Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 67, Ayat: 15-22)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - عز وجل - : { هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ ذَلُولاً فَٱمْشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا … } الآية . وإذا ذلل لكم الأرض ؛ لتمشوا في مناكبها ، وتأكلوا من رزقه ، فلا يجوز أن يكون خلقاً عبثا باطلا ، فلا بد من الرجوع إليه ، ليسألكم عما له خلق ، أوفيتم بالذي خلق له ، أو لم تفوا ؛ وذلك أن المرء في الشاهد إذا أعطى إنسانا مالا استعمله في جهة من الجهات ، فلا بد من أن يرجع إليه فيسأله هل استعمله في الذي أذن له فيه أم لا ؟ وإذا ثبت أنه لم يخلقها عبثا باطلا ، وإنما خلقت للمحنة ؛ فلا بد من أن ينشروا إليه ؛ ليخبروه عما بلاهم به وامتحنهم . ثم احتمل أن يكون هذا صلة قوله : { ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ } [ الملك : 2 ] ، وقوله : { ٱلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ طِبَاقاً } [ الملك : 3 ] فخلق تلك [ الأشياء ] كلها ؛ ليمتحن أهلها [ بها ] ، فعلى ذلك خلق الأرض ذلولا ليبلوكم بها . ويحتمل أن يكون هذا صلة قوله : { مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ ٱلرَّحْمَـٰنِ مِن تَفَاوُتٍ } [ الملك : 3 ] فأمر هناك بالنظر مرة بعد مرة هل ترى فيه تفاوتا أو فطورا ؛ ليتبين عنده إذا لم ير فيه تفاوتا ولا فطورا وحدانية الرب وقدرته وسلطانه وحكمته ، فأمرهم - أيضاً - بالمسير في الأرض والمشي في مناكبها وهي أطرافها - هل يرون فيها فطوراً أو تفاوتا ؟ فإذا لم يروا فيها شيئا من ذلك ، تقرر عندهم بجميع ما ذكرنا من الحكمة هناك ، فهو في قوله : { هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ ذَلُولاً } موجود ؛ ولأنه ذكرهم لطيف خلقه وتدبيره في خلق الأرض ، وما له على الخلق من [ عظيم النعمة ] في حقهم ، وهو أنه قدر لهم فيها أرزاقهم إلى حيث يمشون فيها ، وهيأ لهم الرزق هنالك ، ولا يحتمل أن يذلل لهم الأرض ؛ فيضربون فيها حيث شاءوا ويستخرجون منها أقواتهم أينما تصرفوا عبثا باطلا ، بل لا بد أن يستأديكم شكر ما أنعم عليكم به . وقوله - عز وجل - : { أَءَمِنتُمْ مَّن فِي ٱلسَّمَآءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ ٱلأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ } . هذه الآية في موضع المحاجة على منكري البعث ، فكأنه يقول - والله أعلم - : إذا أنكرتم البعث وقد عرفتم الفرق بين العدو والولي وبين المطيع والعاصي ، فكيف أمنتم عذابه في الدنيا أن ينزل بكم من فوق رءوسكم أو من تحت أرجلكم . أو قد عصيتموه وعاديتموه بتكذيبكم رسوله واختياركم عبادة غيره ، فكيف أمنتم نزول عذاب عليكم في حالتكم هذه ، وأنتم لا تقرون بالآخرة ؛ ليتأخر عنكم العذاب ؟ ! ثم قوله : { أَءَمِنتُمْ } أي : قد أمنتم . والثاني : أنكم كيف أمنتم عذاب الله تعالى وأنتم تنكرون البعث ؛ لتكون المحنة في الدنيا للجزاء في الآخرة ، وهم يرون المحنة في الدنيا للجزاء في الدنيا ؛ لأنهم كانوا يزعمون أن من وسع عليه في رزقه والنعيم في الدنيا فإنما وسع جزاء لعمله ، ومن ضيق عليه العيش فإنما ضيق عقوبة له بما أساء من عمله ، كما قال الله تعالى : { فَأَمَّا ٱلإِنسَانُ إِذَا مَا ٱبْتَلاَهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّيۤ أَكْرَمَنِ * وَأَمَّآ إِذَا مَا ٱبْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّيۤ أَهَانَنِ } [ الفجر : 15 - 16 ] ، فكانوا يعدون التضييق والتوسيع في الدنيا جزاء لصنيعهم ، وكانوا يقرون بالمحنة في الدنيا ، والمحنة تكون من الرجاء والخوف ، وقد رجوتم إنزال الرزق عليكم من السماء ، ورجوتم أن يخرج لكم من الأرض ما تتعيشون به وترزقون منه ؛ فكيف لا تحذرون نزول العذاب عليكم من السماء أو إتيانه من الأرض ، كما رجوتم النفع منهما جميعاً ؟ ! والثالث : أنكم إذا أنكرتم الرسول وجحدتموه ، وقد انتهى إليكم حال من سبقكم من مكذبي الرسل ، كيف عذبوا واستؤصلوا : فمنهم من أهلك بإمطار الحجارة [ عليه من السماء ] ، ومنهم من أهلك بالخسف بالأرض ، فكيف أمنتم أنتم أن ينزل عليكم ما نزل بهم وقد أوجدتم أنتم وتعاطيتم ما تعاطاه الذين أهلكوا من التكذيب ؟ ! ثم [ قوله ] : { مَّن فِي ٱلسَّمَآءِ } أراد نفسه تعالى ، أخبر أنه إله السماء ، لا على تثبيت أنه في الأرض سواه وعلى النفي أن يكون هو إله الأرض ، بل هو في السماء إله وفي الأرض إله ؛ وهو كقوله تعالى : { مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ } [ المجادلة : 7 ] ليس فيه أن النجوى إذا كانت بين اثنين فهو لا يكون ثالثهم . وجائز أن يكون قوله : { أَءَمِنتُمْ مَّن فِي ٱلسَّمَآءِ } أي : أأمنتم [ من ] في السماء ملكه وسلطانه ، ولم تروا أحدا انتهى ملكه إلى السماء ، فكيف تأمنون ممن بلغ ملكه السماء [ ؛ فكيف تأمنون مكره وتعادونه ، وأنتم لا تجترئون على [ معاداة ] ملك من [ ملوك الأرض ] الذي لا يجاوز ملكه الأرض ؛ هيبة منه وخوفاً من سلطانه ، فكيف تأمنون عذاب من بلغ ملكه ما ذكرنا ؟ ! وقوله - عز وجل - : { فَإِذَا هِيَ تَمُورُ } . قيل : تهوي في الأرض أبداً إلى أسفل السافلين . وقيل : تمور بأهلها في قعرها على ما كانت من قبل تمور على ظهرها قبل أن توتد بالجبال ، والحاصب : الحجارة . وقوله - عز وجل - : { فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ } . أي : ستعلمون حال نذري الذين أنذروكم بالعذاب أنهم كانوا محقين فيه ولم يكونوا كاذبين كما زعمتم . أو ستعلمون ما أنذركم به إذا وقع العذاب . وقوله : { وَلَقَدْ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نكِيرِ } . يذكرهم حال من تقدمهم من المكذبين وما حل بهم من النكير ؛ ليرتدعوا عن التكذيب ؛ فلا يحل بهم ما حل بأولئك . ثم قوله : { فَكَيْفَ كَانَ نكِيرِ } أي : كيف كان إنكاري عليهم أليس وجدوه شديدا وحقّاً ؟ ! وقوله - عز وجل - : { أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى ٱلطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَـٰفَّـٰتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ ٱلرَّحْمَـٰنُ } . قيل : صافات بأجنحتها لا يتحرك منها شيء ، ويقبضن فما يمسكهن إلا الله تعالى في الحالين جميعاً ، أعني : القبض والبسط . وقال في آية أخرى : { أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَىٰ ٱلطَّيْرِ مُسَخَّرَٰتٍ فِي جَوِّ ٱلسَّمَآءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ ٱللَّهُ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لأََيٰتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [ النحل : 79 ] ، [ والجو : هو الهواء . ثم قوله : { لأََيٰتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } ] ، أي : لآيات للمؤمنين على الكفرة ، وهكذا شأن الآيات إنما جعلت آيات للمؤمنين والأولياء على الكفرة والأعداء ؛ لأن الكفرة تصل إليهم الآيات على ألسن الرسل والأنبياء والأولياء ، فجعلت الآيات آيات للمؤمنين ؛ ليحتجوا بها على أهل الكفر . ثم الهواء ليس بمكان يمسك ما عليه من الأشياء مثل السماء والأرض فيما أنشئتا على حد يمسكان الأشياء ويقر عليهما الخلائق ، وإذا كان كذلك [ فإن الله ] تعالى بلطفه أمسك الطير وقت طيرانها ووقت قبضها في الهواء ، ومن قدر على إمساك الطير مع ثقله وتقريره في مكان لا تقر فيه الأشياء ، لقادر على ما يشاء . ثم في هذه الآية إنباء : أن لله تعالى في أفعال الطير صنعا وتدبيرا على ما يشاء ؛ لأن الفعل الذي يوجد من الطائر الطيران إذا طار والوقوف إذا قبض ، ثم أضاف فعل الإمساك ؛ وكل ذلك إلى نفسه . وذكر عن جعفر بن حرب في قوله : { مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ ٱللَّهُ } [ النحل : 79 ] : أن الإمساك كناية عن التعليم وعبارة عنه ؛ لأنه قد يعبر بالإمساك عن التعليم ؛ يقول الرجل لآخر فيما يعلم الرماية : أمسكت على يده حتى رمى ، فيريد به ، أي : توليت تعليمه الرماية ، فقوله : { مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ ٱلرَّحْمَـٰنُ } أي : ما يعلم إمساكهن وقت الطيران إلا الله تعالى ؛ وكذلك وقت القبض . والجواب عن هذا أن القائل يقول : ( أمسكت على يده حتى رمَى ) ، إنما يستجيز إطلاق هذا اللفظ من نفسه إذا وجد منه فعل الإمساك في وقت ما يهم الرامي بالرمي ، وأما إذا لم يوجد منه في ذلك الوقت فعل الإمساك ، لم يستقم أن يقال : أمسكت على يده ، وإن كان هو الذي علمه الرمي ؛ ألا ترى أن من علم آخر الخياطة حتى اهتدى الخياطة إذا خاط ثوباً ، لم يستجز أستاذه أن يقول : أنا الذي خطته ، وإن كان هو الذي علمه الخياطة ؛ وكذلك من بنى بناء ، لم يستقم من أستاذه أن يضيف فعل البناء إلى نفسه ؛ فيقول : أنا الذي بنيته ، ويريد به : أنا الذي علمته ، وإذا لم يستقم هذا ، بطل أن يضاف فعل الإمساك إلى الله تعالى ، ولا فعل له في ذلك سوى التعليم ، فلو كانت الإضافة إليه من حيث التعليم ، لجاز أن ينسب إليه فعل الخياطة وفعل البناء والحياكة ، فيقال : خائط وبانٍ وحائك ؛ لأنه هو الذي علم ، وإذا بطل أن ينسب إليه ما ذكرنا من الأفعال وإن كان هو الذي علم الخلق ، بطل أن ينسب إليه فعل الإمساك من حيث التعليم ، والله الموفق . واحتج جعفر بن حرب - أيضا - في نفي الفعل عن الله تعالى ، فقال : إن الله - تعالى - لم يقل : ما خلق طيرانهن إلا الله ولا خلق القبض إلا الله ، وإنما قال : { مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ ٱلرَّحْمَـٰنُ } ، فثبت أنه لا صنع له في الإمساك ، وبان أن الذي