Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 67, Ayat: 1-5)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - عز وجل - : { تَبَارَكَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ ٱلْمُلْكُ } . قيل : تعالى وتعاظم ، و { تَبَارَكَ } تفاعل من البركة ، والبركة كناية عن نفي كل عيب ؛ قال - عز وجل - : { وَنَزَّلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً مُّبَٰرَكاً } [ ق : 9 ] أي : ماء لا كدورة فيه ولا قذر ، بل هو ماء مطهر من كل آفة وعيب ، فمعنى قوله : { تَبَارَكَ } أي : تعالى من أن يكون له شبيه وعديل ، وتعاظم عما قالت فيه الملاحدة ومن أن يلحقه المعايب والآفات . وقوله : { بِيَدِهِ ٱلْمُلْكُ } . أي : الذي له ملك الملك ؛ لأنه قال في موضع آخر : { قُلِ ٱللَّهُمَّ مَالِكَ ٱلْمُلْكِ } [ آل عمران : 26 ] [ أي : الذي له الملك ] ، فذكر اليد هاهنا مكان المالك هناك ؛ فامتدح - جل وعلا - بملك الملك وكونه مالكا له . والمعتزلة يقولون بأن مِلْكَ مُلْكِ الكفرة ليس له ، وأنه لا يولي الملك للكافر ، ويقولون في قوله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ ٱللَّهُ ٱلْمُلْكَ } [ البقرة : 258 ] أن الذي آتاه الله الملك هو إبراهيم - عليه السلام - والهاء تنصرف إليه ، لا إلى الذي حاجه ، وإذا لم يجعلوا مِلْكَ مُلْكِ الكافر في يده ، لم يصر ممتدحا بما ذكرنا ؛ لأنه يكون في يده بعض الملك لا كله ، وقال في آية أخرى : { تُؤْتِي ٱلْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ ٱلْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَآءُ } [ آل عمران : 26 ] ، وعلى قولهم يصير الملك في يد من لا يشاء ؛ لأنه لا يشاء الملك للكافر ، ومع ذلك يوجد فيهم الملك . ثم ما ينبغي لهم أن يقطعوا القول بأن الله تعالى لا يؤتي الملك للكافر ، بل عليهم أن يقولوا : إن كان إيتاء الملك أصلح لهم آتاهم إياه ، وإن كان شرّاً لهم لم يؤتهم ؛ إذ من مذهبهم أن الله لا يفعل بعبده إلا [ ما هو الأصلح ] له في الدين والدنيا في حقه ، فهذا جملة اعتقادهم ، ثم هم لا يعرفون الوجه الذي صار أصلح في كل شيء على الإشارة إليه ؛ لأنهم يقولون : في إبقاء إبليس اللعين إلى اليوم المعلوم صلاح ، وإن كنا لا نعرف الوجه الذي لأجله صار أصلح ، وإفناء الأنبياء والرسل - عليهم السلام - كان أصلح وإن لم نعرف من أي وجه صار أصلح ؟ ! فليقولوا هاهنا بأن إيتاء الملك إن كان أصلح لهم لم يكن له ألا يؤتيهم ، وإن كان شرّاً فعليه ألا يؤتيهم ؛ لئلا يجعلوا الأمر على النفي . ثم الملك اسم عام ، وهو عبارة عن نفاذ التدبير والسلطان والولاية ، والملك هو أن يكون للمالك خاصة في الشيء ، لا يتناول من ذلك الشيء إلا بإذنه ، وقد يكون المرء مالكا ، وليس بملك ، وقد يكون ملكا ليس بمالك ، فكل واحد من الوجهين يقتضي معنى [ غير ما ] يقتضيه الآخر . وجائز أن يكون [ تأويل ] قوله : { بِيَدِهِ ٱلْمُلْكُ } ، أي : ملك كل من ملك من أهل الأرض بيده ؛ لأنه إن شاء أبقى له الملك ، وإن شاء نزعه ؛ فما من ملك في دار الدنيا إلا وملكه في الحقيقة لله تعالى . وقوله - عز وجل - : { وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } . امتدح نفسه تعالى [ بأنه على ما يشاء قدير ، وذلك من أوصاف ربوبيته أيضاً ومن قول المعتزلة ] : إنه على أكثر الأشياء غير قدير ؛ لأنهم يجعلون المعدوم شيئاً ؛ فشيئية الأشياء كانت بأنفسها لا بإنشاء الله تعالى ، ويجعلون ظهورها بالله - تعالى - فقط ، وإذا كان كذلك فإنه لم يصر قادرا على شيئية الأشياء ، وكذلك ينفون الخلق والقدرة على أفعال العباد . ومن قولهم - أيضاً - إن إقدار العبد بيد الله ، وإذا أقدر عبداً من عبيده على الهداية ، خرجت القدرة من يده ؛ فتصير هذه القدرة مستفادة لا ذاتية ، وإذا كان كذلك فقد نفوا عنه القدرة عن أكثر الأشياء ، فلا يصير هو قادرا على كل شيء ، وإنما هو قادر على البعض ، تعالى الله عما يقول الظالمون علوّاً كبيراً . وقوله - عز وجل - : { ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } . قال أبو بكر الأصم : { ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْمَوْتَ } أي : خلقكم أمواتا : نطفة وعلقة ومضغة ، ثم أحياكم { لِيَبْلُوَكُمْ } . وقال غيره : { ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْمَوْتَ } ليجزيكم بعده ، والحياة ؛ ليبتليكم بها ، واستدل بقوله - تعالى - : { إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى ٱلأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً } [ الكهف : 7 ] ، فصرف المحنة إلى الحالة التي أنشأهم على وجه الأرض ، وهي حالة الحياة ، [ ثم أخبر بعد ذلك أنه يجعلهم ] صعيدا جرذا بعد الابتلاء بقوله : { وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً } [ الكهف : 8 ] . وعندنا : أنه خلقهما جميعا للابتلاء ؛ لأن الله - تعالى - خلق الموت على غاية ما تكرهه الأنفس ، وتنفر عنه ، وخلق الحياة على غاية ما تتلذذ به الأنفس وترغب فيها ، والمحنة في الترغيب والترهيب ، فثبت أن في خلق الموت محنة ؛ فيكون قوله - تعالى - : { خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَاةَ } كأنه يقول : خلق الموت مرهبا ، وخلق الحياة مرغبة ؛ { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } ، أي : ليبلوكم أيكم أرهب من الشر ، وأرغب في الخير ؟ ثم الموت مما لا مهرب منه لأحد ، ولا مخلص لمخلوق ، وكذلك الحياة ، وإن كانت من أرغب الأشياء إلى الأنفس ، فليست هي بحيث يتهيأ للمرء أن يزيد منها بالطلب ، ولا مما يوجد بالكد والسعي ؛ فصارت هي مرغبة في الحياة الدائمة وهي نعيم الآخرة ، [ وصار الموت ] مرهبا عن الموت الدائم ، والموت الدائم هو العذاب الدائم ، الذي لا ينقطع كما قال - تعالى - : { وَيَأْتِيهِ ٱلْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ } [ إبراهيم : 17 ] ، أي : لا تنقضي عنه الآلام والأوجاع بل يبقى فيها أبدا ، وإذا ثبت أن الموت صار مرهبا عن العذاب الدائم ، والحياة صارت مرغبة في مثلها ، فنقوم بطلبه ، ووجب القول بالبعث أيضاً ؛ إذ الراغب إنما يصل [ إلى ] ما يرغب فيه بالبعث ، والآخر إنما يصير إلى