Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 69, Ayat: 1-12)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - عز وجل - : { ٱلْحَاقَّةُ * مَا ٱلْحَآقَّةُ } . قد ذكرنا أن يوم القيامة سمي بأسماء النوازل التي تكون من البلايا والشدائد ؛ ليقع بها التخويف والتهويل ، وليس في تبيين وقته ولا في ذكر عينه ترهيب ولا ترغيب ، فذكر ذلك اليوم بالأسباب التي هي أسباب الزجر والردع ؛ فقوله : { ٱلْحَاقَّةُ } أي : حقت لكل عامل عمله ، وتحق لكل ذي حق حقه ، فإن كان من أهل النار استوجبها ، وإن كان من أهل الجنة دخلها . وقال بعضهم : الحاقة هي النار التي لا ترتفع أبداً ، وهو ما ينزل بالخلق من الجزاء وأنواع ما وعدوا به يوم القيامة . وقيل : هي الواجبة مثل قوله : { وَحَاقَ بِهِم } [ الزمر : 48 ] أي : وجب ، ونزل بهم . والأصل أن القيامة سميت بالأحوال التي يبتلى الخلق بها فيها ؛ من نحو : القارعة ، والواقعة ، والتناد ، والطامة ، والصاخة ، ونحو ذلك مما جاء في القرآن ، أخذت أسماؤها من أحوال ما يبتلى الخلق بها ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { مَا ٱلْحَآقَّةُ } . فهو على تعظيم أمر ذلك اليوم أيضاً ، كما يقال : فلان ما فلان ؛ إذا وصف بالغاية في القوة والسخاوة ، ونحوه . وقوله : { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا ٱلْحَاقَّةُ } ، أي فهو على تعظيم أمر ذلك اليوم ، أيضاً أو { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا ٱلْحَاقَّةُ } ، أي : لم تكن تدري ما ذلك اليوم ؟ فأدراك الله تعالى ؛ لأنه لم يكن خبر القيامة علمك ولا علم قومك ، لكن الله تعالى أطلعك عليه ؛ لأن قومه كانوا منكري البعث ولم يكن عندهم من خبره شيء ، وذلك أن الله تعالى لما ذكرهم من دلائل البعث إلى جهة تدركها العقول ، والحكمة من إحالة التسوية بين [ الفاجر والبر ] والمطيع والعاصي ، وأنه لا يجوز خروج كون هذا العالم عبثاً باطلاً ، والدلائل الأخرى التي لا يأتي عليها الإحصاء ، فلما لم يقنعهم ذلك ، ولم يتفكروا في خلق السماوات والأرض ، ولا اعتبروا بالآيات ، احتج عليهم بما لقي سلفهم من مكذبي البعث ومنكري الرسل ، حيث استأصلهم ، فلم يَبْق لهم سلف ، ولا خلَفَ عنهم خلف ؛ ليكون ذلك أبلغ في الإنذار وذلك قوله : { كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِٱلْقَارِعَةِ } ، ذكرهم بما حل بثمود وعاد وما أصابهم بتكذيبهم الرسل ، يقول : سيصيبكم بتكذيبكم محمداً صلى الله عليه وسلم فيما يخبركم من الأنباء عن الله تعالى كما يصيبهم ما أصاب ثمود وعاداً بتكذيبهم رسلهم ؛ لينتهوا عن تكذيبه . أو يخبرهم أن ثمود وعاداً كذبوا رسلهم حتى صاروا إلى الهلاك ، وندموا على ما سبق من تكذيبهم ، فستندمون أيضاً إن دمتم على تكذيبكم محمداً صلى الله عليه وسلم فيما يأتيكم من الأنباء بعد موتكم ، ثم ذكرهم نبأ عاد وثمود وإن كانوا مكذبين بتلك الأنباء ؛ لئلا يبقى لهم يوم القيامة حجة فيقولوا : { إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـٰذَا غَافِلِينَ } [ الأعراف : 172 ] ولأنهم لو بحثوا عن علم ذلك ، لكانت هذه الآيات والأنباء تحقق لهم ذلك ، فقد وقعت هذه الآيات موقع الحجاج ، لولا إغفالهم وإعراضهم عنها ، فانقطع عذرهم ، ولزمتهم الحجة وإن تركوا الإيمان بها . ثم قوله - عز وجل - : { ٱلْحَاقَّةُ * مَا