Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 66, Ayat: 1-5)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - عز وجل - : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ } . هذا في الظاهر فظيع بأن يحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحل الله له ، ومن قال بأنه حرم ما أحل الله ، فقد قال قولا منكراً ، ولو اعتقد ذلك كان كفرا منه ؛ إذ من حرم ما أحل الله تعالى كان كافرا ، ومن كان اعتقاده في رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا ، فهو كافر . وقال أبو بكر الأصم : دلت هذه الآية على أن ليس لأحد أن يحرم ما أحله الله تعالى ؛ لأن الله تعالى منع رسوله عن ذلك . لكن الأمر عندنا ليس على ما ظنه أبو بكر ، ولا على ما سبق إليه ظن بعض الجهال : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم شيئاً أحله الله تعالى ، ومن توهم هذا في رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد حكم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكفر . وتأويله عندنا - والله أعلم - : على وجهين : أحدهما : أن تحريم ما أحل تعالى هو أن يعتقد تحريم المحلل ، وتحليل المحرم فيما حرم الله تعالى مطلقاً ، فمن اعتقد تحريمه حكم عليه بالكفر ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعتقد تحريم ما أحل الله تعالى ؛ إذ لم ير جماعها عليه محرما ، بل امتنع عن الانتفاع بها باليمين ، والحرمة التي ثبتت بسبب اليمين ، لم تكن من فعل الآدمي ، وإن ثبتت بمباشرة السبب منه ؛ كالتحريم بالطلاق وبغيره من الأسباب ، وإنما تثبت من الله تعالى عقيب مباشرة الأسباب من العباد ، كسائر الأحكام ، كيف وأنه باليمين لا تثبت حرمة نفس الفعل ، وإنما المحرم ترك تعظيم الله تعالى الواجب بسبب اليمين ، وهذا لا يعد تحريم الحلال وتحليل الحرام . أو أريد بالتحريم منع النفس عن ذلك مع اعتقاده بكونه حلالا ، لا أن يكون قصد به قصد تحريم عينه ، وقد يمتنع المرء عن تناول الحلال ؛ لغرض له في ذلك ؛ وهو كقوله تعالى : { وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ ٱلْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ } [ القصص : 12 ] ، ولم يرد به تحريم عينه ، ولا التحريم الشرعي ؛ إذ الصبي ليس من أهله ، وإنما أريد به امتناعه من الارتضاع إلا من ثدي أمه ، [ فعلى ذلك ] هاهنا ، والله أعلم . والثاني : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ندب إلى حسن العشرة مع أزواجه ، وإلى الشفقة عليهن ، والرحمة [ بهن ، فبلغ ] في حسن [ العشرة والصحبة ] معهن مبلغا امتنع عن الانتفاع بما أحل الله له ، وأباح له التلذذ به ؛ يبتغي به حسن عشرتهن ، ويطلب به مرضاتهن ، فقال : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ } ، أي : لا يبلغنَّ بك الشفقة عليهن وحسن العشرة معهن مبلغا تمتنع عن الانتفاع بما أحل الله لك ؛ فيخرج هذا مخرج تخفيف المؤنة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في حسن العشرة معهن ، لا مخرج النهي والعتاب عن الزلة ؛ وهو كقوله تعالى : { فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ } [ فاطر : 8 ] تخفيفاً للأمر عليه ، وكذلك قال : { وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ ٱلْبَسْطِ } [ الإسراء : 29 ] ليس في الحقيقة نهياً عن السخاء على النهاية ، لكن تخفيفاً للأمر عليه : أن ليس عليك الإسراف في السخاء والنهاية في ذلك ؛ بحيث لم تُبق لنفسك وعيالك شيئاً وتؤثر غيرك ؛ فعلى ذلك قوله : { لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَ } خارج مخرج تخفيف المؤنة عليه في حسن العشرة ، لا مخرج النهي ، والله أعلم . ثم اختلف أهل التأويل في سبب التحريم : فمنهم من ذكر " أن حفصة - رضي الله عنها - زارت أهلها ، والنبي - عليه السلام - في بيت حفصة ، فجاءت أم إبراهيم مارية القبطية حتى دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فواقعها ، فجاءت حفصة ، وهما نائمان فرجعت إلى بيت أهلها ، فمكثت عامة الليل … القصة ، وقالت حفصة في آخر هذا الخبر : ما رأيت لي حرمة ، وما عرفت لي حقّاً ، فقال لها