Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 66, Ayat: 10-12)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - عز وجل - : { ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱمْرَأَتَ نُوحٍ وَٱمْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ } . فجائز أن هذا المثل لمكان الكفرة الذين لهم برسول الله صلى الله عليه وسلم اتصال من حرمة القرابة ، فكانوا يطمعون منه الشفاعة في الآخرة إن كان الأمر على ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم لهم ؛ لأنهم عرفوه بالشفقة والرحمة على الخلق جملة ، فكيف يدع شفقته ورحمته على قرابته وهو يراهم يترددون في الهلاك ؟ ! فبين لهم شأن امرأة نوح وامرأة لوط وما كان بينهما وبين نوح ولوط - عليهما السلام - من الاتصال ؛ لئلا يغتروا باتصالهم بالنبي صلى الله عليه وسلم . وجائز أن يكون هذا في بدء الإسلام ، في الوقت الذي يتفرد الآباء بالإسلام دون الأبناء ، والأبناء دون الآباء ؛ فيكون المثل لمكان أولئك الذين التزموا وداوموا عليه ، ولم يتبعوا آباءهم وأبناءهم فيقول : لا ينفع من دام على الكفر إسلام من أسلم منهم ، وإن كان بينهما قرب من جهة الأبوة والبنوة ؛ لأن رحمة الإنسان وشفقته على زوجته أكثر من شفقته على من ذكرنا ، وكذلك الاتصال ، فإذا لم ينفعهما إسلام زوجيهما ، فكذلك لا ينفع أولئك الذين داموا على الكفر إسلام من أسلم من آبائهم وأبنائهم . وجائز أن يكون هذا المثل ؛ لمكان أهل النفاق فيما أظهروا موافقة المؤمنين ، وأسروا الخلاف لهم ، فيخبر أنه لا ينفعهم إظهار موافقتهم في الدين إذا كانوا على خلافه في التحقيق ؛ كما لم ينفع زوجتي نوح ولوط - عليهما السلام - إظهار الموافقة منهما لزوجيهما إذا كانتا على خلافهما في السر ، والله أعلم . قال أبو بكر الأصم : في هذه الآية دلالة أن صلاح الصالح لا ينفع للطالح ؛ كما لم ينفع صلاح نوح ولوط - عليهما السلام - للزوجين إذا كانتا في أنفسهما فاسدتين ، وأراد بهذا نفي الشفاعة لأهل الكبائر . وليس كما ذكر ؛ لأن هذا المثل ضرب للكافرين لا للعصاة ؛ إذ لم يقل : " ضرب الله مثلا للذين عصوا " ، فليس له تعلق في هذه الآية . ثم قد نجد صلاح الصالح في الشاهد ينفع الطالح وإن لم ينفع الكافر ؛ لأن المرء قد يكون له زوجة طالحة تمتنع عن كثير من الشرور ؛ لمكان زوجها إذا كان زوجها من أهل الصلاح والبر ؛ وكذلك الولد ينفعه صلاح والديه في الدنيا ؛ إذ بخشيتهما ينتهي عن كثير من المناهي لصلاحهما ، فقد نفعه صلاح والديه ونفعها صلاح زوجها ، فجائز أن ينفع الطالح أيضاً في الآخرة صلاح الصالحين ، وأما الكافر فهو لم يمتنع عن الخلاف لمكان أبويه ولا لمكان أحد من الخلق ؛ فلم ينفعه إسلام أبويه ولا صلاحهما في الدنيا فكذلك لا ينفعه في الآخرة ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ٱدْخُلاَ ٱلنَّارَ مَعَ ٱلدَّاخِلِينَ } . أي : فخانتاهما في الدين . ومنهم من يذكر أن خيانة امرأة نوح هي أن أخبرت قومه بجنون زوجها ، وكانت خيانة امرأة لوط هي أن أخبرت قوم لوط بشأن أضيافه . ولكن إن كان هذا صحيحا ، فهو يرجع إلى الأول ؛ لأن الذي حمل كل واحدة منهما على الإخبار بما أخبرت موافقَتُهَا أولئك القوم وخلافها لزوجها في الدين ، ولا يجوز أن نشهد بهذا إلا بتواتر جاء . وذكر بعضهم : أنهما زنيا ، فخيانتهما زناهما ، وهذا غير ثابت ؛ لأن الأنبياء - عليهم السلام - عصموا عما يوجب عليهم العار والشنار ، والزوج يعير بزنى زوجته وفراشه ، وفيه توهم التهمة في أولادهم ؛ فدل أن هذا التأويل غير صحيح ، وحاجتنا إلى وجود الخيانة منهما دون التفسير ، ولا يجب أن نشهد بهذا إلا بتواتر جاء مزيداً في الحجة . وقوله - عز وجل - : { وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ ٱمْرَأَتَ فِرْعَوْنَ } . وجه ضرب المثل بها هو أن يعلم المقهور تحت أيدي الكفرة أن لا عذر له في التخلف عن الإيمان بالله تعالى ؛ إذ كانت امرأة فرعون مقهورة تحت يديه ، وكانت بين ظهراني الظلمة ، ولم يمنعها ذلك عن الإيمان بالله - تعالى - وعن