Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 67, Ayat: 23-30)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - عز وجل - : { قُلْ هُوَ ٱلَّذِيۤ أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ وَٱلأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } . فهذه الآية صلة قوله : { ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَاةَ } [ الملك : 2 ] ، وصلة قوله : { ٱلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ طِبَاقاً } [ الملك : 3 ] ، وقوله : { ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ ذَلُولاً } [ الملك : 15 ] ، ثم في ذكر الإنشاء وجعل السمع والأبصار والأفئدة تذكير قوته وسلطانه وعلمه وحكمته وآلائه وتعاليه عن الأشباه والأمثال : فوجه [ تذكيره القوة ] والسلطان والعلم والحكمة ما يوصف بعد هذا ، ويذكر في سورة المرسلات وفي سورة { وَٱلسَّمَآءِ وَٱلطَّارِقِ } [ الطارق : 1 ] وسنذكر طرفا من ذلك هاهنا بعون الله تعالى وتوفيقه ، فنقول بأن الله تعالى أنشأنا في أظلم مكان وأضيق موضع ، بحيث لا ينتهي إليه تدبير البشر وعلومهم وحكمتهم وقواهم ؛ لأن علم الخلق لا يجد نفاذا في الظلمات ، وكذلك حكمته ، ثم إن الله تعالى أنشأه في تلك الظلمات كيف شاء ، وأجرى سلطانه وتدبيره على ذلك الشيء ؛ ليعلم به أن علمه بالخفيات من الأمور كعلمه بما ظهر منها ، ويعرف الخلائق أنه لا يخفى عليه شيء ، فيدعوهم ذلك إلى المراقبة في كل ما يسرون وما يعلنون ، ويوجب ما ذكرنا نفي تقدير قوته وعلمه وسلطانه بقوى البشر وعلومهم وسلطانهم ؛ فيكون فيه إيضاح عن الشبه التي اعترت منكري البعث [ في أمر البعث ] ، ويحملهم على الإيمان [ به ] إذا أمعنوا النظر فيه ، وليعلموا أن من بلغت حكمته ما ذكرنا لا يجوز أن يخلقهم سدى لا يخاطبهم ولا ينهاهم بل يتركهم هملا . وأما وجه تعاليه عن الأشباه والأشكال : هو أنه أنشأ الخلق في أظلم مكان وأضيقه كان فيه إبانة أنه لا يوصف بالكون في ذلك المكان الذي ظهر فيه آثار فعله ؛ لأنه في وقت ما خلق عمرا في بطن أمه ، فقد خلق زيدا في ذلك الوقت في بطن أمه ، وخلق خلائق في بطون الأنعام والسباع وبطون بنات آدم ، وأنشأ النبات في الأرضين في ذلك الوقت ، ولو كان يوصف بالكون في مكان الفعل ، لكان إذا أخذ في خلق هذا لا يخلق في ذلك الوقت في أقطار الأرض أمثاله من الخلائق ؛ فدل أن الفعل ليس يتحصل منه بشهوده المكان الذي ظهر فيه فعله ، وإنما يكون بما [ ظهر لنا بمقتضى ] قوله : { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ النحل : 40 ] . وأما سائر الفَعَلة فهم لا يتمكنون من الفعل إلا بشهودهم مكان الفعل ؛ فهذا الذي ذكرناه ينفي عنه شبه الخلق ، ويوجب تعاليه عن الأشكال ، وفيه تذكير نعمه ومننه على خلقه ؛ ألا ترى أنه قال على أثر هذا : { قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } ؟ ! ولو لم يكن منعماً مُفْضِلاً ، لم يكن يستأدي منهم الشكر . ووجه النعمة : هو أنه قدره في تلك الظلمات وصانه عن الآفات ، وعن كل أنواع الأذى ، وغذاه في ذلك الموضع بما شاء من الأغذية ، وستره عن أبصار الناظرين ، وغيبه عن أعينهم ؛ لأنه في تلك الحال بالمحل الذي يستعاف ويستقذر منه ، ولا يمكن أن يدفع عنه المعنى الذي وقعت به الاستعافة والاستقذار بالتطهير ، وأنشأ له السمع والبصر والفؤاد ؛ ليصل بها إلى أنواع العلوم والمصالح ؛ فلزمهم أن يقوموا بشكر ذلك . وفيما ذكرنا نقض قول المعتزلة ؛ لأنهم يزعمون أن الله تعالى لو خلقهم على غير الوجه الذي ظهر ، لكان جائراً ؛ لأن من مذهبهم : أنه لا يفعل بهم إلا ما هو أصلح لهم ، وإذا كان خلقهم هو