النبي - عليه السلام - : " اكتمي عليَّ ، وهي علَيَّ حرام " ، فنزلت هذه الآية . ومنهم من يذكر : أن ذلك اليوم كان يوم عائشة - رضي الله عنها - فاطلعت حفصة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاريته مارية ، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تكتم عليه ، فأخبرت حفصةُ بما رأت عائشةَ - رضي الله عنها - فغضبت عائشة ، فلم تزل بنبي الله حتى حرمها ، [ فأنزل الله تعالى ] هذه الآية . وقال عكرمة : نزلت الآية في امرأة يقال لها : أم شريك وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم ؛ فلم يقبلها النبي - عليه السلام - طلبا مرضاة أزواجه ؛ فنزلت الآية ، والله أعلم . ومنهم من قال : إن الذي حرمه النبي صلى الله عليه وسلم كان عسلا ، كان رسول الله - عليه السلام - شربه عند بعض نسائه ، فقالت امرأة من نسائه لصاحبتها : إذا جاءك النبي صلى الله عليه وسلم فقولي له : ما ريح المغافير فيك ؟ فقالت للنبي ؛ فحرمه النبي - عليه السلام - فنزلت هذه الآية . وليس لنا إلى تعرف السبب الذي وقع التحريم به ، ولا إلى تعيين الشيء الذي حرمه النبي - عليه السلام - حاجة ، ولكنا نعلم أن الأمر الذي كان فهو جرى بينه وبين زوجاته . وقوله - عز وجل - : { وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } . أي : غفور لما تقدم من ذنبك وما تأخر لو كان . أو يكون رحيما ؛ حيث لم يعاقبك بما اجترأت من الإقدام على اليمين ؛ لا بإذن سبق من الله تعالى لك فيه . أو غفور رحيم عليك وعلى زوجتيك إن تابتا ولم تعودا إلى صنيعهما . أو غفور رحيم بما خفف عليك من مؤنة العشرة ، ولم يحمل عليك ما حملت على نفسك . وقوله - تعالى - : { قَدْ فَرَضَ ٱللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } . فمنهم من يحمل هذا على ابتداء الخطاب ، ويصرف المراد إلى غير رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم [ قد كان غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ] ؛ بحكم وعد الله - تعالى - فلم يكن يحتاج إلى التكفير ؛ لإزالة المأثم . ولكن نحن نقول : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كان هذا محله ، فهو وأمته في أحكام الشرائع مأخوذون ، ويكون على هذا مغفرة زلاته : ما تقدم وما تأخر بمباشرة أسبابها من التوبة والكفارة ، ونحو ذلك ؛ فيكون قوله تعالى : { قَدْ فَرَضَ ٱللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } منصرفا إلى النبي - عليه السلام - وأمته . ثم يجوز أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم قصد إلى التحريم أعني : منع نفسه عن الانتفاع بها مع اعتقاد الحل لا إلى اليمين ؛ فجعل الله تعالى ذلك منه يمينا ؛ فيكون فيه دلالة على أن التحريم يمين ؛ ولهذا قال أصحابنا - رحمهم الله - : إن من قال لامرأته : " أنت عليَّ حرام " ، ولا نية له ، فهو يمين . وجائز أن يكون أفصح بالحلف ؛ فكنى عنه باليمين . ثم قوله : { قَدْ فَرَضَ ٱللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } على قراءة العامة ، وفي بعض القراءات : { قد فرض الله لكم كفارة أيمانكم } . ووجه الفرض فيه : أن الأمم من قبل ، لم تكن يؤذن لهم بالحنث في اليمين ، ولا أن يحلوا منها بالكفارة ، ألا ترى إلى قوله تعالى : { وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَٱضْرِب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ } [ ص : 44 ] ، فلم يأذن له بالحنث وأباح له الضرب ، ثم أباح لهذه الأمة حل اليمين بالحنث والكفارة ، فنسب الحل إلى الكفارة ، ومرة إلى انحلالها بنفسها من جهة الحنث . ثم قوله : { قَدْ فَرَضَ ٱللَّهُ لَكُمْ } أي : وسع عليكم ، وأحل لكم تحلة اليمين ؛ ففي هذا أن كل ما ذكر فيه ( كتب لكم ) ، أو : ( فرض لكم ) ، فهو في موضع الإباحة والتوسيع ، وما ذكر فيه { عَلَيْكُمُ } فهو على الإيجاب والإلزام ؛ قال الله تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصِّيَامُ } [ البقرة : 183 ] ، وقال : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ } [ البقرة : 180 ] ، وذلك كله في موضع الوجوب ، وقال الله تعالى : { ٱدْخُلُوا ٱلأَرْضَ ٱلمُقَدَّسَةَ ٱلَّتِي كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمْ } [ المائدة : 21 ] معناه : أباح لكم الدخول فيها . وقوله تعالى : { وَٱللَّهُ مَوْلاَكُمْ } . أي : أولى بكم فيما امتحنكم من الكفارة وغيرها . أو { وَٱللَّهُ مَوْلاَكُمْ } ، أي : أولى بكم في نصركم والدفع عنكم . وقوله - عز وجل - : { وَهُوَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْحَكِيمُ } . أي : { ٱلْعَلِيمُ } بمصالحكم أو مقاصدكم ، أو بما تسرون وما تعلنون ، أو بما كان ويكون ، { ٱلْحَكِيمُ } : هو الذي لا يلحقه الخطأ في التدبير ، أو حكيم بما حكم عليكم من تحلة الأيمان ، والله أعلم . ثم في قوله : { ٱلْعَلِيمُ } إلزام المراقبة والمحافظة ، ودعاء [ إلى التبصر ] والتيقظ في كل ما يتعاطاه المرء من الأفعال ، ويأتي به من الأقوال . وفي قوله : { ٱلْحَكِيمُ } دعاء إلى التسليم بحكم الله تعالى ؛ إذ الحكيم لا يحكم على أحد إلا بما فيه حكمة وفائدة ؛ فلزمه تسليم النفس لحكمه على وجه الحكمة فيه أو جهله . ثم الأصل بعد هذا : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبيح له نكاح التسع ، وأمر بأن يحسن صحبتهن ويبتغي مرضاتهن ، والمرء يعسر عليه صحبة الأربع بحسن العشرة ، ويتعذر عليه القسم والقيام بمرضاتهن جميعاً ، فكيف إذا امتحن بصحبة التسع ؟ ! فكانت المحنة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر النساء أعسر منه على غيره ، وأمر مع هذا أيضاً بمعاملة الخلق مع اختلاف هممهم وأطوارهم بأحسن المعاملة ، ولكن الله تعالى لما امتحنه بما ذكرنا آتاه من الأخلاق الحميدة والشمائل المرضية ما خف بها عليه هذه المحنة ، وسهل عليه المعاملة مع الجملة ، وآتاه من القوة ما ملك بها حفظ حقوقهن وإرضاء جملتهن ، حتى بلغ في حسن العشرة وابتغاء المرضاة ما عوتب عليه ، وبلغ من جهده في الإسلام إلى أن قيل : { عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ } [ عبس : 1 ] ، وبلغ في الشفقة والرحمة على الأمة إلى أن قيل له : { فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ } [ فاطر : 8 ] ، وقال : { وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ } [ القلم : 4 ] ، وكان من عظيم خلقه ما جاوز خلقه قوة نفسه ، فكادت نفسه تهلك فيه . ثم في قيامه - عليه السلام - بما يوفي حقوق التسع ويرضيهن دلالةُ نبوته ورسالته ؛ لأن الناس إنما يقوون على الجماع بما يصيبون من فضل الأطعمة والأغذية ، ثم هم مع أصابتهم فضول الأطعمة والأشياء اللذيذة يفْتُرون عن إيفاء [ حقوق الأربع ] ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم آثر الزهدَ في الدنيا ، وقلت رغبته في مطاعمها ومشاربها ، وكان مع ذلك يفي بحقوقهن ، فعلم بهذا أنه إنما وصل إلى ما ذكرنا بما قواه الله - تعالى - عليه وأقدره ، لا بالحيل والأسباب ، ثم أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم امتُحِنَّ بالقيام بوفاء حق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن ينظرن إليه بعين التبجيل والتعظيم ، فكانت المحنة عليهن أشد من المحنة على غيرهن من النساء مع أزواجهن ؛ لأن المرأة قلما تسلم عن رفع أصواتها على صوت زوجها ، إذا لم يكن له امرأة سواها ، فكيف إذا كانت معها أخرى ، ثم هن لو رفعن أصواتهن على صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم أوجب ذلك إحباط عملهن ؛ على ما قال تعالى : { وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِٱلْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ } [ الحجرات : 2 ] ؛ فلا يجوز أن يمتحن بهذه الكلفة الشديدة والمحنة العظيمة إلا بما شرح الله تعالى صدورهن ويفسح قلوبهن ؛ لاحتمال ذلك . ثم المحنة علينا بعد هذا أشد من المحنتين اللتين ذكرناهما ؛ لأنا امتحنا بمعرفة ما ضمنته هذه الآية والاعتقاد بذلك وهي قوله : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَ } فالذي علينا من المحنة أن نصرف الأمر إلى وجه لا يلحق رسول الله صلى الله عليه وسلم به ثم بنقص ؛ فيسلم من المؤاخذة ؛ فجائز أن يصرف إلى ما ذكرنا من تخفيف الأمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فتكون