العذاب الدائم بالبعث . وفيه إيجاب القول بالرسالة ؛ لأنه إذا ثبت الرغبة في الموعود من الثواب والرهبة عن العذاب ، وهما جميعاً غائبان ، فاحتيج إلى من يظهرهما ويحضرهما ويخبر عنهما ، فلم يكن بد من رسول يخبرهم ويحضر علمه لهم . ثم الأصل في قوله - تعالى - : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } [ أنه إنما يحسن عمله ] بحسن رغبته ويسوء عمله بسوء رغبته ورهبته ، فخلق الحياة والموت ليتفكر فيهما المرء ، ويعتبر بهما ، فمن حسنت رغبته ورهبته حسن عمله ، ومن لم يتفكر فيهما ، ولم يعتبر بهما ، ساء عمله ، فالموت والحياة أنشئا مرغبين ومرهبين ، وكذلك الدنيا وما فيها [ أنشئت ] دلالة على طريق الآخرة ، فالسمع يدل على السمع ، والبصر على البصر ، وآلامها تدل على آلام الآخرة ، ونعيمها دليل على نعيم الآخرة ، والله أعلم . ثم قوله : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } [ فيه دليل على إضمار قوله : وأيكم أسوأ عملا ] على مقابلة الأول ، إلا أنه اكتفى بذكر أحد المتقابلين عن الآخر ، والله أعلم . فإن قال قائل : كيف أضاف الابتلاء إلى نفسه بقوله : { لِيَبْلُوَكُمْ } ، والابتلاء في الشاهد ؛ لاستظهار ما خفي ، ولاستحضار ما غاب ، والله تعالى لا يغيب عنه شيء ، ولا يخفى عليه أمر ، فكيف أضيف إليه الابتلاء ؟ ! فجوابه أن نقول : إن الابتلاء في الحقيقة كناية عما به ظهور الشيء وبروزه . فاستعمل الابتلاء في كل ما فيه ظهور الأمر ، وإن كان الذي ظهر من الأمر عند المبتلي ظاهرا ، وهذا كما أضيف [ الاستدراج والمكر ] إلى الله تعالى ؛ لوجود معنى المكر والاستدراج فيه ، وإن لم يكن المقصود من ذلك المكر والاستدراج ، وفي الشاهد المكر أن تحسن إلى عدو ليقع عنده أنك تركت عداوته ، فيعتبر بإحسانك إليه ، ثم تأخذه من وجه أمنه ، ومن حيث لا يشعر به ، هذا هو معنى المكر في الشاهد ، وقد وجد الإحسان من الله تعالى إلى أعدائه ، ووجد منهم الاغترار بالنعم ، ووقع عندهم أنهم من جملة أوليائه ثم أتاهم العذاب من حيث لا يشعرون ؛ فوجد معنى المكر وإن لم يقصد بإحسانه إليهم المكر بهم . والثاني : أن من أمر في الشاهد فإنما يأمر ؛ لمصلحة أو لمنفعة تعود إليه ، وإذا نهى عن شيء فإنما ينهى ؛ لنفي مضرة تصل إليه ، والله تعالى لم يأمر الخلق ولم ينههم لمنفعة يجلب بها إلى نفسه ، أو لمضرة يدفعها عن نفسه ، وإنما أمرهم ونهاهم ؛ لمنافع ترجع إليهم ومضار تلحقهم ، ثم أضيف إليه الأمر والنهي وإن كان لا منفعة له ولا مضرة عليه ؛ فكذلك ابتلى خلقه ؛ ليظهر للمبتلى عداوته وولايته ، لا لتظهر له ، وأضاف الابتلاء إلى نفسه وإن كان هو مستغنيا عن الابتلاء ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْغَفُورُ } . ففيه إبانة أنه لم يبتلنا لمنفعة أو لعز يرجع إليه ، أو لذل يدفع عنه ، ولكن لعز يحرزه الممتحن إذا أحسن العمل وذنوب تغفر له وتستر عليه ، وهو عزيز بذاته . وجائز أن يكون معنى قوله : { وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ } ، أي : القوي على الانتقام ممن ساء عمله ، واختار عداوته ، { ٱلْغَفُورُ } : الستور