Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 66, Ayat: 6-9)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - عز وجل - : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قُوۤاْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً } . يحتمل أن يكون معناه : قوا أنفسكم مما تدعو إليه أنفسكم ؛ لأن الأنفس تأمرهم بالسوء وتدعوهم إليه ؛ كما قال الله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَٱحْذَرُوهُمْ } [ التغابن : 14 ] . وجائز أن يكون قوله تعالى : { قُوۤاْ أَنفُسَكُمْ } ، أي : قوها عن الطريق الذي إذا سلكتموه أفضى بكم إلى النار ، وقوا أهليكم - أيضاً - عن ذلك الطريق ، وذلك يكون بالعمل ؛ لأن العمل على ضربين : عمل يفضي بصاحبه إلى الجنة ، وعمل يفضي بصاحبه إلى النار ، فيكون التقوى في هذا الوجه راجعا إلى الأعمال ، وفي الوجه الأول إلى الأنفس . ويحتمل قوا أنفسكم باكتساب الأسباب التي هي أسباب النجاة عن العطب والهلاك ، وأهليكم في أن تعلموهم الأسباب التي هي أسباب الخلاص من النار . وقال مجاهد : تأويله : قوا أنفسكم [ وأهليكم ] النار ، ثم علمنا وجه الاتقاء بقوله : { رَبَّنَآ آتِنَا فِي ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ٱلآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ } [ البقرة : 201 ] . قال : من التضرع إليه والفزع لديه ؛ ليكون هو بفضله يقي عنا النار ؛ لما علم ألا نصل إليه بقوى أنفسنا وحيلنا . وقوله - عز وجل - : { وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ } . فهذا على المبالغة في وصف شدة النار ، وأخبر أن شدتها تنتهي إلى هذا في أن صير الناس وقودا لها وكذلك الحجارة ، والناس والحجارة لا يتقدان في النار ؛ لأن النار إذا عملت في الإنسان حرقته ولم تبقه ؛ فلا يصير وقوداً ، وكذلك إذا أصابت الحجارة رضَّتها ولاشتها ، فيكون فيه تبين شدتها ؛ إبلاغا في الزجر . وجائز أن يكون أريد بالحجارة : التي اتخذوها أصناما يعبدونها من دون الله ، فكانوا يعبدونها لتنصرهم وتدفع عنهم العذاب ؛ كما قال تعالى : { وَٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ آلِهَةً لَّعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ } [ يس : 74 ] ، وقال : { وَٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً * كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً } [ مريم : 81 - 82 ] ، أي : تصير عذابا عليها ، وهم رجوا أن تكون سببا لخلاصهم ؛ فصارت عليهم ضدّاً . وقوله - عز وجل - : { عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ } . فجائز أن يكون [ هذا ] وصفهم : أنهم خلقوا غلاظا شدادا . وجائز أن يكونوا أشداء على الكفار وأعداء الله تعالى ، رحماء على أوليائه ، ألا ترى إلى قوله تعالى : { وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } ، فبين أن اشتدادهم ؛ لمكان الأمر ؛ وهو كقوله تعالى : { وَٱلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ } [ الفتح : 29 ] ، وصفهم بالشدة على الكفرة وبالرحمة على المؤمنين ؛ فجائز أن يكون الملائكة كذلك في الآخرة ، وفي هذا دلالة أن الملائكة امتحنوا بالأمر والنهي في الآخرة ؛ لأن ملائكة الرحمة امتحنوا بإتيان التحف والكرامات إلى أهل الجنة ، [ وملائكة العذاب ] امتحنوا بتعذيب أهل النار وبالغلظة عليهم والشدة ، وإذا أمر كل واحد من الفريقين بما ذكرنا ، فقد نُهي عن تركه . قال أبو بكر الأصم : في قوله - تعالى - : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قُوۤاْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً } ، وفي قوله : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ تُوبُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً … } الآية إلزام الوعيد بأهل الصلاة [ لأنه ألزمهم ] الاتقاء من النار ، وألزمهم التوبة ؛ ليكفر عنهم سيئاتهم ، ولو لم يكن الوعيد لازما عليهم لم يكونوا يحتاجون إلى الاتقاء ، وهذا منه ومن جملة أهل الاعتزال تحريف الكلام عن مواضعه ؛ لأن الله تعالى ذكر هذا الوعيد في أهل الإيمان بقوله : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قُوۤاْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً } ، وقال : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ تُوبُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً } ، ولم يذكر الله - تعالى - أهل الصلاة ، ولا ألحق بهم الوعيد ، فهم يقطعون الوعيد عمن ألحق الله تعالى بهم الوعيد وهم المؤمنون ، ويلزمونه على من لم يجر ذكره في القرآن [ من أهل الصلاة ] ولا ألحق به الوعيد ، وهذا تحريف الكلام وقلب القصة ؛ ولأنه صار من أهل الصلاة بإيمانه ؛ إذ لولا إيمانه لما كان هو من أهل الصلاة ، فإذا ألحقوا الوعيد بأهل الصلاة فقد ألحقوه بأهل الإيمان ؛ فلم يبق بيننا وبينهم إلا سوء الخلق ، وإلا فلا معنى لقلبه عن أهل الإيمان وإلحاقه بأهل الصلاة ، وأهل الصلاة هم أهل الإيمان . ثم الوعيد على قولهم إنما يلزم أهل الإيمان في وقت خروجهم من الإيمان ، ونحن نقول في الوعيد المذكور في أهل الإيمان : إنه يجوز أن يلحقهم وقت إيمانهم ، ويعذبهم الله تعالى بإجرامهم . ويحتمل أن يقع لهم الوعيد إذا خرجوا من الإيمان ، وهم يقطعون الوعيد عن أحد الوجهين ويجعلونه على الوجه الآخر ، ونحن نلزمهم الوعيد إذا خرجوا من الإيمان ، [ ولا ننفي ] الوعيد عمن لم يخرج بعد من إيمانه ، فصرنا نحن أشد استعمالا لما يقتضيه ظاهر الآيات منهم ؛ فصار العموم حجة عليهم لا علينا ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَعْتَذِرُواْ ٱلْيَوْمَ } . ليس في هذا نفي قبول العذر لو كان لهم عذر ، ولكن اعتذارهم هو الندم عما كانوا فيه والإنابة إلى الله تعالى والتوبة إليه ، وليس ذلك وقت قبول التوبة ؛ لأن [ ذلك الوقت هو ] وقت خروج ملك أنفسهم عن أنفسهم ، فلا يقبل في ذلك الوقت إيمان ولا عمل . وقوله - عز وجل - : { إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } . يعني : أن عملكم السوء هو الذي ألزمكم العذاب في الحكمة ؛ فتجزون بعملكم ولستم تجزون بمنفعة ترجع إلينا أو بما حملتم من أوزار الغير ، ولكن بأعمالكم الخبيثة التي في الحكمة التعذيب عليها ، وفي هذا دلالة نفي العذاب عن أطفال المشركين ؛ لأنه لم يوجد منهم عمل ؛ فيجزون بعملهم ، ولا يجوز أن يعذبوا بذنوب آبائهم ؛ لأنه أخبر أن كلاًّ يجزى بعمله لا بعمل غيره ، والله أعلم . وقوله : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ تُوبُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً } . ففي هذه الآية إلزام التوبة على بقاء اسم الإيمان ؛ لأنه ألزمهم التوبة بعد أن سماهم مؤمنين ، وأخبر أنه يكفر عنهم سيئاتهم بالتوبة ، ومن مذهب الاعتزال : أن الصغائر مغفورة لأربابها إذا اجتنبوا الكبائر ؛ فلا يحتاجون إلى التوبة عنها ، وإذا كان كذلك فالآية في الكبائر عندهم ، والكبائر تخرج أهلها - على قولهم - من الإيمان ، والله - تعالى - قد أبقى لهم اسم الإيمان ، فمن أزال عنهم الإثم ، فقد خالف نص القرآن . وإن زعموا أن الآية في الصغائر ففيه دلالة على أن الله تعالى يعذب على الصغائر وأنها غير مغفورة ، حتى وقعت لهم الحاجة إلى التوبة وطلب المغفرة ، وقال أيضاً في آية أخرى : { وَتُوبُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ النور : 31 ] ، فإما أن يكونوا أمروا بالتوبة عن الصغائر ؛ فيكون فيه دلالة على أنها ليست بمغفورة ؛ إذا احتاجوا إلى التوبة عن الصغائر ، أو عن الكبائر ؛ فيكون فيه دلالة بقائهم على الإيمان ؛ وكذلك قال : { وَٱسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ } [ محمد : 19 ] ، وإن كان استغفاره