الآية في موضع تخفيف الأمر عليه ليس في موضع النهي ، وإن خرجت مخرج النهي في الظاهر . وجائز أن يكون العتاب ؛ لمكان مارية ، إن كانت [ قصة التحريم ] من أجلها ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أذن له بإمساك مارية ، ولم يندب إلى تزويجها لتصل إلى قضاء شهوتها من قبل الأزواج ، فإنما تتوصل إلى قضاء شهوتها برسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم هو بتحريمها على نفسه لم يمنع عنها الحق ، إذ الأمة لا حظ لها في القسم ؛ فيلحقه العتاب من هذه الجهة ، ولكن لما كان لها فيه مطمع ، وهو بالتحريم قطع طمعها ، فقيل له : { لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَ } قضاء تلك الشهوة ، أي : لم تمنع نفسك عن قضاء شهوة أباحها الله تعالى لها ، فيكون في العتاب دعاء له إلى [ أن يعمل ] بأحد الوجهين : أحدهما : وهو أن يوصلها إلى ما طمعت منه لا أن يقطع طمعها عنه ، وإن لم يكن لها فيما طمعت حق ، والله أعلم . والمحنة الثانية علينا : ألا ننسب إلى أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تكره أنفسنا نسبة مثله إلى الأمهات ؛ لأن لأزواجه علينا حق الأمهات ، فإن أمكنا أن نخرج من أمرهن وجهاً يسلم عن تنقصهن فعلنا ، وإلا أمسكنا عن ذكره ؛ خشية التنقص ، وترك التبجيل والتعظيم ؛ ألا ترى إلى قول الله تعالى : { لَّوْلاۤ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ ٱلْمُؤْمِنُونَ وَٱلْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً } [ النور : 12 ] ، وهكذا الواجب على كل مؤمن ألا يظن بأزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهن إلا خيراً ، وألا ينظر إليهن إلا بعين التعظيم ، وقال أيضاً : { سُبْحَانَكَ هَـٰذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ } [ النور : 16 ] ، وإذا كان هذا حقهن علينا فلا يجب أن نذكر زلتهن كانت كيت وكيت ؛ لما يتوهم أن يكون زلتهن دون الذي خطر على بالنا فنكون قد أعظمنا القول فيهن ؛ فيصيبنا من ذلك عذاب عظيم ؛ كما قال : { وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَآ أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [ النور : 14 ] . ولقائل أن يقول في قوله : { هَـٰذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ } [ النور : 16 ] : من أي وجه صار بهتانا عظيما ، ونساء رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن معصومات ، بل كان يتوهم منهن الصنع الذي رمين به ؟ ! فجوابه : أن أزواجه كن بالمحل الذي إذا ابتلين بزلة : سرّاً ، أو جهراً أطلع الله تعالى ذلك نبيه - عليه السلام - ألا ترى أن إحداهن لما أفشت سر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أخرى أطلع الله - تعالى - نبيه على ذلك ، فإذا كان لا يستر عليهن هذا القدر من الزلة ، فكيف يستر عليهن فعل الزنى منهن ؟ ! ولو وجد من التي رميت فعل الزنى ، لكان يسبق الاطلاع من الله تعالى لرسوله - عليه السلام - قبل أن يجري به التحدث على ألسن الخلق ، فإذا لم يسبق أوجب ذلك المعنى براءة ساحتها عما رميت به ، وصار الرامي لها به قائلا بالبهتان والزور . وفي هذه الآية دلالة جواز العمل بالاجتهاد لرسول الله صلى الله عليه وسلم لا بإذن سبق من الله تعالى ؛ إذ لو كان الإذن سابقاً ، لما عوتب عليه ؛ لما ذكرنا : أنه لم يعاتب لزلة ارتكبها حتى يكون فيه منع عن العمل بالاجتهاد ، وإنما عوتب لمكان ما حمل على نفسه من فضل المؤنة في العشرة . ثم الأصل : أن الإماء لا حظ لهن في القسم ، ولسن لهن من الأيام ما يكون مثله للحرائر حتى كان يقسم لها فيؤدي فيه حقها ، وقد أذن له في إمساكها وألا يزوجها ؛ فلا يجوز ألا يؤمر بتزويجها ، ثم هو لا يسكن شهوتها ، ثم هو إنما يصل إلى قضاء وطرها وتسكين شهوتها في يومُ ذلك اليومُ لزوجة من زوجاته ، فجائز أن يكون الله تعالى أكرمه أن يسكن شهوتها ويأتيها من حيث لا يعلم أزواجه بذلك ، ثم أطلع بعض نسائه على فعله ليعلمن أن المحنة عليهن بعد العلم وقبل العلم واحدة ، وأن عليهن أن يعظمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وألا يحملهن