الأصلح ، ومن شرطه فعل الأصلح ، فإذن هو صار قاضي حق ، وليس لقاضي الحق على المقضي موضع منة ، ولا منه بمكانة ولا نعمة يلزمه شكرها له . ثم قوله عز وجل : { وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ وَٱلأَفْئِدَةَ } : أي : جعل لكم السمع ؛ لتسمعوا ما غاب عنكم ونأى ، فتعرفوه بالسمع ، وأنشأ لكم الأبصار ؛ لتبصروا بها ما حضر من الأشياء ، وتعرفوا بها ما ينفعكم وما يضركم ، وما خبث منها وما طاب ، وأنشأ لكم أفئدة تدركون بها حقائق الأشياء ، ومبادى الأمور ومآلها ، وما حل منها وما حرم . ثم خص هذه الأشياء الثلاثة بالذكر ؛ لما بها يتوصل إلى العلوم ومعرفة الأشياء ؛ قال الله - تعالى - : { وَٱللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلْسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ وَٱلأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ النحل : 78 ] ، ومعناه : أنه أنشأ لكم هذه الأشياء ؛ لتهتدوا بها ، وتصلوا بها إلى أنواع العلوم ؛ فثبت أن هذه الأشياء هي التي يتوصل بها إلى العلم والحكمة ، وإلى ما به المصلحة والمنفعة ؛ ولذلك قال : { إِنَّ ٱلسَّمْعَ وَٱلْبَصَرَ وَٱلْفُؤَادَ كُلُّ أُولـٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } [ الإسراء : 36 ] ، فلو لم يقع بها الوصول إلى علم الأشياء ، لكان لا يخص بالسؤال عنها . وقوله - عز وجل - : { هُوَ ٱلَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } جمع في هذه الآية بين خبرين : أحدهما : مما قد نوزع فيه ، وهو قوله : { وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } فإن بعض الكفرة ينكرون الحشر والبعث . والثاني : مما لم يقع فيه التنازع ، وهو قوله : { هُوَ ٱلَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ } . ثم إن الله - تعالى - جعل ابتداء الخلق دلالة القدرة على الإعادة بقوله : { قَالَ مَن يُحيِي ٱلْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا ٱلَّذِيۤ أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ } [ يس : 78 - 79 ] ، وقال : { وَهُوَ ٱلَّذِي يَبْدَؤُاْ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [ الروم : 27 ] . وإذا جعل الابتداء دليل الإعادة ، لزمهم أن يستدلوا به ، فهو وإن ذكره على [ وجه الجمع لا على ] وجه الاحتجاج ، ففيه موضع الاحتجاج عليهم . وقوله - عز وجل - : { فِي ٱلأَرْضِ } فيه إخبار أنه خلقهم في الأرض ؛ ليشاهد بعضهم خلق بعض في الابتداء ؛ فيعلموا أنهم لم يكونوا على الحالة التي هم عليها للحال ، بل كانوا نطفاً وعلقاً وأطفالاً إلى أن انتهوا إلى الحالة التي هم عليها ، فإذا تقرر عندهم أمر الابتداء ، أوجب لهم ذلك علما بالقدرة على الإعادة . أو يكون قوله : { فِي ٱلأَرْضِ } أي : أنشأكم ، وجعل لكم مساكن في الأرض ، وبسطها لكم لتنتفعوا بها ، وجعلها لكم كِفَاتاً ؛ فيكون فيه تذكيره النعمة والقدرة والسلطان . وقوله عز وجل : { ذَرَأَكُمْ } أي : كثركم من أصل واحد ، كما قال - تعالى - : { خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً } [ النساء : 1 ] . ومعلوم بأن الخلق على كثرتهم ، لم يكونوا في نفس واحدة ، ومن قدر على خلق الأنفس من نفس واحدة ، لقادر على إعادة ما قد سبق كونه . وقوله - عز وجل - : { وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَـٰذَا ٱلْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } ، فقولهم هذا خرج مخرج الاستهزاء ، أو الاستخفاف برسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر الله - سبحانه وتعالى - نبيه - عليه السلام - أن يجيبهم بالجواب الذي