ٱلْحَآقَّةُ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا ٱلْحَاقَّةُ * كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِٱلْقَارِعَةِ } ، وقوله : { ٱلْقَارِعَةُ * مَا ٱلْقَارِعَةُ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا ٱلْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ ٱلنَّاسُ كَٱلْفَرَاشِ ٱلْمَبْثُوثِ } [ القارعة : 1 - 4 ] يحتمل أن يكون هذا مخاطبة كل مكذب بالبعث لا مخاطبة الرسول ؛ كقوله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلإِنسَٰنُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ ٱلْكَرِيمِ } [ الانفطار : 6 ] إنه خطاب لمن يغتر بالدنيا لا لرسول الله صلى الله عليه وسلم . وجائز أن [ يكون ] يخاطب به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن صرف الخطاب إلى الرسول - عليه السلام - اقتضى معنى غير ما يقتضيه لو أريد بالخطاب المكذبون ، والأصل أن قول القائل : ( فلان ما فلان ) يوجب اجتذاب الأسماع ويستدعي السامع إلى البحث في الشاهد ؛ لأنه إنما يذكر فلاناً بهذا ؛ لأعجوبة فيه ، أو لعظم أمره ، فيستبحث عن ذلك ؛ ليوقف على تلك الأعجوبة التي فيه ، فإن كان الخطاب للمكذبين دعاهم ذلك إلى تعرف ما فيه من الأعجوبة والتعظيم ، وفي قوله : { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا ٱلْحَاقَّةُ } مبالغة في التعجب وإذا نظروا فيه وفهموه دعاهم ذلك إلى الإيمان به ، فصارت الآية في موضع الإغراء واجتذاب الأسماع . وإن كان الخطاب في رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأويله : أن المكذبين يؤذونه ويمكرون به فيتأذى بهم ، ويشتد ذلك عليه ، فذكر ما ينزل بهم من العذاب ويحق عليهم ؛ فيكون فيه بعض التسلي عما أصابه [ من ] الأذى من ناحيتهم ، أو ذكره أن العذاب يحق عليهم فلا يحزن بصنيعهم ، بل يحمله ذلك على الشفقة عليهم والرحمة لهم . وقيل : إن كان الخطاب في المكذبين ، ففيه تخويف لأهل مكة وتهويل أنهم إن كذبوا رسولهم صلى الله عليه وسلم فيما يخبرهم من أمر البعث ، نزل بهم من العذاب ما نزل بعاد وثمود بتكذيبهم الرسل ، وقد عرف أهل مكة ما نزل بأولئك . وإن كان الخطاب في رسول الله صلى الله عليه وسلم ففي ذكر نبأ عاد وثمود ما يدعوه إلى الصبر على أذاهم ، ويكون له بعض التسلي ؛ لأنه يخبر أنك لست بأول رسول كذب ، بل شركتك الرسل من قبل وابتلوا بالتكذيب ، ثم بين ما نزل بعاد وثمود بالتكذيب بالقارعة ، وهو قوله : { فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بِٱلطَّاغِيَةِ } ، والطاغية [ والعاتية ] والرابية يمكن أن يجعل هذا كله صفة للعذاب الذي نزل بهم . وجائز أن يكون صفة الأحوال التي سبقت منهم وما كانوا عليه ، فإن كان هذا صفة العذاب ، فالطغيان عبارة عن الشدة ، والطاغي : هو العاتي ، الشديد لا يراقب ولا يتقي ، فوصف العذاب الذي أرسله عليهم أنه لم يُبْقِ منهم أحداً ، بل استأصلهم وأهلكهم بجملتهم . وقيل : ذلك العذاب هو الصاعقة . وقيل : الصيحة ، وسمي : طاغية : ولم يقل : طاغي ؛ لهذا . وقيل : اشتق هذا الاسم للعذاب من أفعال من عذب به ليس أنها طاغية ، لكن أخذ اسمه عن فعل القوم ؛ كقوله تعالى : { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] ، وقال : { فَٱعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ } [ البقرة : 194 ] ، وإنما ذلك كله جزاء سيئاتهم واعتدائهم . وقيل : { بِٱلطَّاغِيَةِ } أي : بطغيانهم وذنوبهم الذي سلف منهم ؛ كقوله تعالى : { كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَآ } [ الشمس : 11 ] . ويحتمل أن يكون هذا صفة لأحوالهم التي كانوا عليها من شدة التمرد والعتوّ ومن طغيانهم التكذيب بالحاقة والقارعة ، ففيه تخويف لأهل مكة أن سيهلكهم الله - تعالى - إن لم ينتهوا عن التكذيب كما أهلك أولئك . وقوله - عز وجل - : { وَأَمَا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ } . قال الحسن : الريح الصرصر هي الصيحة ، وهي التي لها صوت . وقال بعضهم : هي [ الريح الباردة ] الشديدة البرد ؛ كقوله : { رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ … } الآية [ آل عمران : 117 ] ، والصر : البارد ، والصرصر المكرر منه ، فوصفها لدوامها وتكررها . وقوله - عز وجل - : { عَاتِيَةٍ } فتأويلها على ما ذكرنا في الطاغية . وذكر الكلبي وغيره : أنها سميت : عاتية ؛ لأنها عتت على الخزان فلم يطيقوها ، وهذا لا يستقيم ؛ لأنه لا يجوز أن يوكل الخزان على حفظها ، ثم لا يمكنون من الحفظ حتى تعتوا عليهم ، إلا أن يقال بأنهم لم يوكلوا بحفظها في ذلك الوقت ، فأما إذا وكلوا بحفظها ، ثم لا يُجعل لهم إلى حفظها سبيل ، فهذا مستحيل ، والله الموفق . وقوله - عز وجل - : { سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً } . قوله : { سَخَّرَهَا } قيل : أرسلها . وقيل : أدامها عليهم . وقيل : التسخير : التذليل ، أي : ذللها ؛ فصيّرها بحيث لا تمتنع عن المرور عليهم في الوجه الذي جعلها عليهم ، وأطاعته في الوجه الذي أرسلها ، وإنما أرسل الريح على أبدانهم خاصة ، لم تهلك شيئاً من مساكنهم ؛ كقوله : { تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأْصْبَحُواْ لاَ يُرَىٰ إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ } [ الأحقاف : 25 ] ، والريح إذا عملت على الأبدان ؛ فهي على البنيان أكثر ، لكن الله تعالى لم يأمرها بذلك ، والله أعلم . ثم قوله : { سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً } فيه تبيين أن الأيام لم تكن على عدد الليالي ، ولو كانا على عدد واحد ، لكان في ذكر أحد العددين ذكر العدد الآخر ؛ لأن تسمية الليالي تسمية للأيام ، وتسمية الأيام تسمية الليالي ؛ ألا ترى إلى قوله في قصة زكريا : { آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً } [ آل عمران : 41 ] ، وقال في موضع آخر : { ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً } [ مريم : 10 ] ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { حُسُوماً } ، قيل : متتابعة دائمة . وقيل : قطعاً ، [ قطعاً ] من الحسم ، يقال : حسمت الريح كل شيء مرت به حسماً ، أي : قطعته . وقيل : مشئومات حيث انقطعت بركتها عنهم . وقوله تعالى : { فَتَرَى ٱلْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَىٰ } . أي : أنك لو أدركتهم وشهدتهم وعاينتهم ، لرأيتهم صرعى . { كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } . وقال بعضهم : أي : ترى الأعضاء المتفرقة ، كل قطعة منها كأنها عجز نخلة ؛ إذ كانوا هم أعظم في أنفسهم من أعجاز النخل ، فيصرف تأويله إلى الأعضاء المتباينة . ثم ذكر النخل هاهنا بالتأنيث ، فقال : { أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } ، ووصف في سورة { ٱقْتَرَبَتِ } [ القمر : 1 ] بصفة التذكير فقال : { كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ } [ القمر : 20 ] ؛ لأن النخل يذكر ويؤنث ؛ كذا قاله الزجاج . وقيل : النخل يذكر على كل حال ، لكن قوله : { خَاوِيَةٍ } صفة الأعجاز لا صفة النخل ، والأعجاز جماعة ، والجماعة مؤنثة ، والنخل واحد فيذكر ، وليس كذلك ؛ لأن الخاوية صفة النخل ، ألا ترى عند الوصل يذكر بالخفض لا بالرفع . ولأن النخل اسم جمع ، يقال : نخلة ونخل ؛ كما يقال : شجرة وشجر ، وثمرة وثمر ، ونحو ذلك . وقوله - عز وجل - : { خَاوِيَةٍ } . قال بعضهم : أي : بالية . وقيل : الخاوية ، أي : ساقطة ؛ كقوله - تعالى - : { وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا } [ البقرة : 259 ] ، أي : ساقطة على قوائمها . وقيل : أي : خالية ، فوصفها بالخلاء لأنها أقلعت من أصلها حتى خلا ذلك المكان عنها ، وأعجاز النخل : أصوله . وقوله - عز وجل - : { فَهَلْ تَرَىٰ لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ } . فيه أنه لم يبق لهم نسل يذكرون بهم ، بل أهلكوا بأجمعهم ، وانقطع نسلهم ، وانقطع عنهم الذكر إلا بالسوء ، وإلا كان يرى لهم باقية ، ففيه أنهم استؤصلوا وعم العذاب الكبير والصغير ، يخوف أهل مكة بما يخبرهم عما فعل بأولئك ، وفيه إخبار أنهم عذبوا بعذاب لا رحمة فيه ، وهكذا سنة الله - تعالى - في مكذبي الرسل من قبل ، وجعل تعذيب هذه الأمة أن يجاهدوا ويقاتلوا ، فتعذيب هذه الأمة تعذيب فيه رحمة ؛ لأن الصغار منهم لا يقاتلون ، والنساء لا يقاتلن ، بل يسبين رجاء أن يسلمن ؛ فعلى هذا يخرج قوله : { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } [ الأنبياء : 107 ] ، والله أعلم . ويشبه أن يكون هذا جواب قولهم : إن محمداً صرور ، أي : ليس له ولد يُبقي نسله وذكره ، فأخبر - تعالى - أن كثرة الأولاد لا تغني من الله شيئاً ؛ إذ قد كانت لهم أهالٍ وأولاد فأهلكوا عن آخرهم ، وانقطع التناسل منهم ؛ ليعلموا [ أنه يبقى ذكر ] لمن أطاع الله - تعالى - ورسوله ، كان ثَمَّ أولاد ، أو لم يكن ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَجَآءَ فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ } . قرئ بكسر القاف وفتح الباء ، وقرئ بنصب القاف وجزم الباء . فتأويل القراءة الأولى : أي : جاء فرعون ومن معه من جنده وأتباعه ، أو من قبله : من كان من أهل القرى التي بغرب المصر ، وقد روي [ في الشاذ ] في بعض الحروف : { وجاء فرعون ومن دونه } . وجائز أن يكونوا من أتباع فرعون . وجائز ألا يكونوا . وتأويل القراءة الثانية : أي : جاء فرعون ومن كان متقدماً عليه من الأمم الماضية . وقوله - عز وجل - : { وَٱلْمُؤْتَفِكَاتُ } . قيل : قريات لوط ، ائتفكت على أهلها ، أي : انقلبت عليهم ؛ بما عصت رسلها . وقيل : المؤتفك : الذي يأتفك من الصدق إلى الكذب ، ومن الحق إلى الباطل ، ومن العدل إلى الجور ، فمن قرأه : { وَمَن قَبْلَهُ } بخفض القاف ، كان قوله : { وَجَآءَ فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ وَٱلْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ * فَعَصَوْاْ رَسُولَ رَبِّهِمْ } واقعا كله على العصيان لموسى - عليه السلام - والمراد من