الغيرة على الاستقبال له بالمكروه والنظر إليه بالتنقص ؛ إذ لم يكن عليهن فيما يأتي تلك الأمة في أيامهن تقصير في حقهن ؛ إذ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطي من القوة في الجماع ما يطوف على جميع نسائه في ليلة واحدة . وأما ما ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان كف نفسه عن شرب العسل ، فذلك يحتمل أيضاً ، ولكن ما ذكر من تحريم مارية أمكن ؛ لأنه لا يحتمل أن يكون لرسول الله صلى الله عليه وسلم في شرب العسل من الرغبة ما يدخل على نسائه المكروه لأجله ، وجائز أن يلحقهن في استمتاعه بأمته مكروه فيحملهن ذلك على ما ذكر . وقوله - عز وجل - : { وَإِذْ أَسَرَّ ٱلنَّبِيُّ إِلَىٰ بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ } . دل قوله : { فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ } أنه قد طلب منها إسرار ذلك الحديث الذي أسر إليها ، وليس بنا حاجة إلى تعرف الحديث الذي أسر إليها . وفيه دلالة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما علم بإفشائها سره إلى صاحبتها بالله تعالى ، وهو قوله : { وَأَظْهَرَهُ ٱللَّهُ عَلَيْهِ } . وقوله - عز وجل - : { عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ } . فقوله : [ { عَرَّفَ } ] قرئ بالتخفيف والتشديد ، فمن قرأه بالتشديد ، فهو على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرفها بعض ما أنبأت من القصة التي أسر إليها ، ولم يعرفها البعض ؛ لأنه لم يكن القصد من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخبرها بذلك النبأ الذي [ أسر به ] إليها ، وإنما كان المقصود منه تنبيهها بما أظهرت من السر ، وأفشت إلى صاحبتها ؛ لتنزجر إلى المعاودة إلى مثله ، والبعض من ذلك يعلمها ما يعلم الكل ، فلم يكن إلى إظهار الكل حاجة . وذكر في بعض الأخبار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها : " ألم أقل لك " ؟ ! وسكت عليه ، وفي هذا آية لرسالته ومنعهن عن إسرار ما يحتشمن عن إبداء مثله لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهن إن فعلن ذلك ، أظهر الله - عز وجل - لنبيه صلى الله عليه وسلم ذلك ؛ فيعلم ما يسرون . ومن قرأه { عَرَفَ } بالتخفيف ، فهو يحمله على الجزاء فيقول : { عَرَفَ بَعْضَهُ } أي : جزى عن بعض ما استوجبته بإفشاء السر ، وأعرض عن بعض الجزاء ؛ يقول الرجل لآخر : عرف حقي فعرفت له حقه ، أو عرفت حقي فسأعرف حقك ، أي : أقوم بجزاء ذلك ، وذكر في الأخبار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق حفصة تطليقة ، ثم نزل جبريل - عليه السلام - فقال له : راجعها ؛ فإنها صوامة قوامة ، وإنها لزوجتك في الجنة [ ؛ فجائز أن يكون ] طلاقه إياها جزاء لبعض صنيعها . ثم من الناس من يختار إحدى القراءتين على الأخرى ، فيقرأ إحداهما ويرغب عن الأخرى ، وذلك مما لا يحل ؛ لأن الأمرين جميعاً قد وجدا ، وهو الجزاء والتعريف ، فجمع الله تعالى الأمرين جميعاً في آية واحدة ، وفصل بين الأمرين بالإعراب ؛ فليس لأحد أن يؤثر إحدى القراءتين على الأخرى ؛ وهذا كقوله تعالى في قصة موسى - عليه السلام - { لقد علمتُ } ، و { عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هَـٰؤُلاۤءِ إِلاَّ رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } [ الإسراء : 102 ] ، وقد علم موسى - عليه السلام - وعلم فرعون اللعين ، فقد كان الأمران جميعاً ، فجمع الله تعالى بين الأمرين جميعاً في آية واحدة ؛ فلا يحل لأحد أن يقرأ بأحد الوجهين ويمتنع عن [ الوجه ] الآخر ؛ فكذلك هذا في قوله تعالى : { رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا } [ سبأ : 19 ] و { بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا } ، فمن قرأه { باعِدْ بين أسفارنا } حمله على الدعاء ، ومن قرأه { باعَدَ } حمله على الإخبار ، وقد كان الأمران جميعاً : الدعاء والإخبار ؛ فليس لأحد أن يؤثر أحدهما على الآخر ، فعلى ذلك الحكم في قوله : [ { عَرَفَ بعضه } و { عَرَّفَ بَعْضَهُ } ] ، والله أعلم . وقد وصفنا تأويل قوله : { ٱلْعَلِيمُ ٱلْخَبِيرُ } فيهما ما يدعو الإنسان إلى المراقبة والتيقظ . وقوله - عز وجل - : { إِن تَتُوبَآ إِلَى ٱللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } . في هذه الآية دلالة أن الحديث الذي أفشي كان بين زوجتين ؛ لأن قوله : { إِن تَتُوبَآ إِلَى ٱللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } يدل على ذلك ، فإنه كان أسر النبي - عليه السلام - عند إحداهما ، ومنعها أن تفشي إلى الأخرى فأفشت ، لكنا لا نعلم أن ذلك الحديث كان ماذا ؟ لكنه كان منهما ما يجوز أن تعاتبا به وتدعيا إلى التوبة ؛ لقوله : { إِن تَتُوبَآ إِلَى ٱللَّهِ } ، [ وإن خفي ذلك علينا ] ، ثم إذا عرفنا أن الله - تعالى - جعل عقوبتهن وتأديبهن أشد من العقوبة على غيرهن بقوله : { مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا ٱلْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ } [ الأحزاب : 30 ] ، فيجوز أن يندبن إلى التوبة بأدنى زلة حقها التجاوز عن غيرهن . ثم قوله : { إِن تَتُوبَآ إِلَى ٱللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } فجائز أن يكون قوله : { إِن } زيادة في الكلام ، وحقه الحذف ، فيكون معناه : توبا إلى الله ؛ فقد صغت قلوبكما ، ويوقف عليه ثم يبدأ بقوله : { وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ } . وجائز أن يكون حقه الإثبات ، فلا يكون حرف { إِن } زيادة ، ويكون معناه : إن تتوبا إلى الله ، وإلا فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين فيكون الجزاء فيه مضمراً . وجائز أن يكون جزاء صنيعهن أن يطلقهن ، فكأنه قال : إن تتوبا إلى الله وإلا طلقكن ، فيكون في هذا أنه حبب رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهن حتى اشتد عليهن الطلاق ، وخرج الطلاق مخرج العقوبة لهن على صنيعهن ، والله أعلم . وقوله : { فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } . أي : مالت عن الحق الذي لرسول الله صلى الله عليه وسلم عليكما ، وحق الرسول - عليه السلام - حق عظيم يرد فيه العتاب بأدنى تقصير . وقوله - عز وجل - : { وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ } . هذا في الظاهر معاتبة ؛ فينبغي أن يذكر على المخاطبة ، فيقال : وإن تظاهرتما عليه ، كما قال تعالى : { إِن تَتُوبَآ إِلَى ٱللَّهِ } ، قيل : جائز أن يكون معنى قوله : { إِن تَتُوبَآ إِلَى ٱللَّهِ } تامّاً ورجعت على إرادة المعاتبة ، وإن كان اللفظ لفظ المخاطبة ، ولكن الصحيح : أن قوله : { وَإِن تَظَاهَرَا } على المخاطبة ، معناه : وإن تتظاهرا ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ } . حق هذا أن يقف عليه ثم يقول : { وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ } ؛ حتى لا يتوهم أن غير الله تعالى مولاه ، ثم ذكر هذا إبلاغ في التهويل ، وإلا فالواحد من هؤلاء المذكورين يكفي لأزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكذلك في ذكر عقوبتهن إذا وجد منهن الخلاف [ في قوله ] : { يُضَاعَفْ لَهَا ٱلْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ } [ الأحزاب : 30 ] . والأصل : أن المبالغة في [ التأديب مما يعين المؤدب على حفظ الحدود ، وكذلك المجاوزة في ] حد العقوبة معونة له في تأديب النفس ؛ حتى يملك حفظ نفسه عما تدعو إليه نفسه . وقوله - عز وجل - : { وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ } . قيل : { وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ } : أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما - وذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما طلق حفصة دخل عليها عمر - رضي الله عنه - فقال : " لو علم الله - تعالى - في آل عمر خيرا ما طلقك رسول الله " ، فنزل جبريل - عليه السلام - على رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمره بمراجعتها ، وذكر أنها صوامة قوامة ؛ فجائز أن تكون حفصة - رضي الله عنها - تصوم النهار وتقوم الليل في غير نوبتها ؛ فلا يعلم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطلعه جبريل - عليه السلام - على ذلك . وروي عن أبي أمامة الباهلي - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " { وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ } أبو بكر وعمر " ، رضي الله عنهما . وقيل : هم الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام . وذكر عن الحسن أنه قال : { وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ } من لم يسر نفاقا ولا أظهر فسقا ، ثم خص من المؤمنين الصالحين منهم ، ولم يعم جملة المؤمنين ، فهذا - والله أعلم - لأنه لو ذكر المؤمنين على الإجمال لدخل فيه الزوجان اللتان تظاهرتا ؛ لأن إصغاء القلب لا يخرجهما عن أن تكونا من جملة المؤمنين ؛ ولأنه ذكر هذا في موضع المعونة في أمر الدين ، وصالح المؤمنين هم الذين يقومون بالمعونات في أمر الدين . وقوله - عز وجل - : { عَسَىٰ رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ } . وعلى قول المعتزلة : لا يملك أن يبدل خيرا منهن ؛ إذ لا يقدر على أن يجعل في أحد خيرا على قولهم ، ولا يملك أن يبدله أزواجا ؛ لأنه لا يقدر - على زعمهم - على أن يجعل أحدا من النسوان زوجة لأحد من الرجال ، وإنما المشيئة والاختيار إلى المتزوج والمتزوجة ، والفعل منهما . وعلى قولنا : يملك أن يجعل الخير لمن شاء فيما شاء ، وله أن يجعل من النسوان زوجة لمن شاء من الرجال ، فهذه الآية تشهد بالصدق ؛ لمقالتنا ، وترد على المعتزلة قولهم ؛ لأنه جعل الإبدال إلى نفسه ؛ بقوله : { يُبْدِلَهُ } ، وعلى قولهم لا يملك أن يفي بما وعد ، ثم في هذه الآية إباحة الإبدال وإباحة الطلاق لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي قوله : { لاَّ يَحِلُّ لَكَ ٱلنِّسَآءُ مِن بَعْدُ وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ } [ الأحزاب : 52 ] حظر الإبدال ؛ فجائز أن يكون قوله : { لاَّ يَحِلُّ لَكَ ٱلنِّسَآءُ مِن بَعْدُ } [ الأحزاب : 52 ] مقدما ، وقوله : { عَسَىٰ رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ } متأخراً ؛ فيصير ما تقدم منسوخا بهذه الآية ، والذي يدل على صحة هذا ما روي عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت : " ما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدنيا حتى أحلت له النساء " ، فثبت أن الحظر كان متقدما ثم وردت الإباحة من بعد ، فتحمل الآيتان على التناسخ ؛ ليرتفع التناقض من بينهما . وجائز أن يكون حظر عليه الإبدال إذا قصد بالطلاق قصد الإبدال بما أعجبه من الحسن ؛ كما قال : { وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ … } الآية [ الأحزاب : 52 ] ، فإذا كان قصده من الطلاق الإبدال ، كان ذلك محظورا عليه ، وإذا لم يقصد بالطلاق قصد الإبدال ، ولكن يقصد به قصد المجازاة للخلاف الذي ظهر ، أبيح له ذلك ، [ ثم الله تعالى يبدله خيرا من المطلقة وهو ليس يقصد ] بالطلاق في قوله : { عَسَىٰ رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ } قصد الإبدال ، وإذا كان كذلك ، سلمت الآيتان عن التناقض . وذكر عن أُبي بن كعب - رضي الله تعالى عنه - أنه سئل : أكان يحل لرسول الله صلى الله عليه وسلم إبدال امرأة بامرأة ؟ فقال : بلى ، فسئل عن قوله تعالى : { لاَّ يَحِلُّ لَكَ ٱلنِّسَآءُ مِن بَعْدُ وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ } [ الأحزاب : 52 ] فقال : هذا منصرف إلى من هن من وراء المسميات ؛ وهو كقوله تعالى : { وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاَتِكَ … } [ الأحزاب : 50 ] إلى قوله : { وَٱمْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ } [ الأحزاب : 50 ] ، فذكر بنات العم وبنات الخال والأجنبيات ، وحظر عليه من سواهن من المحارم [ ، فيكون فيه إبانة ] أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان حظر عليه تزوج محارمه من ذوي الرحم كما حظر على غيره ؛ إذ هو موضع الإشكال : أنه لما حل له زيادة على الأربع ، يحل له ذوات الأرحام من المحارم ، فزال الإشكال به . وقوله - عز وجل - : { خَيْراً مِّنكُنَّ } . فجائز أن يكون خيرا منهن للرسول - عليه السلام - لا أن يكن خيرا في أنفسهن ؛ لأنه قال : { مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ } ، وقد كان أزواجه