التصديق [ برسوله موسى ] - عليه السلام - . والثاني : أنها لم تشاهد من زوجها ومن القوم الذين بين ظهرانيهم سوى الكفر بالله تعالى ، ثم الله تعالى بلطفه ألهمها الإيمان به فآمنت ، وكانت امرأة نوح - عليه السلام - تحت نوح ولم تشاهد منه سوى الطاعة والعبادة لربه - جل وعلا - ثم لم ينفعها إيمانه وعبادته ؛ ليعلم أنه لا ينفع أحدا إسلام أحد ، ولا يضر أحدا كفر غيره ، وإنما يصير مؤمنا بفعل نفسه كافرا بفعل نفسه . وقوله - عز وجل - : { إِذْ قَالَتْ رَبِّ ٱبْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي ٱلْجَنَّةِ } . وهي لم ترد بقولها : { ٱبْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً } بقيام الوجه الذي عرفت بناء زوجها وغيره من الخلائق ، وإنما أرادت بقولها : { ٱبْنِ لِي } ، أي اخلق لي بيتا في الجنة ولذلك لم يفهم أحد من قوله : { فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا } ما فهم الخلق من النفخ في الأشياء ، وإنما فهموا به الخلق والإنشاء ، فما بال المشبهة فهموا من قوله تعالى : { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ } [ البقرة : 29 ] ، ومن قوله : { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ } [ الأعراف : 54 ] ما فهموا من الاستواء المضاف إلى الخلق لولا ضعف اعتقادهم وجهلهم بصانعهم في التحقيق . ثم الأصل أن ينظر في الأسماء التي هي أسماء الأفعال المشتركة فيما بين الخلق إذا أضيف شيء منها إلى الله تعالى ، فنعرضها على الأسماء التي هي أسماء الأفعال المخصوصة لله تعالى ، فما أريد بالاسم المخصوص من ذلك ، فذلك المعنى هو المراد بالاسم المشترك ؛ فالاسم المخصوص لفعل الله تعالى هو الخلق ، إذ لا أحد من الخلائق يسمي أحدا من الخلائق : خالقاً ، فيفهم بقوله { ٱبْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي ٱلْجَنَّةِ } أي : اخلق لي ، ويفهم بقوله : { فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا } الخلق والإنشاء ، والذي يبين أن الأسماء [ المشتركة يجب عرضها على الأسماء ] المخصوصة ويفهم بها ما يفهم بالأخرى قوله تعالى : { هُوَ ٱلَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ } [ يونس : 22 ] ومعناه : هو الذي خلق سيركم في البر والبحر ، وقال : { هُوَ ٱلَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ } [ غافر : 68 ] ، يعني : هو الذي يخلق الموت والحياة ، وقال : { يُضِلُّ مَن يَشَآءُ } [ الرعد : 27 ] أي : يخلق الضلال { وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ } [ يونس : 25 ] ، أي : يخلق هدايته ، ومن حمل الأمر على ما ذكرنا سلم من الشبه كلها ووسواس الشيطان ، وسلم من التشبيه ، والله الموفق . وفي هذا دلالة إيمانها بالبعث [ والحساب . ثم ] من الجائز أن تكون وصلت إلى علم البعث والحساب بالتلقين ، أو بنظرها وتفكرها في الحجج والبراهين . وذكر أهل التفسير أنها قالت ذلك عندما عذبها فرعون ، واختلفوا في صفة العذاب من أوجه ، وحق مثله الإمساك عنه ، وألا تشتغل بتفسيرها ؛ لما يتوهم من قوع زيادة فيها أو نقصان على القدر الذي بين في الكتب المتقدمة ، وهذه الأنباء جعلت حججا لرسالة نبينا - عليه السلام - على أهل الكتاب لما وجدوها موافقة للأنباء التي ذكرت في كتبهم ، وإذا وقع فيها زيادة أو نقصان وجدوا فيه موضع الطعن في رسالته ؛ فلهذا المعنى ما يجب ترك الخوض فيها والإعراض عن ذكرها . [ وذكر عن الحسن وغيره ] أنه قال : ما من مؤمن ولا كافر إلا وبُني له بيت في الجنة ، فإن مات على الإسلام سكن البيت ، وإن قبض كافرا ورثه غيره . وهذا لا يحتمل ؛ لأن الله - تعالى - إذا علم أنه يموت على الكفر فهو يبني له ذلك البيت كي لا يسكنه ، ومن بنى لنفسه في الشاهد وهو يعلم أنه لا يسكنه ، صار عابثا في فعله ، وجل الله تعالى عن أن يوصف بالعبث . وقوله - عز وجل - : { وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ } . أي : نجني من شر فرعون وجوره ، ومن عمله أي : من كفره ؛ فيكون قولها : { وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ } راجعا إلى نفسه ، والآخر راجعا إلى عمله ، { وَنَجِّنِي مِنَ ٱلْقَوْمِ } راجعا إلى قومه ، فسألت النجاة عنهم جملة ، لما كانوا يمنعونها عن عبادة الله تعالى ، فكانت تخاف ناحيتهم ، ولا تأمن وتخاف منهم ، فسألت النجاة منهم ؛ لتصل إلى عبادة ربها . وقوله - عز وجل - : { وَمَرْيَمَ ٱبْنَتَ عِمْرَانَ ٱلَّتِيۤ أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا } . فأخبر عنها بإحصانها فرجها ، وذلك بالأسباب ، وهي ما اتخذت بين نفسها وبين الناس حجابا ؛ لئلا يقع بصر الناس عليها ، ولا يقع بصرها عليهم لتصل به إلى تحصين فرجها ؛ قال الله تعالى : { قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ } [ النور : 30 ] ، وهم إذا غضوا الأبصار ، وصلوا إلى حفظ الفروج ؛ ففي الحجاب غض البصر ، وفي غض البصر وصول إلى حفظ الفرج وإحصانه ، وقال في آية أخرى : { يٰمَرْيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَـٰكِ وَطَهَّرَكِ وَٱصْطَفَـٰكِ } [ آل عمران : 42 ] ، وتطهيره إياها في أن طهرها من الفواحش والزنى ، فأضاف الإحصان إليها في الآية الأولى ، وأضاف التطهير هاهنا إلى نفسه ، فوجه إضافة الإحصان إليها ما ذكرنا : أنها تكلفت الأسباب التي هي أسباب الموانع للزنى ، الدواعي إلى الإحصان ، وأضاف إلى نفسه التطهير ؛ لأن وقوع ذلك وحصوله كائن به ، ففيه دلالة أن كل فعل من أفعال العباد لا يخلو من أن يكون لله - تعالى - فيه صنع وتدبير . وقوله - تعالى - : { فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا } . أي : خلقنا فيه ما به تحيا الصور والأبدان . وقوله : { فِيهِ } ، أي : في عيسى ، وقال في آية أخرى : { فَنَفَخْنَا فِيهَا } [ الأنبياء : 91 ] أي : في نفس عيسى - عليه السلام - والنفس مؤنث . ثم تشبيهه بالنفخ : أن الروح إذا خلق فيه انتشر في الجسد كالريح إذا نفخت في شيء انتشرت فيه . أو التشبيه بالنفخ لسرعة دخوله فيما نفخ فيه كالريح ، والله أعلم . وقوله : { وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا } . فجائز أن يكون الكلمات هي التي بشرت بها مريم من قوله : { إِنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ ٱسْمُهُ ٱلْمَسِيحُ } [ آل عمران : 45 ] ، وقوله : { يٰمَرْيَمُ ٱقْنُتِي لِرَبِّكِ } [ آل عمران : 43 ] ، وقوله : { يٰمَرْيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَـٰكِ } [ آل عمران : 42 ] ، وقوله : { وَهُزِّىۤ إِلَيْكِ بِجِذْعِ ٱلنَّخْلَةِ } [ مريم : 25 ] ، فصدقت بجملتها أنها من عند الله ، لا شيء ألقى إليها الشيطان . أو { وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا } أي : بحجج ربها وبراهينه ؛ لقوله : { وَيُحِقُّ ٱللَّهُ ٱلْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ } [ يونس : 82 ] ، أي : بحججه : وأدلته . ثم تكون الحجج حجج البعث أو حجج الرسالة أو الوحدانية ، أو يكون قوله : { وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا } ، أي : بالكلمات التي يستعاذ بها من الشرور ، فصدقت أنها تعيذ من تعوذ بها ، والله أعلم . وقوله - تعالى - : { وَكُتُبِهِ } ، وقرئ { وكتابه } . وفي تصديقها بالكتاب تصديق منها بالكتب ؛ لأن من آمن بكتاب من كتب الله تعالى ، فقد آمن بسائر كتبه ؛ لأنها يوافق بعضها بعضاً ، ومن آمن بكتبه فقد آمن بكل كتاب له على الإشارة إليه ؛ فثبت أن في الإيمان بكتاب إيماناً بسائر الكتب ، فكل واحدة من القراءتين تقتضي معنى القراءة الأخرى ؛ فإن قوله : { بكتابه } أي : بالإنجيل ، وقوله { بكتبه } أي : بالإنجيل وسائر الكتب المتقدمة المنزلة من عند الله تعالى . وقوله - عز وجل - : { وَكَانَتْ مِنَ ٱلْقَانِتِينَ } . قيل : من المصلين ؛ لأنه قال في آية أخرى : { يٰمَرْيَمُ ٱقْنُتِي لِرَبِّكِ وَٱسْجُدِي وَٱرْكَعِي مَعَ ٱلرَّاكِعِينَ } [ آل عمران : 43 ] وإذا وصف الصلاة ، فالتزمت هذا الأمر ؛ فصارت من القانتين . وقيل : أي : من المطيعين لربها ، والله أعلم بالصواب .