإذا نال هاتين الخصلتين ، فقد نال خير الدنيا والآخرة . أو يجوز أن يكون قوله : { وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ } يعني : يتقي عقابه ، يجعل له مخرجا من الشدة في الدنيا وعن سكرات الموت وغمراته وعن شدائد الآخرة وأهوالها . ويجوز أن يكون قوله : { وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ } في مكاسبه ، يجعل له مخرجا من الشبه والحرمات فيسلم منها . أو يجوز أن يكون قوله : { وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ } فيما بين له من الحدود في هذه الآيات المتقدمة ، فحفظها من صحبة النساء على ما أمر به ، { يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً } مما أهمه من ناحيتهن ، { وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } يجوز أن يكون هذا فيما بين له من الحدود إذا حفظها أن يزرقه ما وصفنا من المرأة والمال . ويجوز أن يكون هذا في جميع الأمور من المكاسب والتجارات ؛ لأن التجار يظنون أنهم إنما يرزقون الفضل والربح ؛ لما يدخلون فيها من الشبه والحرمات ، وأنها إذا نُفِيَتْ من تجاراتهم لا يرزقون مثل ذلك ؛ فأخبر - جل ثناؤه - أنهم إذا اتقوا في تجاراتهم تلك الشبه والحرمات ، رزقهم من حيث لم يحتسبوا . أو يجوز أن يكون هذا خطابا للكفرة ؛ وذلك أنهم كانوا يخافون أنهم إذا آمنوا [ برسول الله صلى الله عليه وسلم ] حرموا من الرزق ، وابتلوا بالضيق ، ألا ترى إلى قوله : { وَقَالُوۤاْ إِن نَّتَّبِعِ ٱلْهُدَىٰ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَآ … } الآية [ القصص : 57 ] فكأن الله - تعالى - أمنهم عما يخافون بسبب الإسلام ، وأخبرهم أنهم إذا وحدوا الله تعالى وآمنوا برسوله ، رزقهم من حيث لم يحتسبوا ، ووسع عليهم الرزق ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } . يجوز أن يكون معناه : أي : من يعتمده في كل نائبة ، ويفوض إليه كل نازلة . والوكيل : هو الموكول إليه الأمور . وقيل الوكيل : هو الحافظ ؛ فكأنه قال : ومن يعتمد على الله فيما نابه كفى به وكيلا موكولا إليه أمره ، وكفى به حافظا وناصرا ومعينا . وقوله - عز وجل - : { إِنَّ ٱللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ } . أي : فيما أخبر من حكمه ووعده ووعيده : أن ينزل بهم . ويجوز أن يكون { بَالِغُ أَمْرِهِ } ، أي : مبلغ ما أمر رسوله بتبليغه إلى آخر عصابة [ تكون من أمته ] في تسخيرهم ؛ ليصيروا كأن الرسول بلغهم . وقوله - عز وجل - : { قَدْ جَعَلَ ٱللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً } . قال الحسن : [ جعل ] لكل شيء من أعمال العباد قدراً وثواباً في الآخرة . والوجه عندنا : قد جعل الله لكل شيء مما كان ويكون إلى يوم القيامة من حسن وقبيح في الحكمة قدرا ؛ ألا ترى إلى أفعال العباد أنها كيف تخرج عن تدبيرهم من زمان إلى زمان ومكان ونحو ذلك ؛ ليعلم أن الله - تعالى - هو الذي قدر ذلك المكان والزمان والفعل ، حتى خرج فعل هذا العبد عن تقديره الذي قدره ، والله أعلم . وفي قوله - تعالى - : { وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } وجه آخر ، وهو أنه لو جعل جميع الرزق من حيث لا يحتسب ، جاز ؛ لأن الرزق في الحقيقة هو الذي يتقوى به الإنسان ويتغذى به ، وليس ذلك في عين الأكل والشرب ، ولكن فيما يتفرق من قوة الطعام والشراب في الأعضاء ، وذلك باللطف من الله تعالى ، فثبت أن قوة الأكل والشرب إنما تصل إلى الأعضاء من حيث لا يحتسب الإنسان ، والله أعلم . ثم ليس في قوله - تعالى - : { وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً } تخصيص أن من لا يتقيه لا يرزقه من حيث لا يحتسب ؛ لأنا قد نرى في الشاهد من يرزق من حيث لا يحتسب اتقاه