أضيف إليه من الإمساك هو على الوجه الذي ذكرنا . فالجواب عن هذا : أن الأمة فهمت من قوله : { مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ ٱلرَّحْمَـٰنُ } ما يفهم من قوله : ما خلق طيرانهن وقبضهن إلا الله ؛ إذ هو يقتضي ما يقتضيه ذكر الخلق ، وإذا كان كذلك ، فلا فرق بين أن يضيف الخلق نفسه ، وبين أن يضيف فعل الإمساك ، ثم لو ذكر الخلق مكان الإمساك ، أمكن [ جعفرا أن يتأول ] في الخلق ما تأول في الإمساك ، فيقول : معنى قوله : خلق طيرانهن ، أي : علم طيرانهن ، وقوَّاهن على الأسباب التي بها تطير ، فلا يتهيأ لله تعالى على قوله أن يثبت لخلقه و [ لا ] يقرر عندهم خلق شيء من الأشياء . ثم الأصل أن الآيات المذكورة في القرآن إنما ذكرت لإثبات أوجه خمسة : أحدها : في تثبيت القدرة على البعث ، وهي لا تثبت القدرة ، ولا توجب القول بالبعث على قول المعتزلة ؛ وذلك أن الله تعالى احتج في تثبيت القدرة على البعث بقدرته على ابتداء الخلق ، فقال : { أَوَلَمْ يَرَ ٱلإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ } [ يس : 77 ] ، وقال : { وَهُوَ ٱلَّذِي يَبْدَؤُاْ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [ الروم : 27 ] ، [ فاحتج بأمر الابتداء ] على تثبيت القدرة على الإعادة ، [ وليس فيه ما يثبت القدرة على الإعادة ] عندهم ؛ لأنهم نفوا خلق الأفعال عن الله تعالى مع إقرارهم أن الله تعالى هو الذي ابتدأ الخلائق ، وهو الذي أنشأهم ، ولم يكن في إثبات القدرة على خلق الأعيان إثبات قدرة منه على خلق الأفعال ، وإن كان خلق الأفعال دون خلق الأنفس ، فكيف ذكر قدرته على ابتداء الخلق على تثبيت القدرة على الإعادة ، وإن كان أمر الإعادة أيسر من الابتداء ، مع أن آثار الخلق في أفعال العباد وإثبات التدبير فيها أوجد منه في أمر البعث ؛ وذلك أنك تجد من الأفعال أفعالا هي مؤذية لأهلها متعبة مؤلمة ، ومعلوم بأن قصد أربابها أن يتلذذوا بها ويتمتعوا بها ؛ فثبت أن لغيرهم فيها تدبيرا وصنعا حتى صارت كذلك ؛ ولأنه يوجد في أفعالهم أحوال لا تبلغها أوهامهم ولا تقدرها عقولهم ؛ لأن الفعل يأخذ من الجو والمكان والوقت ما لا تقدره الأوهام ولا تبلغه العقول ؛ فثبت أن لغيره فيه صنعا وتدبيرا ؛ ولأن فعله يخرج على قبيح وحسن ، لا [ يبلغ علم ] فاعله أنه يبلغ في الحسن والقبح ذلك المبلغ ، وينتهي في الحسن مبلغا لو أراد أن يخرج على ذلك الحد في المرة الثانية لم يخرج كذلك ، فكل ما ذكرنا يبين أن جميع أفعالهم على ما هي عليه ليست لهم ، ثم مع ذلك أنكروا أن تكون الأفعال من جهة الخلق لله تعالى ، ولم يظهر شيء من أمارات البعث ولا وجد فيه التدبير ؛ فصارت الكفرة في إنكارهم أمر البعث أعذر من المعتزلة في إنكارهم خلق الأفعال ، ولم يوجب القول بالقدرة على ابتداء الخلق قولا بالقدرة على إنشاء البعث والإعادة بعد الإفناء ؛ فثبت أن ليس في الآيات التي جعلها الله تعالى دلالة إثبات البعث على قولهم . والوجه الثاني : في تثبيت الوحدانية ، وجعل دليل وحدانيته توحده بخلق الأشياء وتفرده بإنشائها ؛ ألا ترى إلى قوله - تعالى - : { أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ } [ الرعد : 16 ] ، وقال : { وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَـهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَـٰهٍ بِمَا خَلَقَ } [ المؤمنون : 91 ] ، وعلى قول المعتزلة : هو غير متوحد بخلق الأشياء ، بل أكثر خلق الأشياء كان بالعباد لا بالله تعالى ، وإذا لم يوجد منه التوحد والتفرد بخلق الأشياء ارتفع وجه الاستدلال من هذا الوجه على معرفة الصانع ووحدانيته ، وإذا كان كذلك ، لم تثبت وحدانية الله تعالى - على قولهم - من الوجه الذي جعله دليل الإثبات . والوجه الثالث : وهو أن الآيات ذكرت في إثبات حكمة الله تعالى ، وجعل دليل حكمته خلق السماوات والأرضين وغيرهما من الأشياء ، ونحن إنما عرفنا خلق السماوات والأرضين بما شاهدناهما مجتمعين ، والاجتماع حادث فيهما ، وما لا ينفك عن الحادث فهو حادث ، والحادث لا بد له من محدث ، ولولا ذلك لم نعرفه ولا يثبت لنا خلقهما ، وعلى قول المعتزلة : الجمع والتفريق لا يدل على الخلق ؛ لأن كل من له القوة يقدر على جمع الأشياء وتفريقها ، والاجتماع والتفريق فعل الجامع والمفرق ؛ لقولهم بالمتوالدات ، فمن استحكمت قوته أمكنه جميع الأشياء ؛ لقوته ومن ضعفت قوته جَمَعَ على قدر ما ينتهي إليه قوته ، وإذا كان كذلك لم يتبين عند الخلائق على قولهم : إن الله - تعالى - هو الذي خلق السماوات والأرضين ؛ إذ خلقهما لا يعرف إلا من الوجه الذي ذكرنا ؛ وذلك مما [ لا ] يجوز تحققه إلا بالله تعالى . وجائز أن يكون الله تعالى أقدر ملكا من ملائكته وقواه على خلق السماوات والأرض ، وإذا كان كذلك لم يظهر بما ذكرنا : أن الله تعالى هو الخالق لهما ؛ فبطل أن يكون في خلق السماوات والأرضين وفي خلق سائر الأشياء - دلالة حكمته وقدرته ووحدانيته ، وقد جعل الله تعالى خلقهما دلالة لهذه الأوجه التي ذكرناها . والثاني : أنه جعل إتقان الأشياء وإحكامها علما لحكمته ، وقد يقع الإتقان والإحكام للأشياء لا به ، ثم لم يجعل الله - تعالى - لشيء مما أتقن وأحكم علما يتميز من بين ما أتقنه غيره وأحكمه ، فصار الإتقان والإحكام غير دال على حكمته ، بل صار دليلا على عجزه وضعفه ، حيث لم يتهيأ له تمييز ما صار به متقنا وما بغيره صار كذلك ؛ ولأن الحكمة هي وضع الشيء في موضعه ويتبين ما له مما ليس له ، ومن قولهم : إن الله تعالى أعطى الكافر قوة الإيمان ، ولم يبق في خزائنه ما جعل سببا يتوصل به إلى الإيمان إلا وقد أعطاه ، مع علمه أنه لا يؤمن به ، وهذا من أعظم الجهل وأبين السفه في الشاهد ؛ لأن المرء إذا قام بسقي أرض وعمارتها بالكِرَاب والبنيان وألقى البذر فيها مع علمه أنها لا تنبت شيئاً عد ذلك منه سفهاً وجهلاً ، والسفيه لا يصلح أن يكون إلها حكيماً ، وقال - تعالى - : { ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } [ الملك : 2 ] ، وعلى قول المعتزلة : قد خلق غيره الحياة والموت جميعاً ؛ لأن القتيل ميت بالاتفاق ، ثم لا يجعل أهل الاعتزال لله - تعالى - في موته صنعاً ، ويزعمون أنه مات قبل أجله ، فإذا قدر غيره على الإماتة ، ويقدر غيره أيضاً على الإحياء بالأسباب ؛ لأنه يسقي الأرض والزرع ويكون في سقيه إحياؤها ، فلم يتفرد هو بخلق الموت ولا بالحياة على قولهم ، بل شركه غيره في خلق الأشياء ، فيبطل امتداحه - على قولهم - نفسه بأنه خالق الأشياء . والوجه الرابع : أنه احتج بعلمه بأفعال الخلق بخلقه تلك الأفعال ، وذلك قوله : { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ } [ الملك : 14 ] ، وهم قد نفوا الخلق عن الأفعال ، وإذا انتفى لم يقع له بها علم ؛ فصارت الآيات التي فيها إثبات العلم لا تثبت علما على قولهم ، ويكون فيه كذب في الخبر ، تعالى الله عن ذلك . والوجه الخامس : أنه سمى نفسه : محسنا منعما ، وأثبت إحسانه وإنعامه بآيات احتج بها على خلقه ، وما من نعمة أنعم بها على العباد إلا وقد كانوا لها مستوجبين على الله تعالى ؛ فيصير الله تعالى بإعطائهم ذلك قاضيا ما عليه من الحق بالنعمة ، ومن قضى آخر حقّاً كان [ عليه ] لم يصر به منعما مفضلا ، وإنما صار قاضي حق ، فصارت الآيات التي فيها إثبات النعم غير مثبتة على قولهم ، تعالى الله عما يقول الظالمون علوّاً كبيراً . وقوله - عز وجل - : { إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ } . أي : بكل شيء لَطُفَ أو جل أو استتر أو ظهر أو اختلط بغيره أو تميز ، فهو بصير يبلغه إلى أجله الذي ضرب له ، ويأتيه بالرزق الذي قدر له . أو بصير بأفعال الخلق ما كان وما يكون ؛ لأنه ذكر على أثر ذكر الأفعال ، وهو قوله : { وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ ٱجْهَرُواْ بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ * أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ } [ الملك : 13 - 14 ] . ثم في قوله : { إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ } ترهيب وترغيب وإلزام المراقبة والتيقظ والتبصر ؛ وكذلك في قوله : أنه { عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ } [ هود : 57 ] و { بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [ البقرة : 29 ] ؛ لأن من علم أن عليه حافظا ورقيبا يعلم بكل شيء يتعاطاه فهو لا يتعاطى إلا المحمود من الفعال والمرضي منها . وقوله - عز وجل - : { أَمَّنْ هَـٰذَا ٱلَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُمْ مِّن دُونِ ٱلرَّحْمَـٰنِ } . فهذا صلة قوله : { أَءَمِنتُمْ مَّن فِي ٱلسَّمَآءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ ٱلأَرْضَ } ، وقوله : { أَمْ أَمِنتُمْ مِّن فِي ٱلسَّمَآءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً } ، ثم قال : { أَمَّنْ هَـٰذَا ٱلَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُمْ مِّن دُونِ ٱلرَّحْمَـٰنِ } إذا خسف بكم الأرض وأرسل عليكم حاصبا من السماء . وجائز أن يكون على التقديم والتأخير ؛ فيكون معناه : أمن هذا الذي هو جند لكم من دون الرحمن ينصركم من عذاب الله إن حل بكم . أو يكون قوله : { أَمَّنْ هَـٰذَا ٱلَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ } يدفع عنكم العذاب من دون الله إذا حل بكم . وجائز أن يكون أريد بالجند : آلهتهم التي كانوا يعبدونها من دون الله تعالى ، فكانوا يعبدونها لتنصرهم ويعزوا بها ؛ قال الله - تعالى - : { وَٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً } [ مريم : 81 ] ، وقال : { وَٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ آلِهَةً لَّعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ } [ يس : 74 ] ، ثم هم قد علموا أنها لا تقوم بنصرهم ولا تدفع الذل عنهم فيعزوا بها ؛ لأنهم كانوا يفزعون إلى الله تعالى عندما يحل [ بهم الشدائد ] والذل ، كما قال - تعالى - : { وَإِذَا مَسَّ ٱلإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ } [ الزمر : 8 ] ، ويتركون الفزع إلى آلهتهم ؛ لعلمهم أنها لا تعزهم ولا تنصرهم ، فذكرهم في حالة الأمن ما قد عرفوا وقوعه في حالة الخوف ؛ لينقلعوا عن عبادة الأصنام ويقبلوا على عبادة رب الأنام ؛ ليدفع عنهم الشدائد والأهوال والآلام إذا حلت بهم من خاص أو عام ، ويقوم بعزهم إذا لحقهم الذل . وقوله - عز وجل - : { إِنِ ٱلْكَافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ } . أي : اغتروا في عبادتهم آلهتهم ؛ لتقوم بنصرهم وعزهم ، مع ما علموا أنها لا تدفع عنهم شدة ولا تحصل لهم عزّاً . وقوله - عز وجل - : { إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ } . هم كانوا يرجون رزقهم من السماء والأرض ، فيقول : من [ ذا ] الذي يرزقكم إن لم يرسل عليكم من السماء مطرا ، ولا زلل لكم الأرض للنبات . وقد علموا أيضاً أن لا رازق لهم غير الله تعالى ؛ لأنهم كانوا يفزعون إليه بالسؤال للرزق عندما يبلون بالقحط والجدوبة ، فذكرهم في حال السعة ما له عليهم من عظيم النعمة في توسيع الرزق عليهم ؛ ليشكروه ولا يكفروه . وقوله - عز وجل - : { بَل لَّجُّواْ فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ } . فالعاتي : هو المارد الشديد السفه ؛ فكأنه يقول : لجوا وعتوا في قبول الحق ، وتمادوا في طغيانهم ، ولم يتذكروا ولم يراقبوا الله تعالى ، ولم يشكروا له ، بل بعدوا عن قبول ذلك كله ، فقوله : { أَمَّنْ هَـٰذَا ٱلَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ } ، وقوله : { أَمَّنْ هَـٰذَا ٱلَّذِي يَرْزُقُكُمْ } يخرج على أوجه ثلاثة : أحدها : على التخويف والتهويل . والثاني : على التنبيه والتذكير ، وتسفيه أحلامهم . والثالث : على البشارة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالنصر له [ وبإجابة دعوته ] على أهل الكفر . فوجه التنبيه والتذكير وتسفيه الأحلام ما ذكرنا : أنهم قوم كانوا يعبدون الأصنام لتنصرهم وتعزهم في الدنيا ، وليبتغوا به الرزق من عندها ؛ إذ هم كانوا لا يؤمنون بالبعث ؛ ليطلبوا بعبادتها عين الآخرة والنصر فيها ، وإنما كانوا يطمعون ذلك منها في الدنيا ، ثم هم في الدنيا كانوا إذا نزلت بهم الشدة والفزع تضرعوا إلى الله تعالى ، كما قال : { وَإِذَا مَسَّكُمُ ٱلْضُّرُّ فِي ٱلْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ } [ الإسراء : 67 ] ، ولم يكونوا يفزعون إلى أصنامهم ؛ فكيف اتخذوها جندا ينصرهم عند النوائب ، وقد أحاط علمهم أنها لا تنصرهم ولا تغني عنهم من عذاب الله شيئاً ؟ ! فيكون فيه تسفيه أحلامهم ، وتنبيه من عذاب الله ؛ ليمنعهم ذلك عن عبادة غير الله تعالى ، ويدعوهم إلى عبادة من يملك دفع الشدائد عنهم إذا حلت بهم . وأما وجه التخويف ، فهو : أنه يجوز أن يكون قيل لهم هذا عندما ابتلوا بالشدائد وضيق العيش ، فيقول لهم : استنصروا من آلهتكم واسألوا الرزق من عندها ، هل يملكون لكم رزقا أو يدفعون عنكم ذلا ، وهل يقوون على نصركم ؟ ! وجائز أن يكون فيه بشارة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالنصر له [ وبإجابة دعوته ] وقد وجد النصر له ؛ لأنه غلب عليهم يوم فتح مكة ، ولم يتهيأ لأهلها أن ينتصروا ، بل غلبوا وقهروا وفاز رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغلبة والقهر ومن كان معه حتى استكانوا ولانوا وتضرعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك حتى دعا لهم ، وابتلوا أيضاً بالقحط والسنين ؛ بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رفع الله عنهم القحط . وقوله - عز وجل - : { أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً عَلَىٰ وَجْهِهِ أَهْدَىٰ أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } . ففي هذه الآية تذكير وتنبيه وتخويف وتهويل وتعريف حال هي على خلاف ما هم عليها في الحال . ثم ذكر الصراط في الذي يمشي [ سويّاً ، ولم يذكر الصراط في الذي يمشي ] مكبّاً ، فهو على الإضمار كأنه يقول : أفمن يمشي مكبّاً على غير الصراط أهدى ، أمن يمشي سويّاً على [ صراط مستقيم ] ؟ ! فيكون هذا تذكيراً وتنبيهاً وتسفيهاً لأحلامهم ؛ لأن الذين آثروا الإيمان وسلكوا طريقه ، فإنما سلكوا بالحجج والبراهين ، والذين آثروا الكفر آثروه من غير حجة ، بل حيرتهم وسفههم هما اللذان دعواهم إلى التزام الكفر [ والتدين به ] ، ومن آثر [ الحيرة والعمى ] على الهدى والرشاد فهو سفيه . وجائز أن يكون قوله : { أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً عَلَىٰ وَجْهِهِ أَهْدَىٰ } أي : أهدى طريقا ، أم الذي يمشي سويا على صراط مستقيم ، وحق هذا الكلام أن يقال : بل الذي يمشي على صراط مستقيم هو الأهدى من الذي يختار الطريق المعوج الزائغ عن الرشاد ، فيكون في الوجه الأول معنى التخويف والتذكير والتنبيه جميعاً ، وفي الوجه الثاني تذكير وتنبيه . وقولنا بأن فيه تعريف حَالٍ خلاف الحال التي هم عليها : أن كل واحد من الفريقين - أعني به : أهل الإسلام وأهل الكفر - يزعم أنهم على الهدى ، والفريق الآخر على الضلال ، وإذا اتفقت الدعاوي على تضليل أحد الفريقين ، ثم لا بد أن يكون جزاء الضال غير جزاء المهتدي ، وجزاء الولي غير جزاء العدو . ثم الدنيا تمر على الفريقين على جهة واحدة ؛ فلا بد من تثبيت دار أخرى ، والقول بها للجزاء ، فيكون فيما ذكروا إيجاب القول بالبعث والإقرار به ؛ فهذا الذي ذكرنا هو يعرفهما خلاف الحالة التي هم عليها ؛ ولأن الذي يمشي مكبا على غير الطريق هو الأعمى الذي لا يبصر ، [ و ] المقعد الذي لا يقوى على المشي ، والذي يمشي سويا على صراط مستقيم هو الذي ليست به زمانة ولا به عمى يمنعه عن الصراط ؛ فيكون قوله : { يَمْشِي مُكِبّاً عَلَىٰ وَجْهِهِ } هو الأعمى ، والذي يمشي سويا على صراط مستقيم هو السميع البصير ؛ فيكون معناه ما قال في سورة هود : { مَثَلُ ٱلْفَرِيقَيْنِ كَٱلأَعْمَىٰ وَٱلأَصَمِّ وَٱلْبَصِيرِ وَٱلسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً } [ هود : 24 ] .