يليق من الحكماء ، ولم يأذن له أن يجازيهم باستخفافهم إياه استخفافاً مثله ؛ فقال : { قُلْ إِنَّمَا ٱلْعِلْمُ عِنْدَ ٱللَّهِ وَإِنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } يبين لهم أنه لا ينذرهم إلا بالذي أمره به ، ولا يبلغ إليهم إلا ما قد أنزل إليه ، وأمر بتبليغه ، وفي هذه الآية دلالة نبوته ، وآية رسالته ؛ لأنه لو لم يكن رسولاً - كما زعموا - وكان مختلقاً من تلقاء نفسه ، لكان يمكنه أن يحيل ذلك إلى وقت لا يظهر غلطه فيه ، ولا كذبه لديهم ، وهو أن يحيله إلى وقت لا يعيش إلى مثل ذلك الوقت ؛ فإذا لم يفعل ، بل قال : { إِنَّمَا ٱلْعِلْمُ عِنْدَ ٱللَّهِ وَإِنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } دلهم ذلك على رسالته ، وأنه إذا كان رسولاً ، لم يكن له أن يزيد في الرسالة ، ولا أن يتكلف من عنده فيها زيادة ؛ كما ذكر في قوله : { عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ } [ عبس : 1 ] أن فيه ما يقرر رسالته عندهم من الوجه الذي يذكر في تلك السورة ، إن شاء الله تعالى . وقوله عز وجل : { وَإِنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } ، أي : لا أزيد في الإنذار على القدر الذي أمرت به . وقوله - تعالى - : { فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } ، جائز أن يكون قوله تعالى : { رَأَوْهُ } ، أي : رأوا الذي وعدوا ، وقوله : { زُلْفَةً } ، أي : قريبة . ثم أنث " الزلفة " ؛ لما أريد بها الأحوال التي تكون في ذلك اليوم من الأهوال والشدائد ، ويكون قوله : { رَأَوْهُ } كناية عن ذلك اليوم ، فذكر ؛ لأن اليوم مذكر ، وجعل " زلفة " بلفظ التأنيث ؛ لأنها كناية عن الأهوال التي تكون في ذلك اليوم . وجائز أن يكون قوله : { زُلْفَةً } ، أي : رأوا تلك الأهوال والشدائد قريبة عن الأوقات التي وعدوا فيها ، فعلموا أنها كانت قريبة منهم وإن كانوا يستبعدونها في هذا اليوم ، وهو كقوله : { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوۤاْ إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَٰهَا } [ النازعات : 46 ] ، وقال : { وَلَوْ يَرَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ إِذْ يَرَوْنَ ٱلْعَذَابَ أَنَّ ٱلْقُوَّةَ للَّهِ جَمِيعاً } [ البقرة : 165 ] . وكذلك إذا رأوا شدائد ذلك اليوم وأهواله ، علموا أن الوقت الذي كان يوعدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قريباً منهم . وقوله : { سِيئَتْ وُجُوهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } . فسيئت ، من ساءت ، أي : ساءت وجوههم ، أو قبحت وجوههم بتغير ألوانها . وقوله - تعالى - : { وَقِيلَ هَـٰذَا ٱلَّذِي كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ } . قال أبو بكر الأصم : معناه : تمنعون وتدفعون كقوله تعالى : { فَذَلِكَ ٱلَّذِي يَدُعُّ ٱلْيَتِيمَ } [ الماعون : 2 ] ، وقوله : { يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَىٰ نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا } [ الطور : 13 ] ، أي : دفعاً . وليس الأمر كما ذكره ؛ لأنه لو كان من الدفع والمنع ، لكان حقه أن يشدد العين ، لا الدال كما شددت في قوله : { يَدُعُّ ٱلْيَتِيمَ } ، فإذا شددت الدال دون العين ، ثبت أن اشتقاقه ليس من " الدع " ، ولكنه من " الادعاء " ؛ إذ الدال هي المشددة ؛ فتأويله - والله أعلم - : { هَـٰذَا ٱلَّذِي كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ } ، أي : هذا الوقت الذي كنتم تكذبون رسول الله صلى الله عليه وسلم وتدعون عليه أنه كاذب في الإخبار . وجائز أن يكون قوله : { تَدَّعُونَ } ، أي : تَدْعُون ، وقد يستعمل الإدعاء مكان الدعوة ؛ كما يقال : ذكر واذَّكر ، وخبر واختبر . وقوله - عز وجل - : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ ٱللَّهُ وَمَن مَّعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَن يُجِيرُ ٱلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } . ففي هذه الآية دلالة أن في حكمة الله مشيئة المغفرة والعقاب لمن ارتكب غير الكفر من الزلات ، وإيجاب العقاب على من اعتقد الكفر والتزمه ، وأن ليس في الحكمة عفو مثله من العقوبة ؛ لأنه قال : { أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ ٱللَّهُ وَمَن مَّعِيَ أَوْ رَحِمَنَا } فأثبت فيه خيار الإهلاك ومشيئة الرحمة والمغفرة ، ومعلوم بأنه يهلك ومن معه أو يرحم عندما يبتلى بالزلات ؛ وكذلك قال : { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [ النساء : 48 ] ؛ فجعل لنفسه مشيئة المغفرة لمن توقَّى الكفر ، وحكم بإيجاب العقاب على من أشرك به . والذي يدل على أن الحكمة توجب ما ذكرنا : أن الكفر لنفسه قبيح لا يحتمل الإطلاق ولا رفع الحرمة ؛ لما فيه من السفه ؛ لأن من رضي بشتم نفسه فهو سفيه ، فعلى ذلك عقوبته لا تحتمل في الحكمة رفعها والعفو عنها . أو لما كان الكفر لا يحتمل الإباحة ورفع العقوبة ، والإفضال بالمغفرة يخرج مخرج الإباحة لذلك - لم يجز القول فيه بالمغفرة والعفو ، وسائر المآثم جائز رفع الحرمة عنها . ولأن الكافر اختار عداوة الله تعالى وكفران نعمه ، والذي اعتقد الإسلام اختار ولايته ، والحكمة توجب التفرقة بين العدو والولي ، وفي العفو عنه وإكرامه والإحسان إليه تسوية بين الولي والعدو ، و [ في ] ذلك تضييع الحكمة ؛ ولأن الكافر عند نفسه أنه على الحق والصواب وغيره على الباطل والضلال ، وأنه غير مستوجب للعذاب ؛ يدل على ذلك حكايته عن أهل الكفر : { وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَـرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } [ سبأ : 35 ] ، فالله تعالى إذا أنعم عليه بالعفو وتطول عليه بالإحسان ، لم يقع ذلك عنده موقع التجاوز والغفران ، بل يقع عنده أنه إنما أحسن إليه ؛ لاستحقاقه الإحسان ، وعفا عنه لما سبق منه ما يستوجب به العقاب ، وإذا كان كذلك أدى ذلك إلى تضييع الإحسان وتضييع العفو وإبطال النعمة ؛ فثبت أن الحكمة لا توجب العفو عن الكافر ؛ إذ يحصل بذلك العفو في غير موضعه ، وأما أهل الإسلام الذين سبقت منهم الأجرام فقد علموا أن الذي سبق منهم زلات ومآثم ، وأن العذاب قد لزمهم ، وأنهم مستوجبون للعقاب ، فإذا عفا عنهم ، علموا أنهم إنما نالوا العفو بفضل الله تعالى فيقع الإحسان موقعه . ولأن من أحسن إلى عدوه في الشاهد ، ولم يقصد بإحسانه إليه قصد استدراجه والمكر به ، فهو إنما يحسن إليه لما يخاف ناحيته ، ويخرج فعله هذا مخرج التذلل له ، فلو لم يؤاخذ الله الكافر بما تعاطى من الكفر ، بل أحسن إليه من غير تبعة عليه ، خرج عفوه وإحسانه إليه مخرج الخوف وإظهار التذلل ، والله تعالى يجل عن هذين الوصفين ؛ فثبت أن الحكمة توجب القول بالتخليد وتمنع القول بالعفو ، والله أعلم . و [ في ] قوله : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ ٱللَّهُ وَمَن مَّعِيَ أَوْ رَحِمَنَا } دلالة أن لله تعالى أن يعذب على الصغائر ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع من سبقه من الأنبياء - عليهم السلام - قد عصموا عن ارتكاب الكبائر ؛ فلا يجوز أن يرتكبوا الكبائر فيهلكوا لأجلها ؛ فثبت أنهم لو أهلكوا لأهلكوا بالصغائر ، فلو لم يكن لله - تعالى - أن يعذب أهل الصغائر ، لصار هو بإهلاكه إياه بمن معه