أو لم يتقه ؛ فثبت أن فائدة التخصيص ليس نفي غير المذكور ، ولكن فائدة تخصيص المتقي بالذكر هو أنه يرزقه من حيث يطيب له ، ولا يلام عليه ، وليس ذلك في غير المتقي ، والله المستعان . ثم ليس في قوله : { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } ما يدل على ترك الأسباب ، ولكن لما رأى الناس يفزع بعضهم إلى بعض ويستغيث بعضهم ببعض ، أمرهم أن يجعلوا المقصد والمفزع إلى الله تعالى ، وأن يصيروا هذه الأسباب كلها محنة عليهم ، لا أن يروا أرزاقهم معصومة متعلقة بها ، ألا ترى إلى قوله - تعالى - : { وَٱبْتَغُواْ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ } [ الجمعة : 10 ] كيف أمر بإدراك فضله من تلك التجارة ؛ فثبت أن هذه المكاسب كلها أسباب للخلق ، بها يتوصلون إلى فضل الله تعالى ، وأن المقصد والمفزع فيها إلى الله تعالى ، والله أعلم . ثم اختلفوا في العدة : فمنهم من قال : هي استبراء الرحم . ومنهم من قال : هي عبادة تتبع النكاح الذي استوفي فيه المقصود بالنكاح ، وهذا القول عندنا أصوب ؛ لأوجه : أحدها : أن الاستبراء واجب في حق السنة والأدب قبل الطلاق ؛ فإن من أراد أن يطلق امرأته فالواجب عليه أن يستبرئها بحيضة ثم يطلقها ، وأما العدة فإنها لا تجب إلا بعد الطلاق ، فثبت أنها على ما ذكرنا من العبادة التي تتبع النكاح الذي استوفي فيه المقصود ، والله أعلم . ومعنى آخر : وهو أن العدة لو كانت استبراء ، لكانت تكتفي بالحيضة الواحدة ، فلما قرنت بالعدد ، وفي الواحدة مندوحة عما سواها في حق الاستبراء ، ثبت أنها على الوجه الأول ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَٱللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ ٱلْمَحِيضِ مِن نِّسَآئِكُمْ } . هذا يدل على أن المراد من الأقراء الحيض ؛ وذلك لأن الأصل عندنا في الأصول [ أن الشيء ] متى ذكر باسم مشترك ، ثم جرى البيان له عند ذكر البدل باسم خاص ؛ دل على أن المراد من الاسم المشترك هذا الاسم الخاص المذكور عند البدل ؛ ألا ترى إلى قوله تعالى : { فٱغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ } [ المائدة : 6 ] وكان اسم الغسل مشتركا يتناول الماء وكل مائع ، فلما قال عند ذكر البدل : { فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ } [ النساء : 43 ] ، تبين أن المراد من ذلك الاسم المشترك هو هذا الاسم الخاص المذكور عند البدل ، فكذلك الأول ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { إِنِ ٱرْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ } . اختلفوا في قوله : { إِنِ ٱرْتَبْتُمْ } : أنه أريد به : إن ارتبتم في حيضهن أو في عدتهن ؟ وعندنا الارتياب في عدتهن ؛ لأنه لو كان المراد منه الارتياب في حيضهن ، لكان من حق الكلام أن يقول : " إن ارتبتن " أو يقول : " واللائي ارتبن " ليكون منسوقا على قوله : { وَٱللاَّئِي يَئِسْنَ } فلما قال : { ٱرْتَبْتُمْ } ثبت أن المراد : إن ارتبتم في عدة الآيسات والصغائر ، فهي ثلاثة أشهر ، والله أعلم . أو لأن المرتابة إذا رأت الحيض ارتفع ريبها ، وصار عدتها بالحيض ، وخرجت من العدة بالشهور ، وأما الآيسة والصغيرة ؛ فإنه لا يتوهم عليهما ارتفاع الإياس والصغر ؛ فيكون عدتهما بالأشهر ؛ فلذلك قلنا : إن هذا الارتياب في عدة الآيسات والصغائر . ثم من قول أصحابنا : إن الرجل إذا طلق امرأته الآيسة أو الصغيرة أو الحامل للسنة يطلقها متى شاء ، وليس له وقت معين في طلاقها للسنة ، وإنما كان كذلك ؛ لأنا قد وصفنا في قوله : { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } : أن المراد منه : لقبل عدتهن ، ومعلوم أن عدة التي ترى الحيض أحد شيئين : إما الدم ولم يعتبر ما يقابله وهو الطهر