Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 68, Ayat: 1-4)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

[ قوله - عز وجل - : { نۤ } ] ، اختلف في تأويل نون : فمنهم من يقول : هو الحوت ؛ كقوله : { وَذَا ٱلنُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً } [ الأنبياء : 87 ] فنسبه إلى النون وهو الحوت ؛ ألا ترى إلى قوله : { فَٱلْتَقَمَهُ ٱلْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ } [ الصافات : 142 ] . ومنهم من يقول : " النون " هو الدواة ، فتأويل هذا على جهة الموافقة ؛ لأنه ذكر القلم وما يسطر به ، فلم يبق [ هاهنا سوى ] الدواة ؛ فحمله على الدواة ؛ لأجل الموافقة ، لا أن يكون فيه معنى يدل على إرادة الدواة منه ، والله أعلم . ومنهم من يقول : هي فارسية معربة " أنون كن " ، أي : اصنع ما شئت ، يقال هذا عند الإياس : أن المرء إذا أيس عن آخر قال له : اصنع ما شئت إذن . ومنهم من يقول : هو من الحروف المقطعة ، ويشبه أن يكون كذلك ؛ لأنه ذكر القلم وما يسطر على أثره ، وإنما يكتب بالقلم ويسطر الحروف المعجمة ، فأخبر - تعالى - عظيم صنيعه ولطفه بإنشائه هذه الحروف وخلقه القلم وما يسطر عليه ؛ حيث يوصل بها إلى معرفة الحكمة وكل ما يكون به المصلحة من الدين والدنيا ، بل جعل قوام الدين والدنيا بها . ومنهم من يجعل كل حرف من الحروف المعجمة اسما من أسماء الله تعالى ، أو افتتاح اسم من أسمائه ، وكذلك يروى عن بعض الصحابة - رضي الله عنهم - أنه قال ذلك . فإن كان النون اسما من أسماء الله تعالى ، فالقسم به قسم بالله تعالى ، وإن كان على غيره من الوجوه التي ذكرناها ، فالقسم جار بما به قوام سائر الخلق ومصالحهم ، وقد ذكرنا أن القسم لتأكيد ما يقصد من الأمر ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ } . فموضع القسم هذا أقسم بما ذكر { مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ } : [ ما أنت بما أنعم الله عليك بمجنون ؛ وهذا ] يحتمل أوجهاً : أحدها : أي : نعمة ربك حفظتك عن الجنون ؛ فنفى عنه الجنون بقوله : ما أنت بما أنعم الله عليك بمجنون ، وهذا كما يقال : ما أنت بحمد الله بمجنون ، يراد به نفي الجنون . والثاني : أنك لست ممن خدعته النعمة واغتر بها حتى شغلته عن العمل بما له وعليه ، والمجنون في النعمة هو الذي غرته النعم وألهته عن التزود للمعاد . أو ما أنت بغافل عن نعمة [ السيد ، وهو الرب - جل جلاله - ] بل تذكرها وتشكر الله تعالى عليها ، والمجنون من غفل عن النعمة وأعرض عن شكرها . ثم الكفرة كانوا ينسبونه إلى الجنون : إما لما كان يغشى ؛ لثقل الوحي ، فكانوا ينسبونه لهذا ، وإما لما رأوا أنه خاطر بنفسه وروحه حيث خالف أهل الأرض ، وفيها الجبابرة والفراعنة ، وانتصب لمعاداتهم ، ومن قام بخلاف من لا طاقة له معه وانتصب لمعاداته ، فذلك منه في الشاهد جنون ، فأجاب الله تعالى للفريقين جميعاً : أما للأول بقوله : { قُلْ إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ } [ سبأ : 46 ] . أي : كيف تنسبونه إلى الجنون وعند الإفاقة من تلك الغشية يأتيهم بحكمة وموعظة يعجز حكماء الجن والإنس عن إتيان مثله ، وليس ذلك من علم المجانين ، ولا مما يمكن تحصيله في حال الجنون ؛ لأن المجنون إذا أفاق من غشيته ، تكلم بكلام لا يعبأ بمثله ، ولا يكترث له . وأجاب لمن كان نسبه إلى الجنون ؛ لما خاطر بروحه ونفسه بقوله : { إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } [ سبأ : 46 ] ، فأخبر أن الذي حمله على المخاطرة بروحه وجسده هو أنه مأمور بالتبليغ والنذارة ، فهو يقوم بما أمر ، وإن أدى ذلك إلى إتلاف النفس ، ثم - بحمد الله تعالى - لم يتهيأ للفراعنة أن يقتلوه ولا تمكنوا من المكر به ، بل أظفره الله تعالى عليهم حتى قتلهم ورد كيدهم في نحورهم ؛ فصار الوجه الذي استدلوا به على جنونه آية رسالته ودلالة نبوته ، والله الهادي . وقوله - عز وجل - : { وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ } . قال الحسن : أي : لا يمن عليك المنة التي تؤذيك ، ولكن يمن عليك منة رحمة وكرامة ، والمن المؤذي كما ذكر - عز وجل - : { لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَٰتِكُم بِٱلْمَنِّ وَٱلأَذَىٰ } [ البقرة : 264 ] ، فليس لأحد عليك منة تؤذيك . وقال بعضهم : { غَيْرَ مَمْنُونٍ } أي : غير مقطوع ، أي : إن أجرك غير مقدر بالأعمال حتى يجري بقدر الأعمال ، فإذا انقطعت الأعمال انقطع الأجر وانقرض ، بل يتتابع عليك ويدر ، يقال في الكلام : مننت الحبل ، أي : قطعته . وقال بعضهم : { غَيْرَ مَمْنُونٍ } أي : غير محسوب ، أي : لا نحسب عليك النعم ؛ فتفنى بفناء الحساب . وقوله - عز وجل - : { وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ } . خلقه العظيم : هو القرآن ، ومعناه ما أدبه القرآن ؛ وذلك كقوله : { خُذِ ٱلْعَفْوَ وَأْمُرْ بِٱلْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْجَاهِلِينَ } [ الأعراف : 199 ] ؛ وكقوله : { ٱدْفَعْ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ٱلسَّيِّئَةَ } [ المؤمنون : 96 ] ؛ وكقوله : { وَٱخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ } [ الحجر : 88 ] ، فأخذه بالعفو وأمره بالعرف ، وإعراضه عن الجاهلين ، ودفعه السيئة بالتي هي أحسن ، وخفضه الجناح للمؤمنين - من أعظم الخُلُق . وتخلق بهذا كله بما أدبه القرآن ، والله أعلم . وقال بعضهم : الخلق العظيم : هو الإسلام ، والإسلام هو الاستسلام والانقياد لأمر الله تعالى ، وقد استسلم لذلك ، وسلم الناس من لسانه ويده ، ومن كل أنواع الأذى ، وذلك من أعظم الخلق . والأصل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كلف معاملة أعداء الله تعالى ومعاملة أولياء الله وأنصاره ، وكلف أن يرفض الدنيا ويتزهد فيها ، وكلف معاملة الصغير والكبير والعالم والجاهل والجن والإنس ، وكلف معاملة نسائه ، ومن كلف المعاملة مع هؤلاء ، لم يقم بها إلا بخلق عظيم ، ورزقه الله تعالى خلقاً عظيماً حتى احتمل المعاملة ، وقام معهم بحسن العشرة ، وحتى عوتب على عظيم خلقه بقوله : { عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } [ التوبة : 43 ] ، وبقوله : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ } [ التحريم : 1 ] ، وقال : { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ } [ الكهف : 6 ] وقال : { فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ } [ فاطر : 8 ] ، فالذي حمله على هذه المشقة والكلفة العظيمة حسن خلقه وفضل شفقته ورحمته ، فعظم خلقه أن خلقه جاوز قوى نفسه حتى ضعفت نفسه عن احتماله وكادت تهلك فيه ، وغيره من الخلائق تقصر أخلاقهم عن قوى أنفسهم ، وأنفسهم : تحتمل أضعاف ما هم عليه من الخلق وتضيق أخلاقهم عن ذلك ، فهذا الذي ذكرنا هو النهاية في العظم ، وبالله التوفيق .