هذا عن الصغائر ، ففيه دلالة على أنها غير مغفورة ؛ لحاجته إلى طلب المغفرة ، ولو كان الأمر على ما ظنت المعتزلة ، لكان [ سؤاله المغفرة ] يخرج مخرج الاستهزاء برب العالمين ؛ لأنه يطلب منه ما لا يملك ، وذلك في الشاهد هزء واستخفاف بالمسئول . وإن كان في الكبائر ، ففيه دلالة بقائهم وثباتهم على الإيمان ؛ لأنه قال : { وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ } [ محمد : 19 ] . ثم قوله تعالى : { تَوْبَةً نَّصُوحاً } . قرئ بنصب النون وضمها : { نُصُوحاً } ، والضم يخرج مخرج المصدر ، والنصوح - بالفتح - : يخرج مخرج النعت للتوبة ، والفَعُول من الأفعال هو اسم للمبالغة في الأمر ؛ فكأنه يقول : توبوا توبة تناهت في نصحها ، والمبالغة في النصح أن يكون صادقا في توبته ، وعلامة الصدق أن يكون نادما بقلبه عما فعل ، عازما على ألا يرجع إليه ، وأن يقلع يديه عما كان فيه من المعاصي ، وأن يستغفر الله بلسانه ؛ فيستعمل كل جسده في الندم والانقلاع ، كما استعمل سائره في التلذذ بالمآثم ؛ فذلك هو المبالغة في النصح . وقوله - عز وجل - : { يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } بالتوبة ، ففي هذا إبانة أن من السيئات سيئات لا تكفر إلا بالتوبة ، ومنها ما يكفر باجتناب الكبائر بقوله : { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَـٰتِكُمْ } [ النساء : 31 ] لا أن يكفر كلها بالاجتناب عن الكبائر كما زعمت المعتزلة . وقوله - عز وجل - : { وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } . وقد سبق بيان هذا . وقوله - تعالى - : { وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } . وللمعتزلة بهذه الآية تعلق ، وهو أن قالوا بأن الله تعالى أخبر أنه لا يخزي النبي والمؤمنين ، والإخزاء يقع بالعذاب ؛ فقد وعد ألا يعذب الذين آمنوا ، ولو كان أصحاب الكبائر مؤمنين لم يخف عليهم العذاب ؛ إذ قد وعد ألا يخزي المؤمنين ومن قولكم : إنهم يُخاف عليهم العقاب ؛ فثبت أنهم ليسوا بمؤمنين . ولكن نقول : إن هذا السؤال يلزمهم من الوجه الذي أرادوا إلزام خصومهم ؛ لأن في الآية وعدا بألا يخزي الذين آمنوا ، وهم مقرون بأن أهل الكبائر ممن قد آمنوا ، ولكنهم بعد ارتكابهم الكبائر ليسوا بمؤمنين ، والآية لم تنطق بنفي الإخزاء عن المؤمنين ؛ لأنه لم يقل : يوم لا يخزي الله النبي والمؤمنين ، وإنما قال : { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ } ، وهم يقطعون القول بإخزاء من قد آمن ؛ فصاروا هم المحجوجين بهذه الآية ، ثم حق هذه الآية عندنا أن نقف على قوله : { ٱلنَّبِيَّ } ، أي : لا يخزيه الله تعالى في أن يرد شفاعته أو يعذبه ، وقوله : { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ } ، ابتداء كلام وخبره { نُورُهُمْ يَسْعَىٰ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ } ؛ وهو كقوله - تعالى - : { وَٱلرَّاسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ } [ آل عمران : 7 ] . أو لا نخزي الذين آمنوا بعد شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم . ويحتمل أن الإخزاء هو الفضيحة ، أي : لا يفضحهم يوم القيامة بين أيدي الكفار ، ويجوز أن يعذبهم على وجه لا يقف عليه الكفرة ، والخزي : هو الفضيحة ، وهتك الستر ، ولا يفعل ذلك بالمؤمنين بفضله ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { يَسْعَىٰ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } . أي : بين أيديهم إذا مشوا ، وبإيمانهم عند الحساب ؛ لأنهم يؤتون الكتاب بأيمانهم ، وفيه نور وخير ، أو يسعى النور بين أيديهم في موضع وضع الأقدام وبأيمانهم ؛ لأن ذلك طريقهم وشمالهم طريق الكفرة . وقوله - عز وجل - : { يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا } . جائز أن يقولوا هذا عند انطفاء نور المنافقين ؛ فيخافون