من العدة ، وكذلك من جعل عدتها بالأطهار لم يعتبر ما يقابلها وهو الحيض من العدة ، وإذا كان كذلك لم يكن بد من أن يكون هاهنا شيء يقابل عدتها ؛ فثبت فيه معنى قبل عدتها ؛ فجعل ذلك الطهر ، وأما الآيسة والصغيرة والحامل فجميع أيامها من عدتها ، وهي ثلاثة أشهر ، وليس في أيامها شيء يقابل عدتها ، فلذلك قلنا : إن له أن يطلقها في أي وقت شاء ، وكذلك له أن يطلق الحامل التي من ذوات الأقراء ؛ وذلك لأنه إنما نهي - عندنا - عن الطلاق على أثر الجماع في التي تحيض ؛ لتوهم أن يكون الجماع أحبلها ، فإذا طلقها [ ثم أراد ] نفي الحبل في العدة ، لم يتهيأ له ذلك ، وأما الآيسة والصغيرة والحامل ، فليس فيهن هذا التوهم ، والله أعلم . ثم إن هذه العدة وإن ذكرها في هذه السورة على أثر الطلاق الواحد ؛ فكأنها في التطليقات الثلاث ؛ لأن هذه العدة مكان العدة التي ذكر الله تعالى في سورة البقرة من قوله : { وَٱلْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوۤءٍ } [ البقرة : 228 ] ؛ لأنه ذكر هاهنا : { وَأَحْصُواْ ٱلْعِدَّةَ } على الإجمال وذكرها ثَمَّ على التفسير ؛ فإذا التحق التفسير بالمجمل يصير في المعنى والحكم كأنه واحد ، ومعلوم أن تلك في الواحدة والثلاث ؛ ألا ترى إلى قوله تعالى : { ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَٰنٍ } [ البقرة : 229 ] وقوله : { أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَٰنٍ } [ البقرة : 229 ] هي التطليقة الثالثة . وإذا كان الأمر على ما وصفنا ، ثبت أن للمرء أن يطلق امرأته الحامل للسنة ثلاثا ، والله أعلم . قال - رحمه الله - : في قوله : { لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ } أوجه من الفقه : أحدها : أنه لما قال : { مِن بُيُوتِهِنَّ } دل أنه ألزمهن السكون في بيوتهن التي كن فيها في حالة قيام النكاح ؛ فيكون دليلا [ لقول ] أصحابنا : إنه ليس للزوج أن يسكنها معه في بيته الذي هو فيه ، بل يتركها في ذلك المسكن ، وينتقل هو بنفسه إن كان يريد الانتقال ؛ يصحح هذا قوله : { أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم } فلما أدخل حرف ( من ) في هذه الآية دل أن الواجب على الزوج أن يسكنها في بيت من بيوته ، ولا يدخل عليها في ذلك البيت إلى أن تنقضي عدتها ، والله أعلم . ثم المعنى عندنا في قوله : { لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ } ؛ ليَحْصِنَّ ماءكم ، ولا يخرجن ؛ خوفا من وطء غير الأزواج واشتباه النسب لو حبلن ، وإذا كان النهي عن إخراجها من البيت لهذا المعنى ، لم يكن بد من إيجاب النفقة عليه ؛ لأنها إنما تكتسب نفقتها بالخروج ، فإذا نهيت عن الخروج ؛ لتحصن ماءه ، لم يحتمل أن تكون النفقة على غيره ، والله أعلم . ثم قوله : { وَأُوْلاَتُ ٱلأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ } . روي عن [ ابن ] مسعود - رضي الله عنه - أنه قال : من شاء باهلته أن قوله : { وَأُوْلاَتُ ٱلأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ } نزل بعد قوله في سورة البقرة : { وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً } [ البقرة : 234 ] ، وجعل عدة الحامل بوضع الحمل ، ولا يعتبر أبعد الأجلين ، لكن إن كان ابن مسعود - رضي الله عنه - يباهل ، فعلي - رضي الله عنه - لا يباهل ، ويقول بأن قوله : { وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ } [ البقرة : 234 ] لا يجوز أن يدخل في قوله : { وَأُوْلاَتُ ٱلأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ } ؛ وذلك لأن قوله : { وَأُوْلاَتُ ٱلأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ } إنما ذكر في عدة الطلاق ، وعدة الطلاق لا تتضمن عدة