المؤتفكات : كل من ائتفك من الحق إلى الباطل ، دون أهل قريات لوط ؛ لأنهم كانوا قبل زمان موسى بكثير . ومن قرأه : { وَمَن قَبْلَهُ } بنصب القاف ، كان قوله : { فَعَصَوْاْ رَسُولَ رَبِّهِمْ } واقعاً على رسول [ كل فريق ] ، كأنه قال : عصى كل أمة رسولها ، وعلى هذا يجوز أن يكون المراد من المؤتفكات قوم لوط ، عليه السلام . ثم قوله : { بِالْخَاطِئَةِ } ، أي : بالخطايا والشرك . وذكر أبو معاذ عن مجاهد في تفسير الخاطئة الشرك والكفر ، وأنكر ذلك ، واحتج بأن الله - تعالى - لم يذكر من قوم لوط - عليه السلام - كفراً وشركاً في كتابه ، إنما ذكر [ ركونهم للفاحشة ] وبها أهلكوا ؛ إذ لم ينزعوا ولم يتوبوا . قال : ولو كانوا مشركين ، لم يقل لهم لوط : { قَالَ يٰقَوْمِ هَـٰؤُلاۤءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ } [ هود : 78 ] ، أراد بذلك الإنكاح والكافر لا يصح منه نكاح المسلمة . وليس كما زعم ، بل كانوا أهل شرك وكفر بالله تعالى ؛ ألا ترى إلى قوله فيما حكى عن قوم لوط من قولهم : { لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يٰلُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُخْرَجِينَ } [ الشعراء : 167 ] ، فإخراج الرسل من أماكنها من صنيع أهل الكفر . وقال في موضع آخر : { أَخْرِجُوۤاْ آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ } [ النمل : 56 ] فطابت أنفسهم بإخراج لوط - عليه السلام - من قراهم ، ومن فعل ذلك ، لم يشك في كفره . وقال في قصة لوط أيضاً : { فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ ٱلْمُسْلِمِينَ } [ الذاريات : 35 - 36 ] ، فثبت أنهم كانوا كفاراً . ثم لقائل أن يقول في قوله : { وَجَآءَ فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ وَٱلْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ * فَعَصَوْاْ رَسُولَ رَبِّهِمْ } أخبر أنه جاء فرعون إلى موسى وعصاه كيف ذكر مجيء فرعون إلى موسى ، ولم يوجد منه المجيء إلى الرسول ، بل الرسول هو الذي جاء فعصاه فرعون ، لا أن فرعون أتاه ، فاستقبله بالعصيان ؟ قيل : إن كل من أتى آخر وجاءه ، فقد أتاه الآخر ، ومن قرب إلى الآخر ، فقد قرب الآخر إليه ، لأن المجيء فعل مشترك ؛ لأنه اسم الالتقاء ، وإنما يقع الالتقاء بهما جميعاً ليس بأحدهما ؛ فلذلك استقام [ إضافة ] المجيء إلى فرعون ، وعلى هذا تأويل قوله تعالى : { وَأُزْلِفَتِ ٱلْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ } [ الشعراء : 90 ] ، أي : قربت للمتقين ، وأهلها هم الذي يقربون إليها في الحقيقة ، ولكنهم إذا قربوا إليها ، فقد قربت هي إليهم ، فأضيف إليها التقريب لهذا ؛ فعلى هذه العبارة يمكن أن يتأول قوله : { وَجَآءَ رَبُّكَ وَٱلْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً } [ الفجر : 22 ] ، وقوله - عز وجل - : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ ٱللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ ٱلْغَمَامِ } [ البقرة : 210 ] ، أي : أتاه الخلق ، لا أن يكون هو الذي يأتيهم ؛ لأنه قال : { وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ } [ النور : 64 ] ، وقال : { وَإِلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْمَصِيرُ } [ آل عمران : 28 ] ، { وَإِلَى ٱللَّهِ تُرْجَعُ ٱلأُمُورُ } [ البقرة : 210 ] ، فأخبر أن الخلق هم الذين يأتونه ، ويرجعون إليه ، ولكن نسب المجيء والإتيان إلى الله تعالى ؛ لأنهم إذا أتوه [ فكأنه قد ] أتاهم من الوجه الذي ذكرنا دون أن يكون فيه إثبات الانتقال في الله تعالى . والثاني : أن اسم المجيء وإن أطلق واستعمل [ في المجيء ] إلى مكان من مكان ، فقد يستعمل أيضاً في الموضع الذي ليس فيه حركة ولا انتقال ؛ قال الله تعالى : { وَقُلْ جَآءَ ٱلْحَقُّ } [ الإسراء : 81 ] ، ومعناه : ظهر الحق ، ليس أن الحق كان في موضع فانتقل عنه إلى غيره ؛ فأمكن أن يكون قوله : { وَجَآءَ فِرْعَوْنُ } أي : كذب بما أنزل على موسى ، عليه السلام . وجائز أن يكون قوله : { وَجَآءَ فِرْعَوْنُ } أي : جاء بالخاطئة ؛ فيكون المجيء مصروفاً إلى الخطايا ، وهذا التأويل أملك بظاهر الآية ؛ لأنه قال : { وَجَآءَ فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ وَٱلْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ } ، أي : جاءوا بالخطايا . وقوله - عز وجل - : { فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً } . أي : عالية ؛ حيث علت أبدانهم . وجائز أن يكون المراد منه : أن عقوبتهم ربت على الأخذ أي : [ زادت على الأخذ ] ؛ لأنها أخذت أبدانهم وأهلكتها ، ثم ردت أرواحهم إلى جهنم فتعرض عليها غدوّاً وعشيّاً ، فذلك هو الزيادة على الأخذ ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { إِنَّا لَمَّا طَغَا ٱلْمَآءُ حَمَلْنَاكُمْ } . قال بعضهم : أي : طغى على الخزان ؛ لأن الخُزَّان يطلقون القطر بالكيل والوزن والقدر المعلوم ، ثم ذكر في موضع آخر : { فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ ٱلسَّمَآءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ } [ القمر : 11 ] أي : منصب ؛ فيكون تأويله : أن الله - تعالى - لم يمكنهم من حفظ القطر في ذلك الوقت ؛ فطغى عليهم لهذا المعنى ، وإلا لو لزموا حفظه في ذلك الوقت ، لكان الماء لا يطغى عليهم ، على ما ذكرنا : أنه لا يجوز أن يؤمروا بحفظه ولا يملكون حفظه . وجائز أن يكون قوله : { طَغَا } ، أي : طغى على الذين أهلكوا من مكذبي نوح - عليه السلام - وقد وصفنا تأويل الطاغي ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { حَمَلْنَاكُمْ فِي ٱلْجَارِيَةِ } . قد ذكر أنه حملنا ، ولم نكن نحن يومئذ فنُحْمَل ، والخطاب للذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وإنما كان لأن بنجاة أولئك المحمولين نجاة ذريتهم ، وبهلاك أولئك فناء ذريتهم ؛ فكأنه قد حملهم بحمل أولئك ؛ لما حصلت لهم النجاة بحملهم . أو أضاف إليهم ؛ لأنه قدر كونهم من آبائهم ؛ فكانوا حملوا تقديراً ، وهو كقوله : { يَٰبَنِيۤ ءَادَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ } [ الأعراف : 26 ] ، ومعناه : أنزلنا عليكم ما قدرنا كون اللباس منه ، وهو المطر ، فإذا أنزل المطر الذي قدر كون اللباس منه ، فكأنه أنزل اللباس ، وقال - عز وجل - : { فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ } [ الحج : 5 ] ، ونحن لم نخلق من التراب ، ولكن لما قدر خلقنا من التراب الذي أصلنا منه فكأنا خلقنا منه ؛ فعلى ذلك وإن لم نكن محمولين في السفينة ، فقد حمل أصلنا ؛ لنكون [ نحن من ] ذلك الأصل ، فكأنا قد حملنا فيها ؛ إذ كنا في إرادة الله - تعالى - من الكائنين ، والله أعلم . أو ذكر ذلك منّة منه على الأبناء بصنيعه بالآباء ؛ ليعلم أن على الأبناء شكر ما أحسن إلى آبائهم وأجدادهم ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَآ } فوجه التذكرة فيه : أن أهل مكة أبوا إجابة الرسول ، وقالوا : { إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ ءَاثَارِهِم مُّقْتَدُونَ } [ الزخرف : 23 ] فذكرهم أنهم ، أولاد من حملوا مع نوح - عليه السلام - في السفينة ، وهم إنما استوجبوا النجاة ، وشرفوا في الدارين جميعاً باتباعهم الرسل ، فما لكم لا تتبعونهم في تصديق الرسل دون أن تتبعوا المكذبين للرسل ، أو يذكرهم كذبهم في قولهم : { إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ } [ الزخرف : 22 ] ، بل قد وجدتم آباءكم على خلاف ما أنتم عليه ، وقد تعلمون أن آباءكم هم الذين اتبعوا نوحاً فنجوا ، وهم المؤمنون دون الكفرة . ووجه آخر : أنه ذكرهم أحوال المكذبين ، وإلى ماذا آل أمرهم من الغرق والهلاك ؛ فيكون فيه تخويف من كذب من أهل مكة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فصارت تلك الجارية وهي السفينة موعظة وتذكرة تذكرهم عواقب المصدقين بالرسل والمكذبين لهم . أو ذكرهم عظيم نعمه على آبائهم الذين حملوا في السفينة ؛ ليستأدي منهم شكر ذلك . وقال بعضهم : كم من سفينة قد هلكت منذ ذلك الوقت وهي قائمة في موضع كذا عبرة وتذكرة . ثم التذكرة تخرج على وجهين : أحدهما : أن يراد بها الآية والعبرة ؛ أي : جعلنا لكم ذلك ؛ لتعتبروا ، وتكون آية لكم على وحدانية الله - تعالى - وقدرته ؛ كقوله : { فأَنْجَيْناهُ وأَصْحَابَ ٱلسَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ } [ العنكبوت : 15 ] . والثاني : أي : جعلنا تلك الأنباء تذكرة لكم ؛ أي : جعلناها قرآنا تقرءونها وتذكرونها إلى آخر الأبد ؛ فتشكرون الله - تعالى - على ما صنع إليكم ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - { وَتَعِيَهَآ أُذُنٌ وَاعِيَةٌ } يقال : وعى الشيء : إذا حفظه ، وأوعاه : إذا حفظه بإناء أو غيره ؛ أي : تحفظها أذن واعية ؛ بمعنى : حافظة ؛ فأضاف الوعي والحفظ إلى الأذن ، والأذن لا تعي ؛ بل تسمع ، ثم يعيه القلب ، ولكن نسب الوعي [ إلى ] الأذن ، لأنه يوصل إلى الوعي من جهة الأذن ؛ إذ بالسمع يوعى ، والسمع من عمل الأذن ، ثم يقع المسموع فيما فيه يُوعى ، وهو القلب ؛ فنسب الوعي إلى السمع ؛ لما يتطرق به إلى الوعي ، كما ذكرنا من إضافة اللباس إلى ما منه قدر اللباس ، وهو المطر ، وأضيف خلقنا إلى التراب ؛ لأن أصل ما منه قدر خلقنا هو التراب . وجائز أن يكون الله - تعالى - يجعل للقلوب آذاناً بها تعي ، وأبصاراً بها تبصر ؛ فيضيف الوعي إلى آذان القلوب ، ليس إلى آذان الرءوس ، والله أعلم . وقيل : { أُذُنٌ وَاعِيَةٌ } أي : عقلت عن الله تعالى ، وانتفعت بما سمعت من كتابه ، وهي أذن المؤمن ، فأما أذن الكافر ؛ فإنها تسمع وتقذف ولا تعي ؛ لما لم يحصل لهم الانتفاع به ؛ ألا ترى أنه وصف آذانهم بالصمم ؛ لما لم ينتفعوا بالمسموع ، وكذلك قال : { فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ } [ آل عمران : 187 ] جعل تركهم الانتفاع به نبذاً ؛ فعلى ذلك جعل الانتفاع به وعياً ، وكذلك المتعارف في الخلق أنهم إذا أرادوا الانتفاع بعلم أو شيء ، اجتهدوا في وعيهما وحفظهما .