على هذا الوجه : { مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ } ؛ ألا ترى إلى ما ذكر أن جبريل - عليه السلام - قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : راجع حفصة ؛ فإنها صوامة قوامة ، والذي يدل على هذا أيضاً في آخر هذه الآية : { ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً } وقد وجدت هاتان الصفتان في أزواجه ؛ فثبت أن معناه ما ذكرنا . وجائز أن يكن خيرا منهن أيضاً في أنفسهن من حيث الجمال والنسب ، ونحو ذلك . أو يصرف { خَيْراً مِّنكُنَّ } لما يتركن الخلاف لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا يتظاهرن عليه ، ويكن هؤلاء دونهن إذا التزمن الخلاف ، ودُمْنَ على التظاهر ، فأما إذا أمسكن عن الخلاف وتُبْنَ عما سبق من الخلاف فهن وغيرهن بمحل واحد . وقوله - عز وجل - : { مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ } . قد بينا أن كل مسلم مؤمن في التحصيل ؛ لأن معنى [ الإسلام والإيمان ] واحد ؛ إذ الإسلام : هو أن يجعل الأشياء كلها لله خالصة سالمة لا يشرك فيها غيره ، والإيمان : التصديق ، وهو أن يصدق أن الله تعالى رب كل شيء ، وإذا صدقته أنه رب كل شيء فقد جعلت [ الأشياء ] كلها سالمة له ، أو تصدق [ كلاًّ فيما ] يشهد لله تعالى في الربوبية [ بجوهره ] ، فثبت أن كل واحد منهما يقتضي ما يقتضيه الآخر من المعنى ، فإذا ذكر أحدهما بالإفراد ، ففي ذكره ذكر الآخر ، وإذا جمع في الذكر ، صرف هذا إلى وجه ، وهذا إلى وجه ، وهذا كما ذكرنا في التقوى أنه يقتضي معنى الإحسان إذا ذكر مفردا ؛ لأن التقوى هو أن يتقي من المهالك ، والاتقاء عن المهالك يقع باكتساب المحاسن ، وإذا ذكرا معا صرف التقوى إلى [ الاتقاء من الكفر ] والإحسان إلى فعل الخيرات ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لم يؤمن من لم يأمن جاره بوائقه " ، وقال : " المسلم من سلم الناس من لسانه ويده " ، فصرف هذا إلى وجه وهذا إلى وجه ، وهما في التحصيل واحد ؛ لأنهم إذا أمنوا بوائقه فقد سلموا من لسانه ويده . وقوله - عز وجل - : { قَانِتَاتٍ } . قيل : مطيعات . وقيل : القائمات بالليالي للصلاة ، وهذا أشبه ؛ لأنه ذكر السائحات بعد هذا ، والسائحات الصائمات ، وذكر الصيام بالنهار ، فيكون تأويل القانتات راجعا إلى قيام الليل ؛ ليكون فيه إحياء الليل والنهار بالعبادة ؛ ولذلك قال جبريل - عليه السلام - في وصف حفصة - رضي الله عنها - : " إنها صوامة قوامة " أي : صوامة بالنهار وقوامة بالليل ، وذكر " عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن أفضل الأعمال ، فقال : " طول القنوت " ، وهو القيام بالليل . وقوله - عز وجل - : { تَائِبَاتٍ } . هن اللائي لا يصررن على الذنب ، بل يفزعن إلى الله تعالى بالتوبة والتضرع إذا ابتلين بالخطيئة . قوله : { عَابِدَاتٍ } . ذكر أبو بكر أن العابد لا يسمى : عابدا حتى يتطوع ، فإن كان على هذا ، ففيه أنهن يقمن بأداء الفرائض ، ويتطوعن مع ذلك . وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال : " كل عبادة في القرآن فهي توحيد ؛ فالعابدات : الموحدات " ، والموحد هو الذي يصدق أن خالق الخلق كله واحد لا شريك له ؛ فجائز أن يكون العابد موحدا ؛ لأنه يعمل لله تعالى خالصا لا يشرك في عبادته أحدا ؛ فيكون فيه معنى التوحيد ولكن من حيث الفعل ؛ فيكون أحد التوحيدين بالقول والثاني بالمعاملة والفعل . وقيل : العابد هو الذي يؤدي الفرائض . وقوله - عز وجل - : { سَائِحَاتٍ } . هو الذي يسيح في الأرض بغير زاد ، فسمي الصائم : سائحا ؛ لما كف نفسه عن التناول من الزاد ، فقوله : { سَائِحَاتٍ } أي : صائمات . وقوله - عز وجل - : { ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً } لم يرد بهذا أنه ينشيء نسوة أبكارا وثيبات ، ولكن معناه : أنه يبدله من كن بهذا الوصف ، ثم جمع بين الثيبات والأبكار ؛ لأن الثيبات مما يقل رغبة الخلق فيهن ، وينفر عنه الطبع ، فجمع بينهما في موضع الامتنان على الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ لئلا تصرف كل الرغبة إلى الأبكار ، بل يتزوجوا الثيبات كما يتزوجون الأبكار ، والله أعلم .