الوفاة إذا كانت بالحيض ، لم تدخل عدة الطلاق في عدة الوفاة ؛ ألا ترى أن من طلق امرأته وهي حائل ممن تحيض ، ثم مات عنها زوجها قبل انقضاء عدتها ، لم تدخل عدة الوفاة في الحيض الثلاث ، بل الحِيَضُ [ هي التي تدخل ] في عدة الوفاة [ في الحيض ، وتؤمر : أن ] تعتد بأبعد الأجلين ، فكذلك أمر الحامل ، وإذا اشتبه الحال أمرت فيه بالاحتياط أن تعتد بأبعد الأجلين ، ولأن عدة الوفاة لم تلزم لوطء متقدم ؛ ألا ترى أنها قد تلزم من لم يكن زوجها من أهل الوطء ، وأما عدة الحبل والحيض ، إنما لزمت لوطء متقدم ، وإذا لم تكن عدة الوفاة من جنس العدة بالحبل ، لم تدخل في عدة الحبل فلا نوجب فيها الاحتياط ، وذلك في الاعتداد بأبعد الأجلين . ثم التخصيص بذكر الإنفاق على الحوامل يحتمل أن يكون بمعنى أنها في الحقيقة لا تدخل في قوله : { لاَ تُخْرِجُوهُنَّ } ؛ لأنا قد وصفنا أنها إنما نهيت ؛ لتحصين ماء الزوج ، وإذا مضت تسعة أشهر ، فقد خرجت عن التحصين ، فكان الواجب أن تسقط النفقة بعد التسعة ، لكن الله تعالى حث على الإنفاق في جميع المدة ؛ لأنها لا محالة إنما بقيت في هذه المدة ؛ لوطئه المتقدم ؛ فلذلك حث الله تعالى في الإنفاق على الحوامل فيما يقع عندنا ، والله أعلم . وأما ابن مسعود - رضي الله عنه - فإنه يجوز أن يكون قوله - تعالى - : { وَأُوْلاَتُ ٱلأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ } عنده مبتدأَ خطابٌ ، ليس بمعطوف على قوله : { وَٱللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ ٱلْمَحِيضِ مِن نِّسَآئِكُمْ إِنِ ٱرْتَبْتُمْ } ؛ لأنا نعلم أنه لا يجوز أن يقع الارتياب فيمن تحتمل القروء ؛ وذلك لأن الأشهر في الآيسات إنما أقيمت مقام الأقراء في ذوات الحيض ، وإذا كانت الحامل ممن تحتمل القروء لم يجز أن يقع لهم شك في عدتها ؛ ليسألوا عن عدتها . وإذا كان كذلك ، ثبت أنه خطاب مبتدأ ، وإذا كان خطابا مبتدأ تناول العِدد كلها ، ومما يدل على أنه مبتدأ خطاب ما روي في خبر سبيعة بنت الحارث الأسلمية : أنها وضعت بعد وفاة زوجها بخمس عشرة ليلة ، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تتزوج ؛ فدل إباحته النكاح قبل مضي أربعة أشهر وعشر على أن عدة الحامل تنقضي بوضع الحمل في جميع الأحوال . وقال الحسن : إن الحامل إذا وضعت أحد الولدين ، انقضت عدتها ، واحتج بقوله : { أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } ، ولم يقل : " أحمالهن " ؛ ولكن لا يستقيم ما قاله ؛ لوجهين أحدهما : أنه قرأ في بعض القراءات { أن يضعن أحمالهن } . والثاني : أنه قال : { أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } ، ولم يقل : " يلدن " ، بل علق بوضع حملهن ، والحمل اسم لجميع ما في بطنهن ، ولو كان كما قاله ، لكان عدتهن بوضع بعض حملهن ، والله تعالى جعل أجلهن أن يضعن حملهن ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً } . فقد وصفنا أن التقوى إذا ذكر مطلقاً مفرداً ، تناول الأوامر والنواهي ، فكأنه قال : ومن يتق الله في أوامره أن يضيعها أو في نواهيه أن يرتكبها ، يجعل له من أمره يسراً . [ ثم قوله : { يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً } . له وجهان : أحدهما : له من أمره يسراً ] في نفس التقوى أن نيسره عليه ، كما قال في قوله : [ { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَـٰبَهُ بِيَمِينِهِ } [ الحاقة ؟ : 19 ] ، وفي قوله ] : { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَٱتَّقَىٰ * وَصَدَّقَ بِٱلْحُسْنَىٰ * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ } [ الليل : 5 - 7 ] يعني : ييسر عليه فعل التقوى والطاعة ، فكذلك الأول . ويحتمل أن يكون في جميع الأمور في المكاسب والتجارات وغيرها : أن من اتقى الله من الحرام ييسر الله عليه الحلال ، ومن اتقى الله من الشبه يسر عليه في المباح ، ومن يتق الله في تجارته ، رزقه ما يرجو من الربح ويأمله ، وكذلك جميع الأمور على هذا السبيل ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { ذَلِكَ أَمْرُ ٱللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ } ، يحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون معنى قوله : { ذَلِكَ أَمْرُ ٱللَّهِ } أي : ذلك التقوى أمر الله أنزله إليكم . ويحتمل أن يكون أراد بقوله : { ذَلِكَ } ما تقدم من الآيات في المراجعة والإشهاد والطلاق والعدة وغير ذلك : أنها وإن خرجت في الظاهر مخرج الخبر ، فإنها كلها أمر الله تعالى ، أنزله إليكم ؛ فاتبعوها وخذوا بأمره فيها ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً } . هذا يدل على ما وصفنا : أن التقوى إذا ذكر مفردا انتظم الأمر والنهي جميعاً ، ألا ترى إلى قوله : { إِنَّ ٱلْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ ٱلسَّـيِّئَاتِ } [ هود : 114 ] ، وقال هاهنا : { وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ } . فجعل التقوى تكفر السيئات ، فلولا أن في التقوى أعظم الحسنات ، لم يكن لقوله : { يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ } معنى ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ } ، وفي قراءة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : { أسكنوهن من حيث سكنتم وأنفقوا عليهن من وجدكم } ويجوز أن تكون قراءة عمر - رضي الله عنه - أيضاً ؛ ألا ترى [ أنه قال ] : ( لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا بقول امرأة ؛ لا ندري أصدقت أم كذبت ) ، فالكتاب هذا ، والسنة يجوز أن يكون سمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك . أو يجوز أن يكون عند عمر - رضي الله عنه - في هذا تلاوة قد رفع عينها وبقي حكمها ؛ لذلك قال : ( لا ندع كتاب ربنا ) ألا ترى إلى ما قاله عمر - رضي الله عنه - في أمر الزنى : " سيأتي على الناس زمان يقولون : لا نجد الرجم في كتاب الله ، وإنا كنا نتلو من قبل في سورة الأحزاب : الشيخ والشيخة إذا زنيا ، فارجموهما ألبتة ؛ نكالا من الله ، والله العزيز حكيم " فقد رفعت التلاوة ، وبقي حكمها ؛ فكذلك في أمر النفقة يجوز أن تكون التلاوة مرفوعة وحكمها باقٍ ؛ والله أعلم ، وقوله : ( لا ندع كتاب ربنا ) في الخبر دلالة أن الكتاب قد ينسخ بالسنة ؛ لأن عمر - رضي الله عنه - إنما احتج في امتناعه عن ترك [ كتاب الله ] بقول امرأة لم ندر أصدقت أم كذبت ؟ ولولا أن الكتاب قد ينسخ بالسنة ، وإلا لم يكن احتجاجه بقوله : ( لا ندع كتاب ربنا بقول امرأة ) معنى ، بل كان يقول : ( لا ندع كتاب ربنا بالسنة ) ، فلما قال : ( لا ندع كتاب ربنا بقول امرأة ؛ لا ندري أصدقت أم كذبت ) ؟ دل أن السنة قد تنسخ الكتاب ، والله أعلم . وروى أبو بكر الأصم أن فاطمة بنت قيس لما أنكر عليها عمر - رضي الله عنه - حديثها تركت روايتها إلى زمن مروان ، فلما استخلف مروان جعلت تروي حديثها ، فأخبر بذلك مروان ، فدعاها فروت هذا الحديث ، فقال لها مروان على ما كان يقول لها عمر - رضي الله عنه - فقالت له : أين كتاب ربنا ؟ فتلا عليها قوله : { أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ } ، فقالت : كيف يحتمل أن يكون هذا في المطلقة ثلاثا ، والله يقول في هذه { فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } ؟ ومعنى الإمساك في المطلقة ثلاثاً معدوم ؛ فأفحم مروان ، ولو فهم مروان ما فهمه عمر لم يفحم ؛ وذلك أن هذه العدة المذكورة في هذه الآيات إنما هي مكان قوله : { وَٱلْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوۤءٍ } [ البقرة : 228 ] ، ولا فرق هناك بين المطلقة الواحدة والثلاث ، وإذا كان المذكور في هذه العدة مكان تلك ، فالمذكور في النفقة في هذه كالمذكور في تلك ، وليس في تلك الآية ذكر الفرق بين الثلاث والواحدة ؛ فلذلك قلنا : في كتاب الله تعالى دلالة إيجاب النفقة للمبتوتة والمطلقة ثلاثاً ، والله أعلم ؛ فيكون حجة على الشافعي ؛ ومما يدل عليه هو أنه لما استدل بذكر الإنفاق في قوله : { فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ حَتَّىٰ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } على وجوب الإسكان والنهي عن الإخراج مع توهم الإنفاق دون الإسكان ، فلأن يستدل بذكر الإسكان على الإنفاق ولا يكون الإسكان ، إلا بالإنفاق ؛ لاتصاله به - أحرى ، فصار قوله : { أَسْكِنُوهُنَّ } دليلاً على وجوب الإنفاق ، وإنما قلنا : إن الإنفاق متصل بالإسكان ؛ لأنه إذا نهي عن إخراجها عن بيته وأمر بإسكانها فلا يحتمل أن يؤمر بالإنفاق ؛ لأن في ذلك تضييقاً عليها وتعسراً ؛ ألا ترى : أنها إنما تكتسب النفقة بالخروج ، فإذا نهى الزوج عن إخراجها ، ونهيت هي عن الخروج ، لم تصل إلى نفقتها إلا بالزوج ضرورة ، والله أعلم . ولأجل أنا نظرنا : أن النفقة في الحامل للحمل أو العدة ، فوجدنا أنها لو كانت واجبة للحمل ، لم تجب إذا كان حملها بحيث لو وضعته ، لم يلزم نفقته عليه ، وقد وجدنا هذا الحكم ، نحو : حر يتزوج أمة رجل بإذن سيدها فولدت ولدا : أن نفقة الولد على السيد ، وكان يجب عليه ما دام في بطن أمه ، فلما استقام وجوب النفقة على الزوج ما دامت حاملا ، وإن كان الحبل بحيث لو وضعته لم يلزمه نفقته - ثبت أن النفقة في الحامل ؛ لمكان العدة لا للحبل ، [ والعدة ] في الحائل والحامل واحدة ؛ فكذلك كان حكمهما واحداً ، والله أعلم . ثم الأصل عندنا ما وصفنا : أن النفقة إنما وجبت ؛ لاستمتاعه المتقدم ، [ فما دامت ] محبوسة ؛ لاستمتاعه السابق أوجبت النفقة عليه ، وإذا كانت محبوسة لا بهذا الحق لم يكن عليه النفقة ، والله أعلم . ولأن في قوله : { أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ } ، إضمار النفقة ، كأنه يقول : أسكنوهن من حيث سكنتم ، وأنفقوا عليهن من وجدكم ؛ لأنه لولا هذا الإضمار ، لم يكن لقوله : { مِّن وُجْدِكُمْ } على الظاهر معنى ؛ لأنه لما قال : { أَسْكِنُوهُنَّ } ، علم أنه جعل الإسكان عليهم ، ومن كان عليه الإسكان ، فإنما يكون من وجده ، فلم يكن في قوله : { مِّن وُجْدِكُمْ } إلا إعلام ما قد علمناه ، وإذا كان كذلك ثبت أن في قوله : { مِّن وُجْدِكُمْ } إضماراً يستقيم عليه المعنى في قوله : { مِّن وُجْدِكُمْ } ، وليس بين القراءتين اختلاف ، ولكن إحداهما خرجت على الإجمال ، والثانية على التفسير [ على ما قرئ في قوله : { وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقْطَعُوۤاْ أَيْدِيَهُمَا } [ المائدة : 38 ] و : { أَيْمَانَهُمَا } ، ولم يحمل ذلك على الاختلاف ، بل حملت إحداهما على الإجمال والثانية على التفسير ] فكذلك الأول ، والله أعلم . مع أنه لم يثبت اللفظ في قراءة ابن مسعود - رضي الله عنه - فأقله أن يكون من خبر الآحاد ، ومعلوم أن خبر ابن مسعود وإن كان من خبر الآحاد فما يسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبول ، ولما وجب قبول خبر أبي هريرة - رضي الله عنه - مع ما قيل فيه من الضعف ، فلأن يقبل خبر ابن مسعود - رضي الله عنه - مع فضله وورعه وكثرة صحبته [ مع النبي ] صلى الله عليه وسلم ، وتبحره في الفقه أولى ، ومن هجر قراءة ابن مسعود - رضي الله عنه - خيف عليه الزلة ، ألا ترى [ إلى ما ] روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه سأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : ما تعدون آخر القراءة ؟ قالوا : قراءة زيد بن ثابت - رضي الله عنه - فقال : كلا ، كان يعرض القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم كل عام مرة ، وعرض عليه في العام الذي قبض فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين ، وقد شهدهما جميعا ابن مسعود - رضي الله عنه - فإذا كان ابن مسعود قراءته آخر القراءات ، وهو الذي شهد قراءة القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر مرة لم ينبغ أن نعرض عن قراءته ، ونهجره ، والله أعلم . وفي قوله : { أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم } دلالة أنه إنما يسكنها في جزء من أجزاء مسكنه ، لا في الموضع الذي يسكنه هو ؛ لأن حرف ( من ) للتجزئة والتبعيض . وقوله : { وَلاَ تُضَآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُواْ عَلَيْهِنَّ } . يحتمل وجهين : [ من التأويل ] : أحدهما : أي : لا تضاروهن في الإنفاق عليهن فتضيقوا عليهن النفقة ، فيخرجن ، أو لا تضاروهن في المسكن ، فتدخلوا عليهن من غير استئذان ؛ فيضيق عليهن المسكن ؛ فيخرجن ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَإِن كُنَّ أُوْلاَتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ حَتَّىٰ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } . دل الأمر بالإنفاق على النهي عن الإخراج ، كما دل النهي عن الإخراج على وجوب الإنفاق . ثم التخصيص بذكر الإنفاق على الحامل يحتمل أن يكون لمعنى : أنها في الحقيقة ، لم تدخل في قوله : { لاَ تُخْرِجُوهُنَّ } ؛ لأنا قد وصفنا أنها نهيت [ عن الخروج ] لتحصين ماء الزوج ، وإذا مضت تسعة أشهر فقد خرجت عن التحصين ؛ فكان الواجب أن تسقط النفقة بعد التسعة ، وقد ذكرنا هذا المعنى فيما تقدم . ويحتمل أن يكون الفائدة في [ تخصيص الحوامل ] بالإنفاق عندنا - والله أعلم - [ أنه لولا ] هذه الآية ، لكانت الحوامل يخرجن عن قوله - تعالى - : { لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ } ، ومن قوله : { وَلاَ يَخْرُجْنَ } ؛ لأن الأزواج لهم أن يحتجوا عليهن بأن حرمة النكاح في ذوات الأحمال ليس لحق الأزواج ، ولكن لحق ما في بطنها من الولد ؛ ألا ترى أنه يحرم عليها النكاح وإن كان الولد من غيره ، وقد قلنا : إن النفقة إنما وجبت في غير الحوامل ؛ لأنهن يحبسن عن نكاح الأجانب بحق الأزواج ، فإذا كان الحبس في الحوامل لا لحق الأزواج ، جاز أن يكون هذا حجة لهم في إسقاط النفقة عنهم ، وإذا كان كذلك ، حث الله لهم في الإنفاق على الحوامل ما لم يضعن حملهن ؛ لأن ذلك الحمل من أثر استمتاعهم المتقدم ؛ ففائدة تخصيص ذكر الحوامل هذا ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } . هذا يتضمن أوجهاً من أدلة الفقه : أحدها : أنه قال : { فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } ، ثبت أن الإرضاع كان بإجارة ، وأنه إذا استأجرها ليرضع ولده منها بعد المفارقة ، جازت الإجارة وحل لها أخذ الأجر ، وأنه إذا استأجر امرأته في صلب النكاح على إرضاع ولده منها لم يجز ، ولم يكن لها أخذ الأجر ؛ لأن الله - تعالى - ذكر بدل الرضاع في صلب النكاح بلفظ : ( الرزق ) بقوله : { وَعلَى ٱلْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ } [ البقرة : 233 ] ، فإذا سمى ما ذكره الله تعالى رزقاً : أجراً ، لم يكن أجراً وكان بحق الرزق والكسوة ؛ فلذلك لم تجز الإجارة في صلب النكاح ، والله أعلم . ثم قوله : { فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } . دليل على أن اللبن وإن خلق لمكان الولد فهو ملك لها ، ولولا ذلك ، لم يكن لها أن