على من حسن عمله ، يستر عليه ذنبه ، ويجزيه بحسن عمله ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { ٱلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ } . ففي ذكر السماوات السبع إيجاب القول بتصديق ما يأتي به الرسل ؛ [ لأن كون السماوات سبعا لا يعرف إلا من طريق ] الخبر ، وقد ثبت وجود هذا القول [ على ألسن الرسل ] وهذه الآية أثبتت تصديق ما يأتي به الرسل ؛ فلزمنا القول [ في السماوات ] أنها سبع وإن لم تشاهد . ثم يحتمل قوله : { ٱلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ طِبَاقاً } ؛ ليبلو أهلها : أيهم أحسن عملا ؛ لأنه بين أنه لم يخلق السماوات والأرضين باطلا ، ثم السماوات بأنفسها لا تمتحن ، وإنما يمتحن أهلها ، لكنه اقتضى [ ذكر السماوات ] ذكر أهلها ، واقتضى ذكر الأرض ذكر أهلها ، فأخبر بذكر الأرض عن ذكر أهلها ، وبذكر السماوات عن ذكر أهلها ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ ٱلرَّحْمَـٰنِ مِن تَفَاوُتٍ } . أي : انظر في خلق الرحمن ، هل ترى [ فيه ] من تفاوت أو فطور ؟ ! فإنك إن رأيت فيه فطوراً ، ظننت أن في مدبره عدداً ، وإن رأيت فيه تفاوتا ، ظننت في منشئه سفهاً ، فإنك إذا رأيت فيه فطورا وشقوقا رأيت فيه تمانعا وتدافعا ، وفي حصول التمانع والتدافع حصول العدد ؛ لأن التدافع والتمانع إنما يقع عند ثبات العدد ؛ لأن ما يبني هذا يهدمه الآخر ، وما يهدمه الآخر وينقضه يبني الآخر ، فعند ذلك يقع التدافع ، وإذا لم ير فيه فطوراً أو شقوقاً ، بل رآه متسقا مجتمعا ؛ دل على وحدانيته وقدرته وسلطانه . وكذلك التفاوت يدل على السفه ونفي الحكمة ، وارتفاع التفاوت يدل على حكمته وعجيب تدبيره ؛ فيكون في ارتفاع [ الفطور والتفاوت ] إثبات القول بالوحدانية وإيجاب القول بالبعث من حيث ثبت حكمته ، وفي نفي القول بالبعث زوال الحكمة ، وفيه إيجاب المحنة والابتلاء ؛ لأن العدد إذا ثبت ، كان للممتحن ألا يعمل حتى يتبين له الغالب من المغلوب فلا يضيع عمله . أو يشتغل كل بإقامة سلطانه ونفاذ تدبيره ، فلا يتفرغ للأمر بالمحنة ؛ ألا ترى [ إلى ] قوله : { وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَـهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَـٰهٍ بِمَا خَلَقَ } [ المؤمنون : 91 ] قيل : يذهب كل واحد منهم بالجزء الذي خلقه ؛ فيظهر عند ذاك فطور وشقوق ؛ لأن ما خلق هذا يمتاز من الذي خلقه الآخر ، فارتفاع الفطور يدل على وحدانية الصانع جل جلاله . وقيل في قوله : { مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ ٱلرَّحْمَـٰنِ مِن تَفَاوُتٍ } أي : من حيث الدلالة على وحدانية الرب - تعالى - أو من حيث الحكمة والمصلحة ؛ فالخلائق كلها في المعاني التي ذكرناها غير متفاوتة ، لا أن تكون الأشياء المحدثة غير متفاوتة في أنفسها ؛ لأن بين السماوات والأرضين تفاوتاً ، وكذلك بين الحياة والموت تفاوت ، ولكن منافع السماء متصلة بمنافع الأرض ، ومنافع أهل الأرض متصلة بالأرض وقوامهم ومعاشهم بما يخرج منها ، وكل ذلك يدل على وحدانيته وعلى حكمته ولطائف تدبيره . وقوله - عز وجل - : { فَٱرْجِعِ ٱلْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ * ثُمَّ ٱرجِعِ ٱلبَصَرَ كَرَّتَيْنِ } . فجائز أن يكون هذا على رجوع بصر الوجه . وجائز أن يكون على رجوع بصر القلب . أو يكون أحدهما على بصر الوجه ، والثاني على بصر القلب . والأشبه أن يكون على بصر القلب ؛ لأنه قد سبق منه النظر إلى السماوات والأرضين ببصر الوجه ، وسبق منه العلم من حيث النظر أنه لا تفاوت فيها ولا فطور ، فدعاه إلى أن ينظر ببصر القلب ؛ ليدله ذلك على المعاني التي ذكرناها ؛ وهو كقوله - تعالى - : { فَسِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَٱنْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلْمُكَذِّبِينَ } [ آل عمران : 137 ] ، وقال تعالى : { أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ } [ الروم : 9 ] ، ولم يرد به السير بالأقدام ؛ إذ قد سبق منهم السير فيها ، ولكن معناه : أو لم يتفكروا في عواقب من تقدمهم من مكذبي الرسل أنهم بأي سبب أهلكوا ؟ ولأي معنى عوقبوا واستؤصلوا ؟ ثم قوله : { فَٱرْجِعِ ٱلْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ * ثُمَّ ٱرجِعِ ٱلبَصَرَ كَرَّتَيْنِ … } الآية منهم من قال : إن الكرتين هاهنا كناية عن مرة بعد مرة ، ليس على تثنية العدد ، فكأنه أمره أن يكون أبداً معتبرا ناظرا في خلق الرحمن ؛ وإلى هذا يذهب الحسن والأصم . وجائز أن يكون قوله : { كَرَّتَيْنِ } مرتين ، ولكن على اختلاف الوقتين ؛ فيكون أحد النظرين [ بالليل ] والآخر بالنهار ؛ لأنه يرى بالليل آيات وبالنهار آيات سواها ، وثبوت كل ذلك يدل على وحدانيته وعجيب حكمته ونفاذ قدرته وسلطانه . أو أن تكون النظرة الأولى ببصر الوجه والنظرة الثانية ببصر القلب ؛ لأنه إذا نظر النظرة الأولى ببصر وجهه ، فرأى ما فيه من العجائب أشعر قلبه ما رأى ، فينظر فيه مرة أخرى ببصر القلب ؛ ليتأكد ذلك ويتكرر . ويجوز أن يكون النظران جميعا ببصر الوجه ؛ لأنه لا يستوعب النظر بالجملة في المرة الأولى ؛ فينظر [ مرة أخرى ] ؛ ليدرك ما غاب عنه في المرة الأولى . وقوله - عز وجل - : { خَاسِئاً } . أي : صاغرا مستسلما معترفا بالقصور عن درك كنه سلطانه والإحاطة بعظمته وجلاله . { وَهُوَ حَسِيرٌ } . أي : منقطع عن درك بلوغ حكمته ونفاذ أمره . ثم الأشبه أن يكون المراد بهذا الخطاب المكذبين بالبعث ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كان الخطاب متوجها إليه في الظاهر ؛ لأنه إنما أراد بالنظر في خلق الله تعالى ؛ ليتقرر عنده عظمة الله تعالى وسلطانه وعجيب حكمته ونفاذ تدبيره ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان تقرر عنده علم ذلك كله ؛ فلم يكن يحتاج إلى النظر فيما ذكر ؛ ليتقرر صرف النظر إلى المكذبين بالبعث ، فأمروا بالنظر فيما ذكر ؛ ليتقرر عندهم سلطانه ونفاذ تدبيره ، وأنه ليس بالذي يعجزه أمر وأن قدرته ليست بمقدرة بقوى البشر ، وهم كانوا ينكرون البعث والإحياء على تقرير الأمور بقوى أنفسهم ، فإذا نظروا في هذه الأشياء وعرفوا فيها لطائف وحكماً لا تدركها عقولهم وقوة لا تبلغها حيلهم ، أدى ذلك إلى رفع الإشكال عنهم وإزاحة الريب الذي اعتراهم في أمر البعث ؛ فيحملهم على الإيمان . وقوله - عز وجل - : { وَلَقَدْ زَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنْيَا بِمَصَٰبِيحَ } . سماها : سماء الدنيا ؛ لدنوها إلى المخاطبين الممتحنين ، لا أن تكون السماء الثانية سماء الآخرة ، والذي يدل على صحة ما ذكرنا : أن مقابل الآخرة ليست هي الدنيا بل مقابلها الأولى ، ومقابل الدنيا القصوى ؛ فثبت أن ليس فيها تثبيت أن السماء الثانية هي سماء الآخرة ، والمصابيح هي النجوم ، فذكر عباده عظم ما أودع من النعيم في النجوم عليهم ، فجعل فيها ثلاثة أوجه من النعيم : أحدها : أنه جعلها زينة للناظرين ؛ كما قال - تعالى - : { وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ } [ الحجر : 16 ] ، ثم هذه الزينة إنما تظهر عندما تخفى على الناظرين زينة الأرض ، وذلك في ظلم الليالي ؛ فأبدل الله لهم زينة في السماء مكان الزينة التي أنشأها في الأرض ، وفضل هذه الزينة على سائرها ؛ لأن سائرها لا يظهر إلا بالدنو إليها والقرب منها ، ثم جعل هذه الزينة بحيث تظهر فترى من البعد ؛ فثبت أن لها فضلا وشرفا على زينة الأرض . والنعمة الثانية : ما ذكر في قوله : { وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلنُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَٰتِ ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ } [ الأنعام : 97 ] ؛ فجعلها هدى من ظلمات أحوال تقع فيسلم بها المرء عن الوقوع في المهالك . والنعمة الثالثة : ما ذكر من قوله - تعالى - : { وَجَعَلْنَٰهَا رُجُوماً لِّلشَّيَٰطِينِ } ، وفي جعلها رجوما للشياطين رفع الاشتباه عن الخلق وإخراجهم من ظلمات الأفعال إلى النور ، وذلك أن الشياطين كانوا يصعدون إلى السماء ؛ فيستمعون إلى الأخبار التي يتحادث بها أهل السماء ، فيما بينهم مما يراد بأهل الأرض ، فيسترقون السمع منهم ، فيأتون بها أهل الأرض ويلقونها إلى أهل الأرض بعدما يخلطونها بأكاذيب من عند أنفسهم فيشبهون على الخلائق ويضلونهم بذلك عن سبيل الله تعالى ؛ فملأ الله - تعالى - السماء بالحرس والشهب ؛ ليدفعوا الشياطين عن استراق السمع ؛ ليكون تبليغ الأخبار إلى أهل الأرض بمن يؤمن عليه الكذب ، وهو الرسول - عليه السلام - فتسلم تلك الأخبار عن التخاليط والشبه ؛ فيسلم الناس عن الوقوع في الظلمات . ثم يكون في جعل النجوم زينة للسماء : أن أهل [ السماء ابتلوا ] أيهم أحسن عملا ؟ كما ابتلي به أهل الأرض ؛ ألا ترى إلى ما ذكر في أهل الأرض من قوله : { إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى ٱلأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً } [ الكهف : 7 ] فأخبر أن الزينة للامتحان . وقوله - عز وجل - : { وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ ٱلسَّعِيرِ } . ففيه أنهم وإن عذبوا بالنيران التي جعلت في النجوم الرجوم ، لا يدفع عنهم ما استوجبوا من العذاب الدائم ، بل قد أعد لهم عذاب السعير ، كما أعد لغيرهم من الشياطين وأهل الكفر .