جائرا ظالما ، وجل الله تعالى عن الوصف بالجور ، وقال - تعالى - : { لِّيَغْفِرَ لَكَ ٱللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } [ الفتح : 2 ] ، ولو لم يكن لله - تعالى - أن يعذب على الصغائر أحداً ، لم يكن له على رسوله صلى الله عليه وسلم موضع الامتنان بما غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر . ثم الحق أن يقال : إن جميع الخوارج والمعتزلة لا يجوز أن يغفر الله تعالى لهم ؛ لارتكابهم الكبائر ، وإنما هذا الرجاء الذي ذكرنا لغيرهم من منتحلي الإسلام ؛ لأنهم يقولون : لا يجوز أن يغفر الله تعالى لأهل الكبائر ، ولا أن يتطول عليهم بالعفو ، بل حق أمثالهم أن يخلدوا في النار أبد الآبدين ، وإذا كان هذا هو الحكم فيهم ، فالله تعالى إن غفر لهم ومن عليهم بالعفو ، وقع عندهم أنه إنما عفا عنهم ؛ لأن الذين ارتكبوا من المآثم لم تكن كبائر بل كانت صغائر ؛ إذ لا يجوز المغفرة عن الكبائر ؛ فيحصل العفو في غير موضعه والإحسان في غير موقعه ، وأما غيرهم من منتحلي الإسلام فهم يرجون عفوه وسعة رحمته في كل آثامهم ، فإذا تفضل عليهم بالمغفرة وقع العفو عندهم موقعه ؛ فلا يكون فيه تضييع الإحسان ، تعالى الله عما يقول الظالمون علوّاً كبيرا . ثم [ قوله عز وجل ] : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ ٱللَّهُ وَمَن مَّعِيَ } . أي : قل إن أهلكني الله ومن معي بما سبق من الأجرام والزلات ، أو رحمنا بما سبق منا من الإيمان به والانقياد لأمره والخضوع لطاعته ، { فَمَن يُجِيرُ ٱلْكَافِرِينَ } أي : أي شيء يجير الكافرين من عذابه ، ولم يسبق منهم إلى ربهم حسنة يرحمون لأجلها ، ولا طاعة يستوجبون الغفران بها ؟ ! أو فمن يجيرهم من عذاب الله تعالى إن حل بهم ؟ ! فكأنه قيل له : [ قل لهم ] : هذا لأنهم كانوا يعبدون الأصنام ؛ رجاء أن تنصرهم من العذاب [ الأليم ] ، فيقول : لا تجيرهم تلك الأصنام من العذاب الأليم ، والله أعلم . وقوله - تعالى - : { قُلْ هُوَ ٱلرَّحْمَـٰنُ آمَنَّا بِهِ } . فجائز أن يكون معناه : أن الذي خلق الموت والحياة وخلق سبع سماوات طباقاً ، وجعل الأرض ذلولا ، ويعلم السر والجهر - هو الرحمن ؛ فيكون فيه إنباء أن خالق السماوات والأرض وخالق الموت والحياة وخالق أفعال العباد وأفعال الطير - هو الرحمن جل جلاله . وقوله - عز وجل - : { آمَنَّا بِهِ } أي : آمنا أنه خالق ما ذكرنا ، وأنه المتعالي - عن الأشباه والأمثال والبريء من كل العيوب . وجائز أن يكون هو اسماً من أسماء الله تعالى على ما نذكره في سورة الإخلاص ؛ فيكون هو والرحمن اسمين من أسمائه . وقوله : { وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا } . فجائز أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم خوفه المشركون بأنواع من المخاوف ، فقيل له : قل : عليه توكلنا ، أي : اعتمدنا عليه ؛ هو الذي يدفع عنا شركم وينصرنا عليكم . وقوله : { فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } . فجائز أن [ يكونوا نسبوه أيضاً ] إلى الضلال وادعوا أنهم على الهدى ولم ينظروا في آيات الله تعالى ليتيقنوا بها من المهتدي منهم ومن الضال ؟ فقال : { فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } إذا جاءكم بأس الله ، وذلك عند الموت أو في الآخرة . وقوله : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً } . فهذا صلة قوله : { أَمَّنْ هَـٰذَا ٱلَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ } [ الملك : 21 ] ، فيقول أيضاً : من الذي يأتيكم بماء معين إذا أصبح ماؤكم غوراً . والمعين : هو الماء الذي تقع عليه العين [ فيراه البصر ] ، والله أعلم .