تأخذ الأجر على لبن ليس لها فيها ملك ، وفيه دليل على أن حق الإرضاع والنفقة على الأزواج في حق الأولاد وحق الإمساك والحضانة والكفالة على الزوجات ، ولولا ذلك لكان لها بعض الأجر دون الكل ، فلما أمر بإيتاء كل الأجر ، ثبت أن حق الإرضاع على الأزواج وعلى الزوجات الكفالة والإمساك ، والله أعلم . ولأجل أنا لو جعلنا اللبن ملكاً للولد مخلوقاً له ، وجعلنا النفقة على الأم من مال نفسها ، لكانت نفقتها تفنى ولا يتهيأ لها كسب النفقة ؛ لاشتغالها بالإرضاع ؛ فتجوع وتهلك ويذهب لبنها ؛ فيبطل الإرضاع ؛ فإذا كان إيجاب الإرضاع عليها يسقط من حيث يراد جعل النفقة ، فأسقطنا عنها ، وجعلنا ملك اللبن [ لها ] ؛ لتأخذ الأجر عليه ، والله أعلم . وفي هذه الآية دلالة على أن الأجر إنما يجب بعد استيفاء المنافع ، فإنه قال : { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } إنما أوجب الإيتاء بعد الإرضاع . وفي قوله : { أُجُورَهُنَّ } دلالة على أن الإرضاع إنما هو بإجارة قد سبقت ؛ لذلك قال أصحابنا : إن الأجرة إنما تجب عند استيفاء العمل . وقوله - عز وجل - : { وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ } ، له وجهان : أحدهما : أن يقول : { وَأْتَمِرُواْ } يعني : تشاوروا في إرضاعه إذا تعاسرت هي . والثاني : { وَأْتَمِرُواْ } أي : اعملوا بأمر من جعل الله تعالى إليه الأمر بالمعروف ، وهو الحاكم ، إذا أمركم في أمر الولد بالمعروف . وقوله : { وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَىٰ } . يعني : إذا تنازعتم في الرضاع ، وأبت الأم أن ترضعه ، فاطلبوا أخرى ترضعه عندها . وقوله : { لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ } . أي : من وسع الله عليه في الرزق ، فلينفق نفقة واسعة ، { وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ } ، يعني : ضيق عليه و { قُدِرَ } هاهنا بمعنى : ضيق [ عليه ] ، وهو كما قال : { فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ } [ الأنبياء : 87 ] ، أي : فظن أن لم نضيق عليه ، وكذلك قوله : { يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ } [ العنكبوت : 62 ] ، يعني : ويضيق عليه ، أي : من ضيق عليه ، فلينفق نفقة ضيقة ؛ فذلك قوله : { فَلْيُنفِقْ مِمَّآ آتَاهُ ٱللَّهُ } ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَآ آتَاهَا } . فهو يدل على أن العباد ما اكتسبوا من الأموال ، فهي كلها مما آتاهم الله تعالى ، وأن لله - تعالى - في أفعال العباد وفيما يكتسبونه من الأموال صنعا وتدبيراً ؛ لأنه لولا ذلك ، لكان يجوز أن يكلفه الله تعالى وإن لم يؤتها لهم ، إذا كان في قدرته أن يكتسب ما لم يؤته الله تعالى . وقوله - عز وجل - : { سَيَجْعَلُ ٱللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً } . هذا دليل على أنه إذا عجز عن نفقة امرأته ، لم نفرق بينها وبينه ؛ لأنه إذا فرق بينهما ، لم نصل إلى زوج ينفق عليها للحال ، بل نحتاج فيه إلى انقضاء العدة ، وقد يتوهم في خلال ذلك أن يوسر الزوج ؛ لأن إنجاز وعد الله تعالى في اليسار بعد العسر أقرب من قدرتها على زوج ينفق عليها ، وليس هذه كالأمة ؛ لأنه إذا باع الأمة دخلت في ملك آخر ينفق عليها ، والله أعلم . ثم يجوز أن يكون قوله : { سَيَجْعَلُ ٱللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً } وعداً لجميع الأمة أن من ابتلي بالعسر يتبعه اليسر . ويجوز أن يكون خطابا لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كانوا في عسر وضيق عيش ، فوعدهم الله - تعالى - بعد ذلك العسر الذي كانوا فيه يسراً ، وقد أنجز ذلك الوعد حيث فتح لهم الفتوح ، ونصرهم على أعدائهم ؛ فغنموا أموالهم ، والله أعلم .