انقطاع ذلك النور عنهم أيضاً . أو يقولون هذا عند ضعف النور ، فيسألونه إتمامه ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ جَاهِدِ ٱلْكُفَّارَ وَٱلْمُنَافِقِينَ } ، قيل : جاهد الكفار بالسيف ، والمنافقين بإقامة الحدود عليهم ؛ وذلك أن المنافقين هم الذين كانوا يرتكبون المآثم التي أوجب فيها الحدود ففيهم نزلت الحدود ، وأما أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد عصموا عن المآثم التي لها الحدود . وقالت الباطنية في قوله : { جَاهِدِ ٱلْكُفَّارَ وَٱلْمُنَافِقِينَ } أي : جاهد الكفار والمنافقين بالقتال ، فكان مأمورا بالقتال مع الفريقين جميعاً ، ولكنه اشتغل بقتال أهل الكفر ، ولم يتفرغ لقتال أهل النفاق فتولى قتالهم علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وما ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه حين رأى عليّاً - رضي الله عنه - يخصف نعله : " إن خاصف نعله يقاتل على التأويل كما نقاتل نحن على التنزيل " ، وقتاله على التأويل قتال أهل النفاق ، فإن كان الأمر على ما ذكروا من القتال فأبو بكر - رضي الله عنه - هو الذي تولى قتال أهل النفاق لا عليٌّ - رضي الله عنه - لأنه ذكر أن العرب ارتدت بعدما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقاتلهم أبو بكر - رضي الله عنه - وارتدادهم يدل على أنهم لم يكونوا محققين في إيمانهم ؛ إذ لو كانوا كذلك لم يرجعوا بل كانوا منافقين ، وأما الذين قاتلهم علي - رضي الله عنه - فلم يكونوا منافقين بل كانوا يدعون عليّاً - رضي الله عنه - إلى أن يحكم بكتاب الله تعالى ، والمنافق هو الذي يظهر من نفسه أنه يعمل بحكم الله تعالى ، ثم يسر بخلاف حكمه ، لا أن يدعو إلى العمل بحكم الله تعالى ، وهذه السمة ظهرت في الذين قاتلهم أبو بكر دون الذين قاتلهم علي - رضي الله عنه - ثم مجاهدته صلى الله عليه وسلم في تقرير الحجة في قلوب الكفرة والمنافقين وإلزامها عليهم ، وذلك يكون مرة بالسيف ومرة بإلزامها باللسان . ووجه إلزام الحجة بالسيف ما ذكرنا أن غلبته على الأعداء مع [ كثرتهم وقوة ] شوكتهم وقلة أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم يظهر لهم نصر الله إياه وكونه على الحق ، فيحملهم ذلك على الإيمان بالله تعالى ، وإذا كان كذلك فقوله : { جَاهِدِ ٱلْكُفَّارَ وَٱلْمُنَافِقِينَ } في إلزام الحجة ؛ فإن كانوا في موضع أمن فمجاهدتهم في إلزام الحجة عليهم من جهة القول ، وإن كانوا في موضع المحاربة والقتال ، فمجاهدتهم في قتالهم ، وقد كان من المنافقين من قد لحق بالكفرة وذب عنهم ، ألا ترى إلى قوله : { فَمَا لَكُمْ فِي ٱلْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ } [ النساء : 88 ] ، فمن لحق بهم قاتلهم مع الكفرة ، ومن لم يلحق بهم ألزمهم الحجة ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَٱغْلُظْ عَلَيْهِمْ } . أي : اشدد عليهم ، والتشديد عليهم : أن يسفه أحلامهم ، ويهتك أستارهم ، وهو أن يبين لهم ما هم عليه من النفاق . وقوله - عز وجل - : { وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ } ، قد تقدم ذكر هذا . [ ثم ] في قوله : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ جَاهِدِ ٱلْكُفَّارَ } ، دلالة فضيلة نبينا صلى الله عليه وسلم على من تقدمه من الأنبياء والرسل - عليهم السلام - لأنه ذكر موسى - عليه السلام - في التوراة : يا موسى ، وفي الإنجيل : يا عيسى ، وفي مخاطبات آدم : يا آدم ، فسمى كل نبي باسمه سوى نبينا صلى الله عليه وسلم فإنه ذكره وخاطبه بقوله : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ } { يَـٰأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ } [ المائدة : 67 ] ، وبالنبوة والرسالة استحق الفضيلة ، فذكره باسم فضله وخاطبه به ، وذكر غيره من الأنبياء - عليهم السلام - باسم شخصه .